حُمى التحقيق الذي يجريه مجلس النواب الأميركي بشأن ما بات يُعرف في الإعلام بـ"فضيحة أوكرانيا"، أصبحت تطغى على ما عداها في واشنطن سياسياً وإعلامياً، حيث يلهث الجميع وراء التفاصيل الدقيقة التي ستحسم معركة الديمقراطيين مع الرئيس دونالد ترمب وحزبه الجمهوري، للتأكد إذا كان الرئيس مارس بالفعل ضغوطاً على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لتحقيق مصالح تضر بخصمه في الانتخابات جو بايدن الذي يتقدم المرشحين الديمقراطيين إلى انتخابات الرئاسة المقررة 2020، أم أنه كان يستهدف ملاحقة الفساد، وأن ما يفعله الديمقراطيون ليس إلا "حملة مطاردة سياسية".
وسط هذه الحمى، تظل الحقائق هي العامل الحاسم، خصوصاً أنها تلقي الضوء على تسرع الديمقراطيين في القفز إلى قطار اتهام ترمب قبل أن يتمكنوا من معرفة الحقائق الأساسية التي تحدد ما حصل بين ترمب وزيلينسكي. ذلك أن رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي أعلنت الشروع في إجراءات اتهام الرئيس قبل نشر نص محادثته مع نظيره الأوكراني، التي جرت في 25 يوليو (تموز) الماضي، بل وقبل أن يطلع الكونغرس على وثيقة الشكوى ضد الرئيس التي تقدم بها عنصر استخباراتي إلى المفتش العام المختص بمجتمع الاستخبارات، التي ادعى كل طرف بعد معرفة فحواها أنه على صواب.
فما هي المحددات الثمانية التي ستحسم مصير أكبر معركة سياسية داخلية تشهدها واشنطن منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي؟
أولاً: تعمد إخفاء المعلومات
على الرغم من مسارعة البيت الأبيض إلى نشر نص المحادثة بين الرئيس ترمب ونظيره الأوكراني، ونص شكوى المُخبر، ورأي وزارة العدل في الموضوع، فضلاً عن مراسلات أخرى تتعلق بالقضية، إلا أن الديمقراطيين واصلوا اتهام الإدارة الأميركية بإخفاء المعلومات.
ويرتكز هذا الاتهام على ما قاله عنصر الاستخبارات، المجهول حتى الآن، بأن البيت الأبيض اتخذ إجراءات استثنائية لتقييد امكانية الاطلاع على السجلات الخاصة بالمحادثة. إذ كتب عنصر الاستخبارات في شكواه "أبلغني مسؤولون في البيت الأبيض أنهم تلقوا توجيهات من محامين في البيت الأبيض بإزالة النص الإلكتروني للمحادثة الهاتفية من نظام الكمبيوتر، التي يُخَزَن فيها عادةً بهدف التنسيق والمراجعة والتوزيع بين الوزراء وكبار مسؤولي الإدارة الأميركية، وأنه بدلاً من ذلك تم تحميل نص المحادثة الهاتفية على نظام إلكتروني منفصل يُستخدم لتخزين المعلومات المُصَنفة سرية والتي تتسم بطبيعة حساسة، وأن مسؤولاً في البيت الأبيض وصف ذلك بأنه انتهاك للنظام الإلكتروني، لأن المحادثة لا تحتوي على معلومات حساسة من وجهة نظر الأمن القومي الأميركي".
ورداً على هذه الاتهامات، أبلغ البيت الأبيض شبكة تلفزيون "سي أن أن"، بأن محاميي مجلس الأمن القومي أصدروا توجيهات بالتعامل مع الوثائق السرية بشكل مناسب.
ولهذا تظل كلمة "بشكل مناسب" حاسمة في هذه القضية. فمن المعروف أن إدارة ترمب فرضت قيوداً على توزيع نصوص المحادثات الهاتفية للرئيس بعد حادثتي تسريب معلومات إلى الصحافة عام 2017، عندما تم تسريب محادثتين مع رئيس الوزراء الأسترالي والرئيس المكسيكي. ما دفع خبراء الأمن القومي إلى تقييد الاطلاع على نص المحادثات بحيث يتمكن عدد محدود من المسؤولين من الاطلاع على نسخ ورقية تسترجع فور قراءتها، بدلاً من اطلاع مئات من العاملين داخل الإدارة الأميركية عليها.
ويظل هناك سؤال آخر يتعلق بنوع الوثائق التي يجري تخزينها في النظام المزدوج الذي تحدث عنه عنصر الاستخبارات. فلو كان ذلك صحيحاً وتأكد أن هناك نظاماً مفتوحاً لمئات العاملين بالإدارة، ونظام آخر سري للغاية، فما نوع الوثائق التي تُحفظ في كل منهما؟ وفي أي منهما تُحفظ داخله الاتصالات الرئاسية؟ وهل كان تصنيف محادثة ترمب مع زيلينسكي مختلفاً عن المحادثات الرئاسية الأخرى، ما دفع البيت الأبيض إلى إخفاء ما قاله ترمب في هذا النظام؟
لا تتوافر إجابات واضحة حتى اللحظة على أي من هذه الأسئلة. لكن هذه الإجابات ستكون حاسمة جداً خلال النقاش والتحقيقات المرتبطة باتهام ترمب في مجلس النواب، وكذلك خلال المحاكمة التي قد تجري بعد ذلك داخل مجلس الشيوخ الذي تسيطر عليه غالبية جمهورية ويملك وحده الحق في تحديد مصير ترمب، فيصوت بالبراءة أو الإدانة ومن ثم العزل، بشرط تأمين نسبة ثلثي الأصوات التي نص عليها الدستور الأميركي.
ثانياً: فحوى ما قيل في المحادثة
قبل أن يكشف البيت الأبيض فحوى المحادثة بين ترمب وزيلينسكي، أشار مسؤولون حكوميون ووسائل إعلام إليها باعتبارها "نص المحادثة"، لكنها في الحقيقة لم تكن سوى مذكرة شملت تجميعاً لملاحظات كتبها فريق مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض خلال استماعهم للمحادثة بين الرئيسين.
قدمت المذكرة كلمات ترمب وزيلينسكي كما لو كانت نصاً، لكن مع الإشارة إلى أنها ليست النص الحرفي الحقيقي للمحادثة. ولهذا بدأت الصحافة الأميركية في الإشارة إلى ما تم نشره على أنه "نص تقريبي" للمحادثة وليس نصها الحرفي، الأمر الذي أثار شكوكاً لدى البعض عما إذا كان ترمب تلاعب بالمذكرة.
وإذا ما واصل الديمقراطيون تحقيقاتهم، فسيرغبون في التيقن مما قاله الرئيسان بالفعل، بهدف دحض الشكوك بأن ترمب تلاعب في نص المحادثة، حيث يُتوقع أن يطلب الديمقراطيون مراجعة أصل الملاحظات المدونة في البيت الأبيض حول المحادثة والاستماع إلى التسجيل الصوتي الأصلي. وهو ما يبدو أنه غير متوافر على الأقل لدى الجانب الأميركي.
ثالثا: تنحي وزير العدل عن القضية
بدأ الديمقراطيون بمطالبة وزير العدل وليام بار بإعفاء وتنحية نفسه عن "فضيحة أوكرانيا". فمن وجهة نظر الديمقراطيين، كان تنحي وإعفاء وزير العدل السابق جيف سيشنز عن قضية التدخل الروسي في الانتخابات أمراً فعالاً. ولهذا طالب جيرولد نادلر رئيس اللجنة القضائية في مجلس النواب بأن يعفي بار نفسه، بالنظر إلى أن اسمه جاء في نص شكوى عنصر الاستخبارات ضد ترمب، وفي المحادثة الهاتفية لترمب مع زيلينسكي، تجنباً لما يُسمى في القانون بتضارب المصالح.
لكن حتى الآن لم تصدر أي إشارة بأن وزير العدل ينظر في طلب نادلر. كما أن المتحدث باسم وزارة العدل أصدر بياناً يؤكد أن بار ليس له أي علاقة بهذا الموضوع وأنه علم بالمحادثة الهاتفية بعد أسابيع من موعد حدوثها وأن الرئيس ترمب لم يتكلم مع وزير العدل في أن تفتح أوكرانيا تحقيقاً يتعلق بنائب الرئيس السابق جو بايدن أو نجله هانتر. كما أن الوزير لم يتواصل مع أوكرانيا في هذا الشأن أو غيره، ولم يبحث هذا الأمر مع رودي جولياني، محامي الرئيس الشخصي.
رابعاً: عدم تصويت مجلس النواب بكامل هيئته
عندما أعلنت بيلوسي، الثلاثاء الماضي، عن بدء تحقيق رسمي عبر ست لجان في مجلس النواب، لم تشر إلى أنها ستطلب تصويت مجلس النواب بكامل هيئته على بدء هذا التحقيق. وهو ما يخالف ما جرى عند اتهام الرئيس الأسبق بيل كلينتون، حين صوت مجلس النواب بكامل هيئته ببدء التحقيق. ما يخول المشرعين من اتخاذ قرارات قوية، على حد وصف صحيفة "نيويورك تايمز" في ذلك الوقت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونظراً إلى عدم إجراء تصويت حالياً في مجلس النواب بكامل هيئته، فإن ذلك قد يمثل مشكلة خلال الأيام المقبلة مع شروع لجان مجلس النواب في استدعاء مسؤولين للإدلاء بشهاداتهم أو في طلب معلومات من جهات مختصة.
وليس معروفاً ما إذا كانت الأطراف ستتعاون مع طلبات الاستدعاء للشهادة أو في توفير معلومات في غياب وجود تصويت من كامل هيئة مجلس النواب، الذي يخول سُلطة أشبه بالإجراءات القضائية في المحاكم.
خامساً: أوكرانيا فقط
تفضل بيلوسي أن ينصب التركيز في اتهام ترمب على قضية أوكرانيا فحسب، ما من شأنه أن يساعد في تسريع الإجراءات وتوحيد غالبية الديمقراطيين. وهذا ما سيعني تجاهل قضية التدخل الروسي في الانتخابات، التي بذل الديمقراطيون عليها كل جهدهم وطاقتهم طوال الأشهر الماضية.
بيلوسي وجهت ست لجان للبدء في التحقيقات، على الرغم من أنهم لن يعملوا جميعاً على فضيحة أوكرانيا. وهو ما قد لا يرضي القاعدة الشعبية للديمقراطيين، التي تابعت فشل الحزب في تحويل قضية التدخل الروسي إلى اتهام لترمب بهدف عزله.
لكن إضافة فقرات أخرى للتصويت عليها في الاتهامات أمام مجلس النواب بكامل هيئته، قد تبطئ الإجراءات التي تريدها بيلوسي سريعة وفاعلة.
حتى اللحظة من غير الواضح ما الذي يعتزم الديمقراطيون فعله.
سادساً: شهود البيت الأبيض
وفقاً لشكوى عنصر الاستخبارات، فإن هناك نحو 12 مسؤولاً في البيت الأبيض استمعوا إلى المحادثة الهاتفية بين ترمب وزيلينسكي ودونوا فحوى المحادثة.
وحسب تصريحات ديني هيك، النائب الديمقراطي في لجنة الاستخبارات، فإنه يعتزم تحري الحقيقة عبر استدعاء من استمعوا للمحادثة للشهادة، وكذلك استدعاء من ورد اسمهم في شكوى عنصر الاستخبارات.
ومن المؤكد أن بعض الشهود سيرفض تقديم الدليل وهو أمر قد يصل في النهاية إلى المحاكم لتحسمه. كما أن المحكمة ستقرر إذا كانت ستقبل إعلان بيلوسي بدء التحقيق في اتهام ترمب كدليل على أن مجلس النواب منخرط في إجراء قضائي. وهكذا، ليس من الواضح ما إذا كان النواب الديمقراطيون سيتمكنون من الاستماع إلى جميع الشهود.
سابعاً: المُبَلِغ
يشير كثيرون إلى أن عنصر الاستخبارات الذي قام بالتبليغ عما يعرفه حول اتصال ترمب بالرئيس الأوكراني، هو أحد عناصر الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي)، إلا أن هويته لا تزال سرية.
لكن ذلك لن يستمر طويلاً، لأن المدافعين عن الرئيس ترمب يرغبون في معرفة هويته لفحص ما إذا كان منحازاً ضد الرئيس، خصوصاً أن المفتش العام وعلى الرغم من تأكيده على مصداقية الشكوى وأهميتها، إلا أنه أشار أيضاً إلى وجود شبهة انحياز في جزء من الشكوى.
وسيسعى الجمهوريون إلى التدقيق في هذا الجانب، بينما يتوقع أن يدحض الديمقراطيون هذه الدعاوى، باعتبار أن العقيدة السياسية للمُبَلِغ لا علاقة لها بما إذا كانت المعلومات دقيقة أم لا.
ثامناً: ما فعله بايدن
منذ تفجر "فضيحة أوكرانيا"، أصبح من الشائع أن تسمع الديمقراطيين يعلنون في وسائل الإعلام أنه لا يوجد دليل على تورط نائب الرئيس السابق جو بايدن أو نجله هانتر في أي أفعال خاطئة خلال عمل الإبن عضواً في مجلس إدارة أكبر شركة خاصة أوكرانية في مجال الغاز والنفط.
لكن هذه الدعاوى سيتم التدقيق في صحتها عن قرب خلال إجراءات اتهام الرئيس. ففي نهاية المطاف، إذا كان ترمب يشير إلى قضية فساد خلال محادثته الهاتفية مع نظيره الأوكراني، فإن ذلك سيضفي شرعية على مبعث قلقه، حتى لو كان سيستفيد سياسياً من التحقيق مع عائلة بايدن. كما أن ذلك سيجعل فكرة إزاحة ترمب بسبب مخاوفه تلك سخيفة جداً.
ويبدو أن هناك اهتماماً كبيراً بين الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء لمعرفة المزيد عن طبيعة عمل ونشاط نجل بايدن في أوكرانيا، خلال تولي بايدن منصب نائب الرئيس في عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
ويتوقع مراقبون نشوب معركة مع أي حقائق جديدة قد تظهر في قضية بايدن، حيث سيؤكد الديمقراطيون أن بايدن ونجله لم يرتكبا أي مخالفات أو أن أفعالهما ليست ذات علاقة بقضية اتهام ترمب، في حين أن الجمهوريين سيحاولون اكتشاف أي سلوك غير مناسب لبايدن ونجله كي يستخدمون ذلك في الدفاع عن الرئيس.
وهكذا ستساعد المحددات الثمانية السابقة في إلقاء الضوء على السؤال الأهم والرئيس وهو: هل تصرف ترمب بشكل غير مناسب مع زيلينسكي؟ وإذا كان قد فعل ذلك، هل كان سوء التصرف من النوع الذي يستحق اتهام الرئيس وعزله من منصبه؟
يريد الديمقراطيون التحرك بسرعة في طريق الاتهام والعزل، لكن تأمين إجابات على هذه الأسئلة سيستغرق بعض الوقت.