Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصناعات اللبنانية: بارقة أمل من رحم الأزمة

يحاول الصناعيون مقاومة العوامل الداعية إلى اليأس عبر ابتكار الحلول ومحاولة البقاء ضمن المنافسة

تنشط الصناعة اللبنانية الخفيفة في مقابل انتكاس الصناعات الثقيلة (اندبندنت عربية)

ملخص

يشهد لبنان تراجعاً في الصناعات الثقيلة في مقابل صعود الصناعات الخفيفة، وتأتي الصناعات الغذائية في مقدم الصناعات الناشطة التي تعتمد على أفكار الشبان والتوجه نحو الطعام الصحي.

شكلت الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) ضربة قاضية للقطاع الصناعي في لبنان، وفي الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب لم تشهد البلاد نهوضاً صناعياً حقيقياً، رغم محاولة بعض الصناعات الحرفية الصمود، معتمدة على مهارة أصحابها وذوقهم، فيما هجرت المنشآت الضخمة البلاد بحثاً عن بيئة مناسبة للاستثمار، إن من الناحية الأمنية أو حتى وجود البنية التشريعية والبنية التحتية والخدمات.

فيما تستمر أزمة انقطاع التيار الكهربائي اليوم وتفاقمها بلعب دور سلبي في مواجهة الصناعة. لكن ورغم سوداوية المشهد، تبرز محاولات "جريئة" من بعض رواد الأعمال لإطلاق صناعات صغيرة، في محاولة منهم لمقاومة اليأس، وإنضاج تجربة الاستثمار في مجالات صناعية محددة، لعل أبرزها ما يعرف بـ "الطعام الصحي".

أطلال المصانع والصناعات

عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس تنتصب منشآت ضخمة شاهدة على ما تبقى من صناعات متطورة شهدها لبنان في الفترة السابقة للحرب الأهلية، وليس بعيداً تحتضن مدينة الميناء المطلة على البحر المتوسط عشرات ورش صناعة المفروشات، التي يؤكد أصحابها أن "هذه الحرف صامدة بفضل جهود العائلات التي توارثتها أباً عن جد، وشهرتها التي ملأت الدنيا بفضل دقة ومهارة الصناعيين، فيما لا تؤدي الدولة أي دور لحمايتها من المفروشات المستوردة من الخارج". أما في مدينة طرابلس المحاذية فتزدهر سلة صناعات حرفية التي تستمر بفعل شغف كبار السن، ففي سوق النحاسين تستمر عملية تصنيع "القطع التراثية" وفق الصيغة اليدوية المتوارثة منذ مئات السنين. في وقت حمل الصناعيون "الصابون الطرابلسي البلدي" إلى أصقاع المعمورة، فيما تنتشر مصانع "الجينز" والملابس في منطقة جبل محسن، بين هذا وذاك تزدهر صناعة الحلويات والمأكولات الشرقية. فيما يتهدد الخطر صناعات أخرى تأتي على رأسها "صناعة الأحذية والجلديات"، إذ لم يبق من "سوق الكندرجية" إلا اسمها بسبب وفاة أكثرية الحرفيين العاملين في مجال هذه الصناعة.


طوال عقود تلك كانت الصناعات عصب الحركة الاقتصادية المحلية في لبنان، وكانت تورد جزءاً كبيراً من حاجة السوق المحلية والسوق الخارجية، إذ غزت البضائع اللبنانية في السابق أسواق المشرق العربي وصولاً إلى أوروبا.

أرقام ومعطيات

تلعب الصادرات الصناعية اليوم دوراً في جذب المداخيل الأجنبية في لبنان، ويكشف الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين عن أن التقديرات الرسمية تشير إلى أن 130 ألف شخص يعملون في قطاع الصناعة في لبنان، ويبلغ حجم الصادرات 1.8 مليار دولار أميركي.

وزير الصناعة جورج بوشكيان كشف بدوره عن أن حجم الصادرات للخارج وصل أخيراً إلى 4 مليارات دولار أميركي، كما منحت وزارة الصناعة 1300 ترخيص لمصانع جديدة من القطاعات كافة خلال السنوات الثلاث الماضية.

وقال بوشكيان في إحاطة صحافية عن توسع دائرة النشاط الصناعي إن القطاع يشكل بين 37 و41 في المئة من إجمالي الناتج المحلي حالياً، كما أشار إلى ارتفاع نسبة المنتجات اللبنانية على رفوف المتاجر بنسبة تتراوح 11 و17 في المئة، لتصبح بحسب تقديرات الوزير اللبناني 67 في المئة، لكنها أرقام علق عليها صناعيون بالقول "مبالغ فيها".

مقاومة اليأس

يحاول الصناعي اللبناني اليوم مقاومة العوامل الداعية إلى اليأس، ويؤكد الصناعي محمد إبراهيم أن "الصناعات اللبنانية مستمرة بفعل سمعة أصحابها، وجودة المنتج والثقة العالمية بها، والاعتماد على الآلات والتكنولوجيا المتطورة، والعلاقات التي تربطها بالسوق الخارجية، وهذا ما يمكنها من تصدير بضائعها للخارج. وخلال السنوات الخمس الماضية تعرضت الصناعة لصعوبات لأن الأزمة كانت مفاجئة وصادمة ومغايرة لكل الخضات الطارئة التي سبقتها، إذ وجد الصناعي نفسه أمام دفعة سلسلة من النكبات بدءاً بانهيار العملة، مروراً بانهيار القطاع المصرفي وقطاع الكهرباء، وصولاً إلى قطاع المحروقات الذي شكل الطامة الكبرى بالنسبة إلى الصناعيين". ويشدد إبراهيم أن "الصناعي اللبناني يبذل قصارى جهده للبقاء والصمود، ولكنه لا يغفل التخطيط للتوسع، وفتح خطوط إنتاج جديدة وفتح الباب أمام التدوير"، متحدثاً عن "خسائر كبرى تعرض لها الصناعي، لأن بعض الزبائن امتنع عن دفع الديون والمبالغ المستحقة عليه، ناهيك عن عدم القدرة على النفاذ إلى المدخرات المصرفية، وتأثر الصناعيين برفع الدعم عن مادة المازوت". ونوه إبراهيم "بقدرة الصناعة المحلية على تأمين البديل للسوق المحلية في ظل الأزمات الخارجية، وتوجه شريحة كبيرة من المجتمع إلى البحث عن منتج محلي في أعقاب اندلاع الحرب على غزة"، مشيراً إلى "جهود تبذلها جمعية الصناعة ووزير البيئة ووزير الصناعة على المستوى الخارجي لوضع أطر للتشبيك مع الخارج ووضع دراسات للتعامل مع النفايات وإعادة التدوير".  

الصناعة ليست بخير

من جهته يؤكد الوزير السابق فادي عبود أن "الصناعة اللبنانية لا تعيش أحسن أيامها بفعل غياب الرؤى الحكومية"، مشككاً بما يشاع عن استحواذ الصناعات اللبنانية على 67 في المئة من السوق المحلية، ويعتقد أن الحصة الحقيقية تتراوح بين 45 و50 في المئة، وتتركز على مواد التنظيف والصابون والمياه والمشروبات الغازية. ويلفت عبود إلى تراجع الصادرات لأنه "من شبه المستحيل أن تكون الصناعة تنافسية في بلد ينتج أغلى كهرباء صناعية في العالم، ويبلغ سعر كيلوواط الكهرباء الصناعي 30 سنتاً، فيما المعدل الأوروبي هو 20 سنتاً، ويصل إلى ثمانية سنتات في تركيا".
ويأسف عبود لأن "صناعات الطاقة المكثفة هي الأكثر عرضة للضغوط، وهي المتعلقة بالبلاستيك والمعادن وتدوير الورق وغيرها من صناعات التدوير"، متخوفاً من "زوالها لبنانياً لأن وضعها أسوأ مما كان قبل الانهيار، لأن الكهرباء العمومية كانت تعوض قليلاً، ولكن حالياً يضطر الصناعي إلى تشغيل مولداته 24 ساعة في اليوم"، لافتاً إلى "الأزمة الائتمانية والتمويلية لناحية اضطرار الصناعي لدفع أسعار المواد الأولية بصورة مسبقة، فيما كانت الجهات المصدرة تمنح مهلة لتأخير الدفع تصل إلى 90 أو 120 يوماً". من ناحية أخرى فإن "المواد الخام بدأت تصدر إلى الخارج من دون خضوعها للتدوير، وهذا يحرم الصناعة المحلية من المواد الخام التي تصدر إلى تركيا التي تدعم صادراتها"، إضافة إلى الكلفة العالية لاستقدام المياه، إذ يلفت عبود إلى تجربة شخصية دفع خلالها 500 دولار يومياً ككلفة لتأمين المياه لتشغيل معمل التدوير في ظل انقطاع خدمة المياه العمومية.
ويرفض عبود الدعوة إلى "الاستغناء عن الصناعة لصالح التجارة والخدمات، لأن لبنان فقد جزءاً من دوره على مستوى المنطقة والعالم، ولا يجب أن نتجاهل دور الصناعة والزراعة في تأمين فرص العمل لجزء من اليد العاملة، إذ يدخل سنوياً إلى سوق العمل نحو 30 ألف خريج جديد".    

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


صناعات غذائية بجهود فردية

في الجزء الآخر من المشهد تبرز محاولات لإطلاق صناعات صغيرة تشكل بارقة أمل مستقبلية، وينشط مجموعة من الشباب اللبناني في مجال الصناعات "الإبداعية"، وتتحدث كريستينا دويهي، ابنة منطقة زغرتا (شمال لبنان)، عن مشروعها لتجفيف الفواكه الطازجة الذي أطلقته بالتعاون مع عائلتها. وتختار دويهي أفضل أنواع الفاكهة، ومن ثم تجففها بتقنيات صناعية حديثة، بغية الحفاظ على شكلها وطعمها وجودتها، وتجري الشابة تعديلات على بعض المأكولات التقليدية، إذ استبدلت المشمش بالفريز والخوخ والمانغو في معرض صناعة قمر الدين، كما أنتجت البصل الجاهز لـ"توفير الدموع على الزبون".
وشكلت علب الفواكه الملونة التي تصنعها هذه الشابة عامل جذب للزبائن، إذ تحولت إلى هدايا يتبادلها الزوار، وهي تسوق منتجاتها في متاجرها ضمن منطقتي زغرتا وإهدن، وكذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي للبيع "أونلاين".
يتطرق نادر كبارة بدوره إلى المنتجات التي أطلقها في أبريل (نيسان) 2022 من مصنعه الصغير في طرابلس، إذ تضم أصنافاً مختلفة على غرار زبدة الفستق بالعسل، وعدد كبير من الحلويات الصحية. ويجزم كبارة بأن "أفكار المنتجات هي من اختراعهم وخاصة بهم، إذ يضع تصورها شقيقه المهندس أمير كبارة الذي يحاول الوصول إلى منتج خال من المواد الحافظة ويبقى لفترة طويلة". ويراهن هذا الشاب على توسع عمله معتمداً على النجاح الذي تحققه التجارة الإلكترونية وتزايد الطلب على المنتجات الصحية والخالية من الغلوتين، والنظم الغذائية الصحية والخالية من الزيوت لخفض الوزن.

في المقابل يراهن آخرون على استعادة طقوس "مونة الضيعة"، وهذا ما فعلته داميا شما التي استعادت طقوساً تعلمتها من والدتها، إذ بدأت الشابة بتصنيع المونة في عام 2012 منزلياً، قبل أن تطلق متجرها الخاص في عام 2018. تعتمد داميا على الثمار الموسمية التي تنتجها جبال وأرياف لبنان، ويشهد متجرها إقبالاً على الكشك والقريشة البلدية المستخرجة من لبن البقر والغنم والشنكليش ومنتجات الزيتون والمكدوس (الباذنجان المكبوس)، إضافة إلى ماء الورد وماء الزهر ودبس الرمان.
في السياق نفسه، أطلقت الأستاذة الجامعية عائشة السيد صناعتها الخاصة، مستفيدة من العمل الزراعي الناشط في بلدة كفربنين الضنية على ارتفاع 1400 متر عن سطح البحر. وتعتقد السيد أن "الإنسان المكتفي من زرعه سلطان"، لذلك "إبان كورونا وفترات الحجر بدأت بالاستفادة من الزراعة والطرش – قطعان الماعز - للحؤول دون رمي الفائض من الإنتاج الزراعي"، وهكذا بدأت بالصناعات الغذائية المختلفة من الألبان والأجبان والسمن والمجففات وأنواع المربيات بوصفها حلاً لمشكلات لبنان والزراعة فيه.

صناعة الدواء قطاع واعد

عند اشتداد الأزمة المالية في السنوات الماضية شهدت البلاد توسعاً ملحوظاً في إنتاج الأدوية داخلياً، إذ تمكنت الخبرات المحلية من تأمين البدائل لعدد كبير من الأدوية "البراند" المنتجة من المصانع الأجنبية، وكان يصنع في لبنان نحو 1160 دواء عام 2020، بحسب رئيسة نقابة مصانع الأدوية في لبنان كارول أبي كرم.

ورحبت نقابة مصانع الأدوية بتوسع السوق، مؤكدة أن "استمرار إنشاء مصانع جديدة للأدوية المحلية، إنما يدل على الدور المهم لهذا القطاع في المنظومة الصحية"، و"أنه سيبقى قطاعاً واعداً للبنان على المستويات كافة تحت كل الظروف".

تسهيلات مؤجلة  

مع بدء الانهيار المالي والاقتصادي ساد انطباع بأن لبنان أمام فرصة لتغيير النهج السائد، والتوجه نحو دعم القطاعات الإنتاجية على مستوى الصناعة والزراعة. ولكن بعد مضي خمس سنوات لم يشهد لبنان وضع أية خطة واقعية للتعافي، لا بل ازدادت صرخة الصناعيين وشكواهم من سوء الإدارة وتراجع الخدمات. هذا الأمر تعكسه مطالبة رئيس غرفة التجارة والصناعة توفيق دبوسي الذي يؤكد عبر "اندبندنت عربية" على ضرورة "وقف سلوك الدولة العدواني تجاه الصناعيين والقطاع الخاص، وتجنب التعقيدات في وجه الاستثمارات الجديدة، وتبسيط الإجراءات لجعلها محفزة لجذب رأس المال"، ذلك أن "الصناعة تمكنت من تأمين مستوى عال من فرص العمل في الصناعات الورقية والغذائية والدوائية والصناعات الخفيفة والمتوسطة". ويرى دبوسي "ضرورة في تكييف الصناعة اللبنانية مع التغيرات على المستوى العالمي، ولا بد أن ننتهج استراتيجية صناعية قادرة على المنافسة والمواءمة مع الزراعة والتكنولوجيا، فنحن غير قادرين على ولوج عالم الصناعات الضخمة، إذ تتنافس القوى العظمى في أميركا وأوروبا وشرق آسيا". ويتطرق إلى احتضان غرفة التجارة والصناعة المبادرات على غرار "مشروع التعاون بين مركز الأبحاث للزراعة والصناعات الغذائية ومجموعة من رواد الأعمال، لتطوير وتصنيع حليب وغذاء للأطفال والمواليد الجدد من أجل سد حاجة السوق المحلية، وكذلك مصنع لإنتاج وتعبئة الزيت".
ويدعو دبوسي إلى الشراكة بين القطاعين العام والخاص قائلاً "ليس المطلوب الدعم المالي، وإنما تسهيل الاستثمار وتقديم الإعفاءات الضريبية وتسهيل التراخيص لإقامة المشاريع التي تدر المال للخزانة اللبنانية". ويذكر بسلسلة نكبات التي تعرضت لها الصناعة، بدءاً باحتجاز الودائع وفقدان المدخرات في المصارف وعودة الاقتصاد النقدي. أما الوزير السابق فادي عبود فطالب بإلغاء الضرائب كافة على الصادرات اللبنانية، سواء أكانت ضرائب الدخل أم رسوم المرفأ، وكبح "الفواتير المزورة" والتهرب الجمركي عبر المعابر الخارجية، وفتح أبواب المرفأ على مدى 24 ساعة، وأن تفتح المرافئ أبوابها خلال العطل الرسمية، وألا يقتصر دوام العمل في مرفأ بيروت على ست ساعات يومياً، وهو ما ينعكس بطئاً في عمل المرفأ، معتبراً هذه الخطوات مدخلاً ضرورياً لتشجيع الصناعة. ويشدد عبود على "واجب الانفتاح على العالم العربي والخليج والاستجابة السريعة للأزمات في الخارج"، لأنه "كان بإمكان أن يتحول مرفأ بيروت إلى بوابة لأوروبا، وتقديم استراتيجية بديلة عبره عن باب المندب في ظل المواجهة الراهنة، ووضع دراسة جدوى"، ولفت إلى وجوب حل مشكلة رسوم الترانزيت المرتفعة مع سوريا.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير