ملخص
80 دقيقة كانت كافية ليجول فيها الفنان غنام غنام بجمهوره الدمشقي بين مدن رام الله والناصرة مروراً بحيفا وعكا ووصولاً إلى أزقة ترشيحا القديمة، في مسرحيته "بأم عيني" التي قدمه على مسرح فواز الساجر (المعهد العالي للفنون المسرحية).
يستكمل المسرحي الفلسطيني غنام غنام في مسرحيته "بأم عيني" سيرة حافلة من تجاربه في مسرح الحكواتي، وكان شكل منذ ثمانينيات القرن الماضي ما يشبه بياناً لأصول الفرجة بتأسيسه فرقته "موال"، فنبش في عدد من مشهديات ومسارح الحلقة والسامر والجلسة والسهرة والمشخصاتي والراوي الشعبي، ليستقي منها جميعها أسلوباً خاصاً بتجربة اعتمدت على تقنيات المسرح الذاتي، فلم يتبع تصنيفاً تراثياً بقدر ما حاول الانتصار لمسرح المؤلف والعبور بكتابة وأداء العرض المسرحي من صيغة أدبية إلى مواجهة مفتوحة مع الجمهور.
استقى صاحب "آخر منامات الوهراني" عنوان عرضه "بأم عيني" من اسم كتاب بالعنوان ذاته للمحامية الإسرائيلية فيلتسيا لانغر (1930- 2018)، وفي هذا الكتاب الصادر عام 1974 عن "مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية"، روت المحامية الإسرائيلية ما شاهدته بأم العين لعدد من حالات تعذيب المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، إذ كان التعذيب يقود كثيراً منهم إلى الجنون أو العاهات الدائمة، ودونت مرافعاتها في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين في المحاكم الإسرائيلية مما دفعها عام 1990 إلى تمزيق جوازها الإسرائيلي والعودة إلى وطنها الأم ألمانيا، بعد أن قالت "لم أعد أستطيع أن ألعب دور ورقة التوت التي تغطي عورة هذا النظام".خدمة ال
ومن هنا بدأ غنام عرضه كممثل وحيد وأوحد على الخشبة. ومن دون مقدمات شرع في كسر الجليد مع جمهوره الشامي. وأتى ذلك على هيئة تمرين صوت كثيراً ما اعتاد طلاب التمثيل على أدائه في الأكاديميات المسرحية كنوع من التسخين لحبالهم الصوتية قبل وقوفهم على الخشبة، ومرة تلو مرة كان غنام يطلب من المتفرجين أن يتبعوا إشارات يديه في الانطلاق من طبقة منخفضة في الصوت إلى طبقة عالية، فعالية جداً. وفي المرات الأولى تردد بعضهم في تنفيذ تمرين الصوت ليتداعى بعدها الجميع إلى التماهي مع رغبات ضيفهم، وصولاً إلى طلب غنام من الحضور بترديد كلمة أخي، ليردفها بمطلع من قصيدة فلسطين "أخي جاوز الظالمون المدى" لشاعرها المصري علي محمود طه (1901- 1949) وألحان محمد عبدالوهاب.
مشاركة الجمهور
مشاركة الجمهور في الغناء على مدى زمن العرض ستكون لازمة من لوازم الأداء، لكن ستكون محسوبة لجهة تقطيع السردية التي قدمها مؤلف ومخرج ومؤدي "بأم عيني" عن قصة تهريبه عام 2017 إلى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. وبدأت الفكرة عندما كان يقوم ابن قرية كفر عانا بإعطاء دورة تدريبية على مسرح الحكواتي في رام الله بطلب من وزارة التربية الفلسطينية. ويذكر غنام غنام أحداثاً مشوقة من تلك الرحلة التي خاضها للقاء ابنتيه وحفيديه في مدينة الناصرة، وما أحاط بهذه المجازفة من أخطار على حاجزي التفتيش الإسرائيليين في قلنديا وحزمة، وكيف تمكن سمير (اسم مستعار) أحد أبناء أعمامه بالشراكة مع سيدة تدعى عبلة (اسم مستعار) من تهريبه إلى الداخل الفلسطيني بعد أعوام على آخر مرة التقى فيها ابنتيه اللتين لم يستطع حضور زفافهما بسبب قوانين الاحتلال.
وهكذا يضعنا غنام في قلب القصة الشخصية من دون أن ينغمس تماماً في دور الراوي، بل استعار هنا فنون السرد لينجز ما يشبه مزاوجة بين الراوي والروائي، مرة في تصميم حكاية شخصية عن مجازفته بدخوله تهريباً إلى الأراضي المحتلة، ومرات في أخذ دور الراوي المشارك في القصة، فهو في مكان ما من العرض شخصية من الشخصيات التي يذكرها في مراحل الرحلة، وهو أيضاً معلق على الحدث ومراقب له أيضاً من دون أن يمنعه ذلك من استعارة ملامح لشخصيات عرضه أو وقفات معينة لتجسيدها.
وهذا الدمج اللافت بين الذاتي والموضوعي أخذنا عبر تقنية تعدد الأصوات إلى شوارع الناصرة، وإلى أغنية "سنرجع يوماً إلى حينا" للأخوين رحباني، مثلما أخذنا إلى "الأرض بتتكلم عربي" لشاعرها فؤاد حداد وملحنها سيد مكاوي. وبدا كل شيء معداً مسبقاً حتى ما يظنه المتفرج ارتجالاً كان الفنان الفلسطيني جعله يبدو كذلك. وبطريقة سرد أنجزها غنام باستخدام عامل التشويق والخوف من الاعتقال أحياناً، وأحياناً أخرى عبر مونتاج تخيلي للراوي المتورط في سرد أحداث رحلته الشخصية والذوبان فيها.
ويمضي "بأم عيني" بعدها لمقاطعة عدد من الأحداث مع قصائد لكل من محمود درويش وإبراهيم طوقان وتوفيق الزيات، فالسرد هنا ليس خطياً والمسرحية التي أخذت أسلوب رواية الطريق لا تسلكه في اتجاه واحد، بل تتعرج وتتلوى تبعاً لمهارات جديدة على صعيد التلوين وتقنية الخطف خلفاً، فبينما يكون غنام استقر في غرفة فندق من فنادق الناصرة فيها خمسة أسرة، يتابعه القلق والخوف من أن يفتضح أمره وأمر مهربيه من قبل الأمن الإسرائيلي، لكن الإجابة تأتي في المشهد التالي ويكتشف ويكتشف المتفرج معه أن الأسرة الخمسة سيتشاركها مع ابنتيه وحفيديه الصغيرين، ويكاد الصمت الذي يتركه الراوي هنا بين الجمل يحدث الأثر المرتقب لتطور الأحداث ونموها، وما هي سوى لحظات حتى تدلف ابنته إيفا من باب غرفة الفندق ومعها حفيده الصغير.
مشهد يرسمه غنام بمهارة عبر تغيير نبرة الراوي والتنويع عليها من العالية إلى المنخفضة فالمرسلة، إلى نبرة داخلية قريبة من الجمهور، ومع هذا كله تتدحرج قصص فرعية لإغناء القصة الرئيسة على صورة استطرادات لا يلبث الراوي فيها كثيراً حتى ينتقل برشاقة إلى سواها، فالإيقاع كان حاسماً في تدفق وضبط زمن الأحداث التي يسوقنا إليها مخرج ومؤلف العرض الفلسطيني، فيدخل بنا إلى حيفا عبر قصيدة "وحيفا من هنا بدأت" لمحمود درويش ليتبعها بمقاطع من رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، إذ يجدل غنام رحلته إلى المدينة الساحلية مع مقطع نزوح كل من شخصيتي صفية وسعيد سين عن المدينة، وعودتهما إليها بعد 20 عاماً لرؤية ابنهما خلدون الذي سيصبح اسمه دوف، المجند الاحتياط في جيش الدفاع الإسرائيلي.
وقائع وأشعار
يشتق غنام ما يناسبه من وقائع وأشعار وأغنيات وأمثال شعبية على طريقة الكاتب الضمني، لتسهم هذه الوقائع والأشعار في تطوير حبكة العرض فيذهب بنا إلى بيت غسان كنفاني في عكا بطابقيه المكسوين بالطوب الأحمر. ويتوقف ويلتقط الصور للبيت بسرعة خشية أن يراه ساكنوه من المستوطنين، لكنه فجأة يتوقف ويصرخ بملء صوته "غسان". صرخة تضفي مزيداً من التلقائية على طبيعة الأداء، ومن بيت غسان كنفاني يطوح بنا إلى مقبرة كل من محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، الشهداء الذين قامت قوات الاحتلال البريطاني بإعدامهم عام 1930 على خلفية مقاومتهم لقوات الانتداب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرسم غنام بدقة مشاهده في فراغ المسرح فيشعر المتفرج بحجم ومساحة القبور، ومواقع الأماكن التي يتنقل عبرها من بيت غسان كنفاني إلى قلعة عكا الشهيرة وسورها الممتد على ألفي متر. لذلك يبدو في فراغ لا يملأه إلا جسد الراوي بحركة تقيس نبضات الشخصيات المروي عنها. وتبدو السردية هنا مأخوذة بوصف كل ما تقع عليه عين الراوي، إذ يمزج غنام بين الوصف والسرد من دون أن يغلب أحدهما على الآخر.
وكان لافتاً في العرض عدم الاتكاء على أية عناصر يمكن لها أن توجد في العروض التقليدية من إضاءة وموسيقى وديكور، فلقد اعتمد غنام على كوفيته وتفاحة وقبعة ومعطف كأكسسوارات بسيطة وظفها لرواية أحداث عرضه، إذ بدا التقشف في هذه العناصر من باب عدم الولوج إلى المسرحة، والاعتماد كلياً على حركة الجسد الدائبة والمستمرة والمتبدلة مع كل عبارة من الحوارات المسحوبة على شخصيات متخيلة وأخرى نسجها غنام بحرفية، مفرقاً بين الواقع الفني والواقع الموضوعي ومنكباً على صياغة زمن واقعي سرد فيه الفنان الفلسطيني يومين فقط من زيارته الخاصة إلى فلسطين التي استمرت أسبوعاً كاملاً.
ويستشهد غنام بكلمة لإدوارد سعيد، فيقول "بأن على كل فلسطيني أن يروي روايته" ويختتم صاحب "سأموت في المنفى" عرضه بتكرار سؤاله "أين هو الاحتلال؟"، ويجيب "أعترف بأن الاحتلال قاس ودموي وهو موجود لكنه هش، كنت أرى جنوده غباراً هباء، فهم عابرون في كلام عابر" ويوجه في نهاية العرض سؤالاً للجمهور من ثلاث طلقات، فالسؤال لديه هو مسدس و"الإجابة هي طلقة في مسدس السؤال". أسئلة تحيل إلى عنصر مهم من عناصر المسرح الاحتفالي وعن طبيعة "المتفرج الملحمي" الذي نادى بريخت بضرورته لتحقيق واكتمال مسرحه الثوري.