Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجماهير والمهاجرون وثقافة تجاوز القانون

من العبث والهمجية محاولة إيذاء السوريين الذين أصبحوا الآن جزءاً من المجتمع التركي بناء على إشاعات وتحويلهم إلى ضحايا للتنفيس عن الغضب

أطفال يشاهدون مركبة تابعة للقوات المسلحة التركية تسير خلال احتجاجات ضد تركيا في منطقة حلب شمال سوريا (أ ف ب)

ملخص

إلى متى سنبقى نقول عن الأشخاص الذين يعيشون في هذا البلد منذ أكثر من 10 أعوام إنهم سوريون أو مهاجرون؟

إن الجماهير هي القوة الأكثر غموضاً في عصرنا، لذلك فإن استخلاص استنتاجات متسرعة وعميقة من الأفعال والصور وردود الفعل الشعبية لا يعني إلا خداع الذات، والشعبوية القائمة على هذه القوة خادعة بالقدر نفسه، إذ إن محاولة إنتاج نوع من "الفاشية" من خلال تعزيز الشعبوية وتشجيع العنصرية ومحاولة الحصول على السلطة من خلال تهميش الاختلافات، تعد أكبر خيانة للإنسانية وللشعب في آن واحد.

النبل في الإنسان لا في العرق

لا يمكن القول إن عرق أي شعب من الشعوب نبيل، فالنبيل الأساس هو الإنسان بصرف النظر عن انتمائه ولونه وجنسه، والإنسانية هي تلك القيمة الأساس وراء الألوان والثقافات التي يجب اكتسابها والاهتمام بها.

لنتوقف قليلاً عند حادثة قيصري التي أدت للهجوم على "بشر" لا ذنب لهم ولم يرتكبوا جريمة. في البداية، انتشرت إشاعة عن حصول حادثة تحرش وقبل أن يفهم ما حدث بصورة كاملة تحولت ردود الفعل فجأة إلى غضب شعبي وتظاهرات وأعمال عنف، وكل هذا كان بسبب الأخبار الكاذبة التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ولم يحاول أولئك المعتدون التحقق من صحة ما حدث أو التأكد من حقيقته بل لم ينظروا إلى أي جانب آخر من القضية، وفعلوا كل هذا بناء على خبر كاذب وحادثة غير واضحة، وهذا قد يكون أحد الاستنتاجات الجديدة حول الخريطة الجديدة التي تتشكل في الشرق الأوسط من خلال موجة اليمين الصاعدة في أوروبا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بداية، يجب أن أشير إلى أن هناك كثيراً من حوادث التحرش التي تحصل يومياً في تركيا وكثير منها لا يبلغ عنها في الصحافة، وغالباً ما يتم التستر عليها وكتم الموضوع بمعنى "لي الذراع" مما يوضح أن ما حدث ضد السوريين في قيصري ليس قضية التحرش، بل إن القضية تخص السوريين بحد ذاتهم فلو كان المتحرش تركياً لما حدث ما حدث، وهنا أؤكد أنه بالطبع لا يمكن السكوت عن موضوع التحرش لكن هناك قانوناً في البلاد والجميع متساوون أمامه، ومن العبث والهمجية محاولة إيذاء هؤلاء الأشخاص (السوريين) الذين أصبحوا الآن جزءاً من المجتمع، بناء على مثل هذه الإشاعات وتحويلهم إلى ضحايا للتنفيس عن استياء الجماهير وغضبها.

قبلية حديثة 

إلى متى سنبقى نقول عن الأشخاص الذين يعيشون في هذا البلد منذ أكثر من 10 أعوام وتأقلموا واندمجوا بطريقة أو بأخرى مع هذا المجتمع إنهم سوريون أو مهاجرون؟ فضلاً عن الاندماج الكبير الذي حققه السوريون في المجتمع التركي فإن جزءاً كبيراً من هؤلاء الذين لجأوا إلى تركيا هم من أحفاد أشخاص سبق أن هاجروا من هنا لأسباب مختلفة، أليس من الأولى أن تكون الأناضول "ملجأ المضطهدين" وعلى رغم كل شيء يجب ألا نفقد هذه الميزة أبداً وألا نخسر أشخاصاً يسهمون في بقائنا على قيد الحياة.

ومع ذلك فإن العقلية التي قامت بتسييج حدود الدولة وإضفاء الطابع الرسمي على المواطنين داخل هذه الحدود بفهم قومي خلقت قبلية حديثة بدلاً من المجتمع المتحضر، إن هذه العقلية تواجه فكرة أن هذه الأرض ملك لله ومن هذا المنطلق يحق لأي شخص أن يعيش فيها ضمن إطار القانون، وهنا يمكنني القول إن الوعي العام للجماهير تغير بين الأمس واليوم، فاليوم بات ينتشر مفهوم "قذر جداً" يرتبط بالعرق ويستخدم للتغطية على مشكلات أخرى كثيرة.

سوريا بلد ثقافات مختلفة

إذا كنا نريد أن نتحدث في المنطق، فالمنطق يقول على سبيل المثال إن سوريا دولة تعيش بجوارنا بصورة مباشرة. هل ندرك أن سوريا لديها عدد من الحضارات والثقافات والهياكل العرقية والثقافية المختلفة؟ لو كنا نعلم هذا ربما لم نكن لنزعج خلية النحل هذه ونتسبب في مشكلة اللاجئين هذه والتي تؤثر في جغرافيتنا بأكملها، لكننا الآن نستمر في إلقاء اللوم على اللاجئين على رغم أنهم الضحية وليسوا السبب، وكأننا لا ذنب لنا في هذه القضية ونصب غضبنا عليهم في كل أزمة اجتماعية، ومع ذلك يمكنني القول إنه بصرف النظر عن أحداث معينة فإن جغرافيتنا بأكملها تمر بتحول عميق وتعاد هيكلة جميع الشعوب.

دور العولمة في ما يجري

إن الضغوط التي لا تطاق والتي تفرضها العولمة والرأسمالية فضلاً عن مناخ الرغبة الذي تخلقه تدفعنا جميعاً في اتجاه لا نستطيع أن ندركه ولا نتوقع عواقبه. في الحقيقة لا أعتقد أننا نستطيع حتى إدراك ما يحدث الآن ناهيك بالتعامل معه، إذ إن المشكلة ليست في اغتصاب طفلة بل في اغتصاب المنطقة بأكملها وأهل المنطقة لا يتورطون في ذلك إلا من خلال خلق الصراعات في ما بينهم، وبينما يواصلون التفاعل عرقياً من خلال التهام بعضهم بعضاً فإنهم لا يدركون حتى أنهم غرقوا بالفعل في عار عالمي، وللخروج من المأزق يجب أن تكون ردود الفعل موجهة وعلينا أن نتكاتف للتعامل مع هذا الأمر.

اعتدي على اللاجئين السوريين وتفاعلنا مع القضية، وفي المقابل لم يكن هذا التفاعل بالروح نفسها عندما يتعلق الأمر بالعدوان على غزة. إن أولئك الذين أخذوا على عاتقهم مواجهة السوريين لم يأخذوا على عاتقهم ما يجري في غزة بأية صورة من الصور.

اللاجئون الضحية الحقيقية

السوريون لم يلجأوا إلى هنا برغبة منهم أو بإرادتهم بل جاؤوا مجبرين، إن هؤلاء اللاجئين الضحية الأكبر والأكثر براءة من كل ما يحدث والضحية المباشرة في هذه القضية، إذ لا يصنفون على أنهم عديمو الجنسية في كل بلد يذهبون إليه فحسب بل يؤدون أسوأ الوظائف في ظل أسوأ الظروف، ويستخدمون على نطاق واسع لتسهيل عمل أولئك الذين تكيفوا مع الرأسمالية ونمط إنتاجها واستهلاكها وأجبروا على القيام بعمل لم يقم به أي شخص آخر، وبينما بدأت جميع شعوب المنطقة تعاني آلام العولمة فإن جميع بلدان وشعوب المنطقة تتعرض في الواقع لزعزعة الاستقرار بسبب "عصا البؤر" الشريرة للرأسمالية العالمية، ولا يملك أحد الآن ترف التراجع إلى حدوده الوطنية والاستمتاع بالامتثال القومي وراءها. ويمكنني القول إن العالم القديم ينهار ولم يعرض علينا سوى خيارات شبيهة بالموت.

انتهت تلك الأيام السعيدة، والآن حان الوقت للمثول أمام محكمة التاريخ لكننا لن نكون قادرين على القيام بذلك من خلال إيذاء الفقراء واللاجئين الذين اختاروا هذه الأرض من دون غيرها، ولن نتمكن من الخروج من هذا بالطريقة التي فعلناها من خلال الوقوف أمام الأرمن والأكرا. فلكي تحكم على هؤلاء الأشخاص عليك أن تجرب شعور أن تصبح منبوذاً أو أن تصبح لاجئاً. هؤلاء الذين يظنون أنفسهم اليوم أسياداً عندما يصبحون لاجئين حينها قد يكون الأوان فات، ووقتها سيدركون أن ما يفعلونه الآن يودي بهم في هاوية الجحيم.

بعد الحرب العالمية الثانية سقطت السيادة العالمية في أيدي الولايات المتحدة الأميركية وأرادت الليبرالية الجديدة بناء عالم جديد، لكن النسخة الجديدة من موجة الاستعمار كانت مصممة على عدم ترك أحد خارج هذه الموجة، ومهمة "النيوليبرالية" ستصبح أسهل عندما تبدأ المقاومات الصغيرة والمحلية في أكل بعضها بعضاً بدلاً من التكاتف لتشكيل خط مقاومة عالمي مضاد.

من "القاتل الأسد" إلى "السيد الأسد"

وبالعودة إلى قضية اللاجئين السوريين في تركيا، ففي الموقف الذي لا نستطيع فيه التعامل مع هذه المشكلة التي لا ندركها أو التي لا نهتم بها أو التي نتعرض فيها للاضطهاد في الدوائر الاجتماعية إذ نكون وحدنا متروكين، فإن طرق تواصلنا وتلقي المعلومات لدينا تتغير بسرعة وكذلك طرق عيشنا وحياتنا. ورأينا بوضوح كيف يمكن لمواقع وسائل التواصل الاجتماعي أن تحول شرارة بسيطة إلى نار مما يجعلنا غير قادرين على الحفاظ على سلامنا وصحتنا العقلية. وفي المقابل رأينا أيضاً أننا لعقنا أيادي وأرجل العرب والروس والأميركيين الذين كنا نعجب بهم في غيابهم. ورأينا أيضاً كيف اندلعت العاصفة عندما تحول "القاتل الأسد" إلى "السيد الأسد" وكيف أن غزة التي جهلت بالفعل يمكن أن تنسى فجأة بالكامل.

وكانت تلك اختبارات صغيرة ورأينا كيف يمكن لأمتنا العظيمة التي نفاخر بها كثيراً أن تتحول إلى جامحة مع الإشاعات الفورية، كم نحن في حاجة إلى قليل من الحكمة والفهم بدلاً من "الدماء النبيلة" التي تسري في عروقنا.

وفي وقت نحن فيه في حاجة إلى القليل من الفهم والحكمة وعالقون في غضبنا وطموحاتنا وهستيريا العداء واستعراضات القوة وموجة الاستياء التي تتصاعد ضد المهمشين الفقراء ولاجئين لا ذنب لهم، في هذا الوقت ما نحتاج إليه في الحقيقة هو الحس بالعقل والقليل من التفكير الصحيح والأخلاق. الأخلاق التي ستمكننا من إدراك أننا في الواقع ندمر قيمنا.

المزيد من تحلیل