Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سمير الصايغ: خسرنا الحداثة وأنا اليوم في أقصى التجريد

كتابه "وأنا الآخر" حوار بين وجهي روح الفنان وعقل الناقد

الرسام والشاعر سمير الصايغ في محترفه (اندبندنت عربية)

ملخص

أصدر الشاعر والرسام اللبناني سمير الصايغ كتاباً بعنوان "وأنا الآخر: حوار بين الفنان والناقد"، وهو عبارة عن حوار بين الفنان والناقد الكامنين فيه، اللذين يشكلان وحدة تجربته الطويلة في الشعر والرسم وفن الخط. ويضم الكتاب مختارات من رسومه بالحبر.

في رحلة ما بين الماضي والحاضر وتشابكات الذاكرة مع حركة الزمن وإشكاليات المعاصرة يقف سمير الصايغ عند منعطفات العمر وهو يستدعي الأسئلة الملحة في قراءة التاريخ من بؤر الصراع التي عاش في خضمها. ويتجرأ للمرة الأولى على مساءلتها بحياد في مراجعة فكرية لا تغير من الماضي شيئاً، بل تضيء مصابيحها على الحاضر.

في كتابه الذي صدر حديثاً بعنوان "وأنا الآخر: حوار بين الفنان والناقد" مرفقاً برسوم حبرية من دفاتره يضعنا الصايغ أمام تجربة فريدة من الحوار بين القلب والفكر وبين عمل اليد ومراقبة العين وبين الكلمة والرسم، والرأي والرأي الآخر من خلال نصوص أدبية لحوارات تدور بين شخصيتين فيها كثير من المساءلة والاستنطاق والاستدراج والمصارحة والسجال. وهي حوارات تنأى عن الوقائع والأمكنة والتفاصيل والأحداث بقدر ما تنهل من بحر الفلسفات الروحانية التي تجمع بين الشرق والغرب.

حروفي من زمن الكبار مثقف كبير هو سمير الصايغ وقامة من قامات جيل الحداثة العربية أخذ الحروفية من مفاهيم الحداثة إلى فلسفة المعاصرة. بدأ حياته كناقد، وحين جاء إلى الفن جاءه متأخراً على نضج ومعرفة وتحكم، جاءه كاتباً حروفياً، وليس فناناً تشكيلياً تقليدياً، بل شاعراً متصوفاً ومحترفاً مهنياً وخبيراً متمرساً في تطويع ملكات الحروف التي تفتحت مداركه عليها، لكونها أداة التعبير الوحيدة التي يمتلك فصاحتها ولسانها كما يمسك بنواصيها ويعرف أطباعها وأحوالها وأنسابها، ويعرف كيف يروضها ويحلق بها إلى جماليات التأليف والتصميم الغرافيكي المعاصر. في مؤلفاته التي كتبها رمم الجسور التي تفصل بين الفنون الإسلامية وبين الفنون البصرية الراهنة، واجداً سبلاً جديدة لاستلهام جمالياتها بوسائط وتقنيات ومحمولات معاصرة.

الناقد والفنان: رحلة البدايات

حديث الذكريات مع سمير الصايغ فرصة للاستمتاع بروعة تصاميم الخطوط والزخارف التي تتربع أركان بيته وتملأ زوايا محترفه في الطابق العلوي من مبنى في حي تراثي في الأشرفية تطل شرفته الفسيحة على جبل صنين وفرصة لمزيد من البوح لمعرفة ما غاب عن الكتاب من سرد لوقائع تبدأ بالمنطلقات التي دفعته نحو النقد الفني، يقول "بعد حرب حزيران عام 1967 عام النكسة العربية انتسبت إلى صحيفة ’لسان الحال‘ التي كان يترأس تحريرها الشاعر أدونيس الذي عرفني شاعراً أكتب مقالات نقدية عن الشعر والأدب وعن بعض القضايا الثقافية، خصوصاً بعد الهزيمة، وكان ينشر لي وقتئذ قصائدي النثرية. في تلك الفترة نشأت فكرة أخذ يعتنقها المثقفون، وهي النقد الذاتي وضرورة التغيير. في أحد الأيام دخلت على أدونيس في مكتبه، وأخبرته أنني لم أعد أريد كتابة مقالات نقدية عن الشعراء، كي لا أدخل في سجال معهم من زوايا شخصية. سألني ماذا ستكتب إذاً؟ قلت له أنتم من مؤسسي الحداثة، وفي المفهوم الحديث، يتساوى الشاعر والرسام والموسيقي والمصور والمهندس، في بحثهم عن الجديد الثوري، المتجاوز للماضي، وأنه على الفنان أن يكون رؤيوياً وأنا اخترت الكتابة عن الفنون التشكيلية، سأمضي في هذا الطريق وسأبدأ بالحوار مع الفنانين. هكذا بدأ المسار".

أما شغفه بالخط فهو يعود إلى حقبة مبكرة من سني شبابه (قرابة عام 1958) حين اختار حياة الرهبنة في دير المخلص، إذ اكتشف أستاذ الخط موهبته ووصف خطه بأنه جميل. يقول الصايغ "منذ ذلك الحين أصبحت خطاطاً". ثم بدأت رحلة المعرفة والاستكشاف والبحث عن جماليات الفنون الإسلامية التي عمل على تقصيها وتحليلها والاجتهاد فيها، متنقلاً بين المكتبات والمتاحف والعواصم العربية والأجنبية، التي جاءت ثمرتها في كتابه الذي حمل عنوان "الفن الإسلامي: قراءة تأملية في فلسفته وخصائصه الجمالية" الصادر عام 1988، دون أن ينقطع مساره مع فن الخط الذي تعزز في مرحلة السبعينيات، مع مشروع الحداثة في البحث عن الأصالة والتراث، وسط الحركات النقدية العربية ونقاشاتها الدائرة حول الفنون التشكيلية العربية الصاعدة.

يقول الصايغ إن أول معرض أقامه كان في عام 1984 من تنظيم جورج الزعني - صاحب غاليري إليسار - الذي طلب عرض أعماله الخطية، يقول "وافقت لأنني أحببت العنوان الذي وجدته للمعرض: ’مالا يكتب ولا يقال‘. وبدأ مشواري مع الفن كعمل مستقل. لم أقبل أن أكون فناناً تشكيلياً، ولا أعتبر نفسي كذلك، بل أرى الفن كله مجالاً للخط العربي، لأن الخط - عالماً وكياناً متكاملاً في الحضور على كل الخامات والمواد والمحمولات - أراه في كل مكان، على الجدران وفي الفضاء".

أين وصلت اجتهادات سمير الصايغ في الحرف العربي؟ يقول "مضيت في تجربة الخط خطوة خطوة، ومررت بمراحل وتجارب متمهلة، أحياناً يبدو لي أنني صعدت سلماً، وفجأة أدرك أنني كلما وصلت إلى نهاية أعود إلى البداية. ما لا يكتب ولا يقال هو تجريد، وأنا اليوم في أعلى التجريد".

الحرف كمجال بصري

من ميزات الصايغ أنه أعطى لكتاباته طرازاً خاصاً في أسلوب مغاير عن فناني جيله بعدما أخذ الحرف من مجاله الأدبي إلى مجاله البصري - التشكيلي الاختباري، فحرر الحرف من المعاني والألفاظ في استذكار القلقشندي: "الحروف دالة على الألفاظ والألفاظ دالة على الأوهام"، لذا كتب الحرف لذاته، لجماله المستقل، لغناه وتنوع إيقاعاته وموسيقاه الداخلية. وهو الذي انتقل من عملية كتابة النص إلى الكلمة ثم الحرف بحضوره الهندسي الآسر، فوهبه شيئاً من الكينونة والزخرف بين شعاع الذهب وأزرق البحار. أعاد الحروف إلى بساطتها الأولى، إلى عالم الرؤية وحلم النقطة وامتشاق الألف، وسفر الواو وعين القلب، هكذا وصل مساره إلى منطق التفكيك (فلسفة جاك دريدا) للكلمات وللسياقات اللغوية بحثاً عن الحقائق أو أوهامها.

في كتابه "وأنا الآخر" ثمة ازدواجية ظاهرة بحضور الأنا التي تلعب دورين لكأنهما منفصلان غير أنهما متصلان برابط واحد، هو الرابط الفكري والفلسفي الآتي من منبع صوفي واحد، فيغدو مثل حوار الأنا للأنا، وحوار الصوت للصدى. صورتان في مرآة واحدة، تتناقضان وتتناغمان، في حوار يعبر الناقد بلسان الشاعر والمنظر والفيلسوف والحكيم والمرشد، ليعلن عن مواقفه إزاء إشكاليات فنية كثيراً ما أثارت الجدل والنقاش والانقسام في الرأي بين النقاد والفنانين أنفسهم طوال حقبة الحداثة. وهي قضايا متصلة بماهية التجريد والمطلق ومفاهيم الأصالة والهوية والتراث والحروفية (وجذورها في المقدس الديني وامتدادها في الفنون الإسلامية وفن التدوين) وجدلية المعنى واللامعنى اللغوي في الكتابة الحروفية، وتأثيراتها العميقة في التجريد الغربي. تلك المسائل التي كان سمير الصايغ جزءاً منها وشاهداً عليها، في كتاباته النقدية منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الـ20، حتى إن كتاباته لو جمعت لشكلت ذاكرة مهمة ومحورية في الصراع ما بين الشرق والغرب، الذي عاشه جيل المحدثين العرب.

يجاهر سمير الصايغ في حواري معه بالقول "خسرنا الحداثة التي نشأنا فيها كجيل ثانٍ في لبنان والمشرق العربي، وحين انطلقنا في الفن الحديث كنا على توافق مع انتصار الذات الذي رأته أوروبا والغرب عموماً أنه انتصار لفنون وثقافات غير أوروبية (ومشرقية تحديداً) شكلت ينابيع الإلهام لكبار فناني جيل الحداثة في الغرب. نحن صدقناه، لكن الغرب تركه وانقلب عليه في مرحلة ما بعد الحداثة إلى أن وصلنا إلى حقبة المعاصرة في خضم الثورات العربية والحروب المتتالية التي لم يعد باستطاعتنا أن ننجو من أهوالها".

التجريد هو التوحيد   

في كتابه "وأنا الآخر" تقف شخصية سمير الصايغ الاستثنائية في توجهاتها الثقافية أمام مرآة النفس قبل أن تصل إلى أعين القراء، وتضعنا أمام أسلوب خاص في أدب المحاورات، وهو صنف بين صنوف الأدب قديم التجليات (منذ مدرسة الفلسفة اليونانية إلى الحقبة الرمزية والرومنطيقية ومحاورات المتصوفين كفريد الدين العطار في "منطق الطير"، وصولاً إلى كتاب النبي لجبران خليل جبران والمحاورات التي دارت بين الفنانين والشعراء العرب)، غير أن كتاب الصايغ العصي على التصنيف يأتي من مقترب غير اعتيادي كونه يجمع خميرة التجارب، وبين الشعري الصوفي والبوح أو الاعتراف، وما يساور النفس من شكوك وخيبات وحالات إحباط وشعور بالغربة على نحو ما نقرؤه على لسان الناقد قوله "أشعر بفقدان الاهتمام أشعر أن الآخر غير مهتم إذا كان موجوداً أو لا، إذا كان صديقاً أو عدواً. أشعر أن الآخر فقد الاهتمام بي وأنا فقدت الاهتمام به" (ص226) وفي الوقت نفسه تلتبس الحقائق على الفنان الذي يرغب دوماً التحرر من أي عين تراقب عمله فتربك يده وتشوش خياله. فالفن كما يراه يسبق أسماءه وصفاته وأهدافه "عليه أن يجيء بلا مهام ولا أهداف، مثل فيض بعد امتلاء، مثل ضوء بعد ليل، مثل الانتباه، مثل النضج، مثل طلوع النبع" (ص231).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكتاب مؤلف من مباحث تنقسم إلى عدة ثيمات مبنية على استشهادات هي بمثابة مفاتيح المعرفة. في مبحث المطلق يسأل الفنان "هل الذهاب إلى المطلق ذهاب إلى التجريد؟"، يجيب الناقد "في المطلق لا علامات ولا إشارات، بل حقائق، وفي العمق، المطلق جوهر هذه الحقائق. إنه جوهر كل حقيقة، إنه جوهر الحق" (ص16-17)، في هذا السياق يذهب الصايغ إلى تعريف المطلق من خلال المقترب الصوفي التوحيدي الذي سار على نهجه كبار الخطاطين العرب بمنطق مغاير للمطلق بالمفهوم الغربي الذي طرحه أساتذة فناني التجريد الاوائل (كاندينسكي وماليفيتش وموندريان) في ربط التجريد بالروحانية أو العدمية أو اللاشيئية.

ينتقل الصايغ بعدها إلى تعريف المراتب الثلاث للحضرة الإلهية، مستشهداً بما أورده ابن عربي في الفتوحات المكية، ثم ليمضي في ابداء وجهة نظره إزاء ثيمات أخرى متعلقة بالتجديد والموسيقى وأسئلة الفن الكبرى معطوفة على استشهادات أخرى (أفلاطون وابن سينا والملا صدرا عن الشيرازي ونجم الدين كبرى، جان لوك تولا عن فلسفة الزن... وسواهم)، وفي مبحث التجريد يتبدى التماهي الوجداني في محورية عنوان الكتاب، حين يضيء الصايغ على مفهومه الشعري للتجريد فيقول إن التجريد لا يسعى إلى محو الصورة، بل يسعى إلى الجوهر، وهو ليس رمزاً ولا كلمات ولا هو لون، بل التجريد صمت ولمعان كالذهب، والتجريد هو توحيد بمعنى التوحد مع كل موجودات الكون، يقول الفنان "الآخر أنا" ليجيب الناقد "وأنا الآخر".

كل الطرق التي سلكها سمير الصايغ من قبل في تطويع عالم الحروف وفلسفة حضورها وكيانها باتت تفضي إلى درب واحدة، ألا وهي ذات الكاتب والشاعر والفنان. هي الذات المتماهية مع الآخر، من غير صراع، في زمن يشهد على العنف وخصام العالم مع الآخر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة