Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

" بنات جلنار " تطرح أسئلة الهوية وقضايا اللجوء

 في رواية أماني الطواش تندمج إشكاليات التاريخ والزمن الراهن

لوحة للرسامة ريم يسوف (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

تخوض رواية "بنات جلنار" للروائية أماني الطواش في حقول ألغام كثيرة، ترتبط ارتباطاً واضحاً بأسئلة الهوية وترصد صور تفشي سياسات التمييز العرقي والطائفي في مجتمعاتنا العربية، كما تعالج كذلك قضية التمييز على أساس النوع الاجتماعي وفقاً لرؤية جندرية واضحة، لكنها تنتصر بالحيلة الفنية للتعددية وتعمل على دحض خطابات الكراهية لمصلحة ثقافة قبول الآخر باعتبارها مساراً رئيساً في نهضة أي مجتمع وشرطاً من شروط التحديث.

صدرت رواية "بنات جلنار" حديثاً عن دار"سؤال"، وهي تعتمد تقنية تعدد الأصوات التي تسمح لكل صوت سردي بتقديم نفسه والكشف عن مساره داخل النص، بطريقة تعين القارئ على فهم دوافعه إلى جانب التعبير عن المرحلة التاريخية التي يمثلها في إطار تعاقب الأصوات.  وعلى رغم أن النص يتتبع أبطاله في سياق تاريخي محدد بعلامات نصية وإشارات زمنية لأحداث معروفة، فإن الإسقاطات التي يقدمها على الواقع الحالي يصعب تفاديها فهو يذهب منذ الصفحات الأولى للتعاطي مع حال فريدة للجوء تنتمي إلى الماضي، لكن أثرها يمتد في تجربة واحدة لبطلات الرواية بكل حمولات اللفظ التي نعرفها اليوم.

ومن ناحية يبرز عنوان الرواية رغبة المؤلفة في التركيز على "خطاب" النساء، وتعتمده مدخلاً للتعاطي مع قضية الهوية انطلاقاً من الصوت الرئيس وهو صوت جلنار الزوجة الفارسية التي تخرج مع زوجها من بلادها في ثلاثينيات القرن الماضي، ومعهما ابنتهما الرضيعة مريم، بحثاً عن حياة أفضل، فتركب العائلة واحدة من سفن اللجوء وتختبئ فيها داخل أجولة من قماش الخيش إلى أن تصل إلى شاطىء المنامة.

وهناك تضطر جلنار إلى بناء حياة جديدة بعدما اختفى الزوج يوم وصولهما، في ضجيج معركة نشبت أمام دكان أحد تجار الذهب، ممن قصدهم باحثاً عن دعم أحد الأقرباء، وبعد يأس وفقدان أمل ترضى جلنار بمصير امراة وحيدة من العجم تعيش داخل مجتمع كانت له سمات تعددية، كشفها الباحث المعروف نادر كاظم في كتابه الفريد " لا أحد ينام في المنامة".

 عقدة غياب الأب

تحظى جلنار برعاية الآغا إسماعيل كبير العجم، وتعمل خادمة في بيته مع يثرب التي تعيش وسط نساء عائلته، وتكبر ابنتها مريم إلى جوار ابنته شيرين وترتبط معها بصداقة قوية، تفسدها عقدة غياب الأب التي تدفع مريم إلى التفكير في إغواء الشيخ العجوز. لكن الأم تفطن إلى نياتها وتزوجها بسرعة لغلوم، الفارسي الفقير كي تقطع على ابنتها طريق الغواية والغيرة من قرينة طفولتها .

 تحول الفوارق الطبقية دون تحقيق حلمها في تعليم مريم لتفلت بها من شبكة الفقر، في حين تتوافر أمام شيرين فرصة السفر لاستكمال تعليمها في لندن، لكنها تعود بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية بمشاعر باردة متعالية على محيطها القديم، ومن ثم تزداد الفجوة بين الصديقتين، فالأولى تصبح معلمة بينما تعمل مريم ابنة جلنار، في حرفة تزيين النساء وتصبح امرأة قوية تسيطر على محيطها من النساء داخل الحي الذي سكنته، بعدما احترق عريشها الفقير. وامتد صيتها إلى المنطقة بأكملها فدخلت كل البيوت وتحولت إلى حقيبة أسرار.

 وعلى رغم أن مريم أنجبت ابنها أكبر من غلوم، فإنها تركت أمر تربيته لأمها، فأصبح نموذجاً مثالياً لشاب أعجمي يلتزم بالمأتم، ويذوب في الأشعار الفارسية ويسمع الأغاني ويقرأ الكتب. لكن ميوله اليسارية كانت تنمو انسجاماً مع أعوام الخمسينيات من القرن الماضي.

قادته الأفكار التقدمية باتجاه نقد الهويات المغلقة ورفضها، على عكس والده غلوم الذي تحصل على وثيقة سفر إلى إيران، فزارها، وبعدما عاد صار يحن كثيراً إلى وطنه الأول ويتحدث عن فئة مهدورة الحقوق، مثلما كانت تفعل جلنار، حماته التي لم يعد أمامها سوى تدخين الغليون وتأمل حفيدها الشاب، بعدما تفاقم الصمت بينها وابنتها مريم التي تواجه أحلام الأم والزوج في العودة إلى إيران بخطاب واضح تؤكد فيه أن "هذه الأرض التي نعيش عليها هي بلادنا وعليها نموت وندفن بأكفان الخيش ذاتها"

تتناسل من خلية مريم السردية خلايا سردية عدة تمثل ما يسميه جابر عصفور "بلاغة المقموعين " التي تتكاثر في تعاقب زمني يحيل إلى واقع معقد وأحداث تروى من وجهة نظر نساء تلك العائلة بالذات، وأولاهن معصومة التي تروي قصة غرامها بأكبر وزواجها منه، على رغم أنها حفيدة آغا رستم زاهدي الذي عاش في المنامة لكنه ظل يحب كل ما هو فارسي. لذلك لم تجد فكرة الزواج معارضة حقيقة على رغم الفارق الطبقي بين العائلتين، فقد كان أعمامها يطمعون في ميراثها بعد وفاة والدها وأرادوا التخلص منها بالزواج. أحبت معصومة معلمتها عصمت وأرادت أن تقلد تمردها، وهي تستمع معها إلى إذاعة "صوت العرب" في ظل صعود القومية العربية التي أدت في المقابل، إلى تنامي نعرات مضادة لها داخل البلدان العربية التي كانت تجمع هويات عدة، فالبحرين البلد الصغير كانت تضم مجموعات من هنود ويهود وبهائيين وعجم إلى جانب العرب.

 أحبت معصومة على طريقة سعاد حسني في الأفلام المصرية وحولت عاشقها أكبر إلى نسخة جديدة من عبدالحليم حافظ، بطل تلك الأعوام الوحيد وأنجبت منه مريم و إيرج وشيراز وجلنار التي تمثل إشارة امتنان للجدة وكفاحها من أجل العائلة.

تقليد وتحرر

يصل السرد إلى صوت جلنار الحفيدة التي جعلت من المعلمة عصمت مثلاً أعلى، سعت إلى تقليده، وانتبهت إلى أفكارها التحررية التي تدعو إلى حرية المرأة وتقاوم تسليعها، كما تقاوم صور التعصب كافة وتمثل العقلانية داخل النص. تنتبه جلنار إلى أن أكبر غرق في نادي الفردوسي المتعصب لأمة العجم، وحين كبرت أحبت علي، الشاب الذي درس الهندسة في لندن، وتزوجته معتقدة أنه سيتبنى أحلامها كافة في الالتحاق بالجامعة والدراسة في الخارج. لكنه خدعها وسافر بها سراً إلى إيران وكشف لها هناك أنه عضو في خلية سرية تناهض سياسة الدولة. من هناك سافرت مع عائلتها إلى سوريا وانتظرت فيها وعاشت تحولات ما بعد الربيع العربي، ثم أتيحت للعائلة فرصة اللجوء إلى السويد مع مئات اللاجئين الذين قبلوا هناك، وكأنها تعيد سيرة جلنار الأولى وتكرر رحلتها في زمن آخر.

 وتنتهي الرواية بصوت بروين، آخر بنات معصومة، وهي تتابع الأعوام الأخيرة في حياة جدتها وجدها، كما تروي قصة حبها لهاشم، الشاب العربي البحريني الذي تقدم لخطبتها، وكان من الصعب قبوله زوجاً لكن العائلة استسلمت أمام إصرارها قبل أن يموت زوجها، ضحية شغب في مظاهرة. وصار مؤيدو الحكومة يرونها زوجة خائن، بينما ترى نفسها أرملة، رحل حبيبها وتركها تائهة بين الكوابيس. لكنها تمكنت أخيراً من الحصول على جواز سفر بحريني والمشاركة في الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني، مع أبناء مختلف الطوائف والهويات وهي نهاية سياسية أكثر منها فنية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 اعتنت الرواية بإظهار جملة التحولات التي عاشتها المنامة منذ خمسينيات القرن الماضي، إلى صدور ميثاق العمل الوطني (ديسمبر/ كانون الأول 2000 ) على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، لترصد خفوت التعددية وأثر ذلك في صور التناغم بين الهويات. فقد هجر التجار الأثرياء المنامة، ورحلوا عنها ليسكنوا خارجها في مجمعات سكنية تحميهم من تطفل الفقراء من أمثال عائلة "جلنار". واشتغلت المؤلفة على إظهار تفاصيل حميمة داخل بيوت العجم، وصاغت نسيجاً متناغماً بالغ الثراء، سواء على صعيد الحكايات الشعبية وأنواع الطبخ وأشكال القماش وعادات الزواج وطقوس الموت والميلاد. فضلاً عن اهتمامها برصد أشكال التراث المادي واللامادي، بما يظهر جهدها الكبير في جمع المرويات الشفهية واهتمامها بتعزيز فكرة الاندماج على رغم حساسية المعالجة.وامتد مؤشر رصد التحولات داخل بنية المجتمع البحريني من ناحية رصد التغييرات الديموغرافية والحراك السكاني داخل أحياء البحرين، بحيث ترد داخل النسيج السردي، إشارات إلى أحياء ومناطق كثيرة لها طابعها المميز مثل باب البحرين أو حي القفول وسار وكرب باد. كذلك تنحاز المؤلفة انطلاقاً من هوية جندرية، إلى فكرة تعليم المرأة باعتبارها عتبة للتحديث كما في سيرة شيرين ومعصومة وعصمت.

تؤرخ الرواية لصدى القومية العربية على الطريقة الناصرية، وأثرها في إثارة مخاوف أصحاب الهويات الأخرى. فبعدما بالغ العرب في التباهي بفكرة القومية والعروبة والأمة ذات الرسالة الخالدة، بالغت الطوائف الأخرى في الاندفاع نحو هوياتها الضيقة، بعدما كانت التعددية سمة مائزة في المجتمع، وكانت المنامة مدينة تعيش فيها مختلف الملل، وبقي أهلها لا يعرفون الفتن. لكن السؤال الذي تطرحه الرواية: هل ضاقت المدينة بأهلها بعدما أصبحت أكثر حداثة؟

تتوقف الرواية أيضاً أمام مظاهر تراجع فكرة التحديث على النمط الليبرالي، أمام زحف مظاهر ما يسمى بالصحوة الدينية بعد عام 1979، وترصد تسرب خطابات التحريم داخل الحوارات العائلية لتبرز تمددها داخل النسيج اليومي.

 

 

 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة