Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صعود مسرح البانتومايم السوري وسقوطه أمام الرقابة

تجارب مهمة انطلقت في الستينيات وأسست مفهوما جديدا للعرض المسرحي وحققت جماليات الصمت التعبيري

مشهد من عروض مسرح البانتومايم في دمشق (ملف الفرقة)

ملخص

عرف مسرح البانتومايم في سوريا وتحديداً في مدينة دمشق وعلى مسارحها، نهضة في مرحلة الستينيات. وقام بها مسرحيون درسوا هذا الفن في الغرب. لكن الرقابة أنهكت المخرجين والممثلين في هذا الحقل المسرحي الصامت، حتى تراجع، ثم جاءت الحرب لتضع نهايته.

يعرّف قاموس مصطلحات المسرح "المايم" في أنه كلمة يونانية معناها "يحاكي"، وحرفياً يعني "محاكاة"، أما أصل كلمة "بانتومايم" فيحيطها الغموض، ويقال إنها مشتقة من الكلمة اليونانية: "بانتوميموس" وتعني "من يقلد كل شيء". وهي مقسّمة إلى مقطعين: "بان" وتعني "كل" و"تو" وتعني "هم" و"مايم" وتعني "يقلّد"، وتصبح في مجموعها: "كلهم يقلّد". وكلمة "مايم" غيّرت معناها عبر الزمن، ففي بداياتها كانت عبارة عن دراما صامتة تسخر من أخطاء المجتمع المعاصر، ثم تطورت لتشمل كل أنواع الهزل والتهريج والهجاء. وقد استقر المايم في تأكيده وظيفة الهجاء لشخصيات نمطية عدة من مثل شخصيات التاجر والقاضي ورجل البوليس.

وعرف المسرح السوري هذا النوع من الأداء منذ ستينيات القرن الفائت، ولكن قلما قدّمت العروض السورية مسرح "البانتومايم". فهذا الفن الصعب يعتمد لغة المحاكاة والإيماءة لإيصال أفكاره وقصصه للجمهور. وعلى امتداد أكثر من نصف قرن يمكن ذكر أسماء لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ممن عملوا في المسرح الصامت في سورية. لعل رائدهم كان الفنان عمر حجو (1931- 2015) الذي باءت كل محاولاته لتأسيس مسرح للإيماء بالفشل، فالرقيب كان بالمرصاد لتجاربه، ويطالب بمشاهدة النصوص قبل عرضها، ويشطب المشاهد السياسية التي لا تتوافق مع توجهات السلطة. الأمر الذي دفع عمر حجو إلى التملص من مقص الرقيب باحثاً عن شكل جديد. وبما أن النص هو ما كانت الرقابة تملي شروطها عليه، وتحذف منه ما لا يتوافق مع رؤيتها، اتجه حجو نحو مسرح من غير كلام أو نص.

أول مسرح

هنا كانت ولادة أول مسرح بانتومايم في سورية، وأشهر ما قدمه عمر حجو في هذا المجال مسرحية صامتة بعنوان "النصر للشعوب"، التي ذاع صيتها وقُدمت على مدرج جامعة القاهرة عام 1959. لكن الرقابة لاحقت الفرقة مجدداً، فأدرك حجو أن المسرح الصامت أكثر خطورة من المسرح الناطق بكثير، إذ كانت الرقابة تطلب منه تقديم شرح تفصيلي لكل حركة أو إيماءة يقوم بها على الخشبة، حتى لو كانت هذه الإيماءات لا تتعلق بمضمون ما يعرضه العمل المسرحي، مما دفع حجو أن يوقف عمله في مسرح المايم، ويعود إلى تأسيس فرقة جديدة أطلق عليها "مسرح الشوك".

كان ذلك في ستينيات القرن الماضي، وقبل أن يتمكن رياض عصمت (1947- 2020) من تأسيس "مركز إيماء دمشق" عام 1986، بعد دروس تلقاها في مركز الإيماء في لندن على يد عبقري الإيماء البريطاني آدم داريوس (1930-2017)، ليحقق الكاتب والناقد السوري الراحل بعدها أول عرض إيمائي احترافي جماعي في البلاد من تأليفه وإخراجه، وجاء بعنوان "برج الحمام الأخير"، وكان من بطولة الفنانة ندى الحمصي، التي تابعت تجربتها مع عصمت في المسرح الصامت في عرض آخر جاء بعنوان "الاختيار".

واصلت ندى الحمصي تجربتها في المسرح الصامت مع الفنان محمد قارصلي (1950-2019) في عروض إيمائية كثيرة ضمن فرقة "موزاييك" للمسرح الصامت. وكان من عروض الثنائي قارصلي والحمصي في هذا المجال عروض عدة لعل أبرزها "فجر وغروب" و"فتاة تدعى ياسمين" و"سعده"، إضافةً لعرضي "لقاء" و"امرأة نساء". وكلها كانت من تأليف وإخراج الدكتور محمد قارصلي.

وعن هذه التجربة تتحدث الفنانة ندى الحمصي لـ "اندبندنت عربية: "في مركز الإيماء في دمشق، كان المتدربون مجموعة من خريجي المعهد المسرحي، وهم سوزان الصالح وغسان مسعود وماهر صليبي وأنا. تدرّبنا حينها في منزل الفنان ماهر صليبي في دورة تدريبية مع المخرج رياض عصمت الذي علّمنا المبادئ الأساسية للإيماء الإيهامي الفرنسي وروتينه التدريبي. فتعلّمنا منه مفصلة الأجزاء، والنقطة الثابتة، والنبضة، وتوسيع الحركة، والاقتصاد في الحركة، والنظر إلى الجمهور، والخطوات الإيمائية، والشد والدفع، والمشي في الماء، إضافةً لتعملنا السقوط من علِّ، وصعود الأدراج ونزولها، وتحديد الأسطح الثابتة كالجدار والعمود، والطعن بالسيف، وحمل الحقائب، وشد الحبل، وما إلى ذلك من تكنيك روتيني. ثم قمنا بعد ذلك بتقديم عرض بعنوان "برج الحمام الجديد" كتحية من "مركز إيماء دمشق" إلى عميد الإيماء الفرنسي جان لوكوك(1921 - 1999) ".

تجارب متواصلة

وحقق من ثم الفنان عماد عطواني عرضه الصامت "أسود وأبيض" عام 1987 كأول عروض فرقة "إيماء" رسمية تأسست في المسرح القومي. وقدمت عرضها في مهرجان دمشق على مسرح القباني وسط إقبال جماهيري لافت، وكان العرض من بطولة كل من سمير حسين وهيثم قاسم وعماد عطواني، واشتمل "أبيض أسود" على لوحات سياسية واجتماعية كوميدية ناقدة وظف عطواني فيها إيماءات الوجه من خلال لوحات عدة كان أبرزها: "الجريدة" و"المغسلة" و"صياد السمك" و"حوار جسدين".

وعن هذه التجربة يتحدث الممثل والمخرج الفلسطيني سمير حسين فيقول: "أذكر بحنين وشغف كبيرين تلك التجربة مع الفنان عماد عطواني، والذي وجّهنا من خلالها نقداً قاسياً للسلطات، وجسّدنا من خلالها انتهاكات المجتمع الشرقي ضد النساء، ولكن للأسف لم نستمر بعدها، ولم نتلقَ أي دعم يذكر سوى من الجمهور الذي حضرنا بكثافة طيلة أيام العرض، فطوت السنون تجربتنا التي وُصِفت نقدياً وقتها بالاستثنائية والجريئة فنياً وسياسياً".

في التسعينيات، قام محمد قارصلي بتصوير عمل سينمائي بعنوان "كاريكا فيزيون" جمع بين فن الكاريكاتير والتلفزيون، وهو متوافر للمشاهدة على قناة الفيديو العالمي "يوتيوب"، وقُدِّم في هذا العمل عدد من اللوحات بتكنيك الإيماء، وشارك ببطولته كل من ندى الحمصي وسامر عمران، وياسر عبد اللطيف وماجدة نقولا، وآنا تشومبيليك، ومعتز ملاطية لي، وحازم عودة، وحقق له الموسيقا المؤلف العراقي رعد خلف، فيما قام الفنان جمال سليمان بقراءة المقدمة له. وكانت اللوحات بعنوان "الرسام" و "لعبة الكراسي الموسيقية".

وبشأن فن الإيماء وتدريسه في الأكاديميات السورية يقول المخرج سامر عمران في حديث مع "اندبندنت عربية": "لم يعرف المعهد العالي للفنون المسرحية في منهاجه مادة اسمها فن الإيماء. لكن مع الوقت تبين أنه كان هناك خبراء روس وفرنسيون يجرون ورش تدريبية مع الطلاب على فن البانتومايم بين الحين والآخر، أما التجارب التي أُنجزت في هذا المجال فكانت نوعاً من فنون الحركة. وبما أن فن الإيماء واحد من الاختصاصات التي درستها في بولونيا، أقنعت إدارة المعهد في دمشق عام 1999 بإدراج فن البانتومايم التقليدي في منهاج طلاب قسم التمثيل. والتي اعتمدتُ فيها على مدرستين رئيسيتين هما مدرستا مارسيل مارسو (1923-2007) وإيتيان دكرو (1898-1991)".

ويضيف أستاذ مادة الإيماء في المعهد المسرحي في دمشق: "شخصياً تعلمتُ فن الإيماء على يدي معلمي الفنان البولوني هنريك توماشفسكي (1919-2001) الذي مزج الدراما الصامتة مع رقص الباليه، وقد أنجز عروضاً ثورية في هذا السياق من مثل: "جلجامش" و"هاملت" و"المعطف". وهو من وضع منهاجاً في فن الإيماء التقليدي، الذي نقلته لطلابي مركّزاً على عناصر النبض والتضاد ومفهوم الفراغ في فن الإيماء، فكنتُ أول من أدرج هذا الاختصاص في المعهد. وقد أنجزنا مشروعاً مع الطلاب في مسرح المايم عام 2000 كان بعنوان "صمت"، ليتم بعد ذلك تكريس مادة البانتومايم رسمياً في الأكاديمية الدمشقية، لكنني عندما حاولت نقل المايم إلى المسارح السورية كما هي الحال في عروض المسرح الصامت التي يقدمها الفنان فائق حميصي في لبنان، أو ما يحققه المخرج سعيد سلامة في فلسطين، باءت محاولاتي كلها بالفشل في إيجاد تمويل لعروض أو تأسيس تجمع فني له، ولم نلقَ آذاناً صاغية من القائمين على الثقافة السورية".

غياب العروض

غابت عروض المسرح الصامت في سورية حتى عام 2004 عندما قام الفنان زهير العُمر بتحقيق عرضه الإيمائي بعنوان "غفوة"، وكان من بطولة كل من مازن منى، ورأفت الزاقوت، ومجد نعيم، وكامل نجمة، ووائل معوض، وجمال سلوم، واستبدلت العديد من العروض السورية الصامتة القناع (الماسك) بالمكياج اللوني لتشبه وجوه البهاليل في السيرك، من مثل عرض "نشاز" لرأفت الزاقوت الذي قدمه عام 2006 على مسرح الحمراء في دمشق، فاستبدل الوجه البشري للممثل بقناعه الأبيض، مما أضفى على أداء الممثلين بعداً تغريبياً، وأسهم في تحفيز الممثلين على الابتكار، واعتمادهم المبالغة الفنية ذاتها التي يعتمدها مهرج السيرك، ولكن مع حسن توظيفها مسرحياً.

اختفى مسرح البانتومايم السوري في سنوات الحرب حتى عام 2020 حين قدم الفنان محمد زكية عرضه الإيمائي تحت عنوان "استاند". التجربة التي أشرفت عليها مديرة المسرح القومي الفنانة سهير برهوم، بدت محاولة طموحة لإعادة التفكير جديّاً بمسرح إيمائي في البلاد، ومغامرة لإحياء لحظة تلقٍ شبه منقرضة عند غالبية جمهور اعتاد متابعة العروض الناطقة. هكذا جاء "استاند" نتيجة لورشة عمل أدارها "زكية" على مدار شهرين مع ثمانية من المؤدين الهواة، خارجاً بنصٍ من إخراجه، وتمثيل كلٍ من مريانا حداد وفيصل سعدون ومادونا حنا وعبير بيطار وفراس سلوم ووسام صبح وحسام تكلة وبثينة ياسين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تميزت عروض البانتومايم السورية بحلول بصرية إخراجية، لا سيما تقنية الضوء الأزرق التي عملت على إظهار قفازات الممثلين وأحذيتهم كاحتمالات حركية مضاءة وسط السواد المسرحي، والذي هو لون اللباس الموحد للمجموعة. ولم تخلُ هذه العروض من توظيف أكسسوارات لترميز دلالة الشخصية اجتماعياً، من مثل الطربوش والمنديل والمريول لصبي المقهى، إضافةً لتجريد الوجه البشري ومن ثم إعادة تشكيله رمزياً بكل ما تستطيع حركة الجسد الإيمائية أن تكرسه، مما أضفى بعداً رمزياً ومفارقة انتقادية ساخرة على عكس الحبكات في المسرح الدرامي. ولقد جاءت في هذه العروض على هيئة هجاء محبب لواقع مستعاد على الخشبة بكل علاقاته الاجتماعية ودلالاتها.

وتضمنت عروض مسرح المايم في سورية تنويعاً إيقاعياً لافتاً واكبته موسيقى حية، زاوج بينها وبين مؤثرات صوتية، لطالما اعتمدت عليها هذه النوعية من العروض، كأصوات الأشياء والأشخاص والحوادث، والقفشات المضحكة، فعلى صعيد الحِرفة كان واضحاً أن عروض البانتومايم السورية ركّزت على الحبكات البسيطة، والصراع الكاريكاتوري والإمتاع البصري، أما على صعيد التجريد فقد اتكأت العروض الصامتة على الصور والرموز والشخصيات والأصوات الرمزية.

من جهةٍ أُخرى، تغلّبت عروض مسرح البانتومايم في سورية على صعوبات تقديم مسرحية إيحائية متكاملة، لعل أبرزها كان في جعل إيماءات الممثلين قادرة على التعبير عن الأشياء المتخيّلة وحجمها، وذلك عبر حركات اليدين والذراعين، وبدرجة أقل بالقدمين والساقين، إذ يحتاج المؤدي في هذا النوع من العروض إلى مشاعر ميكروسكوبية (مجهرية) للإيحاء بالحجم والوزن ودرجة مقاومة وحرارة الأشياء، إضافةً إلى استنفار الخيال للإيحاء بالمساحة والارتفاع والحركة. من دون أن يتخلى المؤدي عن التشويق والتلقائية في الانتقال من حركة إلى حركة، ومن شخصية إلى أخرى.

احتلت عروض الإيماء السورية مكاناً وسطاً بين الرقص والتمثيل، محاولةً التوفيق بين مناخين على الخشبة، حالها في ذلك حال شتى عروض المايم، لكن في المقترح السوري سنجد هنّات الاقتباس من لوحات عالمية مشهورة، مع تطعيمها بأجواء محلية، ربما كمحاولة لاجتراح خصوصية فنية، أو بصمة إبداعية ظلت عصية على صُناع العرض المحلي، لما يتطلب هذا الأمر من مراكمة في التجارب، واعتراف بالمسرح الإيمائي كضرورة في الريبرتوار السوري المعاصر.   

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة