ملخص
أراد بايدن من مخاطبة الشعب من المكتب البيضاوي أن يحقق بعضاً مما يحتاج إليه في هذه الفترة: الحفاظ على كرامته ونقل الرواية التي يريد أن يعرفها الشعب عن رئاسته، ودق ناقوس الخطر من تهديدات المستقبل.
عندما يريد الرؤساء الأميركيون مخاطبة مواطنيهم في شأن مهم يمسّ أمنهم ومستقبلهم، فإنهم يختارون الجلوس أمام الكاميرات من المكتب البيضاوي، وقد بدأ الرئيس الـ 31 هربرت هوفر ذلك التقليد ليتحدث عن جهوده في الحد من الأسلحة في العالم، وسار على خطاه دوايت أيزنهاور عندما أعلن إرسال القوات الفيدرالية إلى أركانساس لتنفيذ قانون إلغاء الفصل العنصري في المدارس، ولا يزال الأميركيون يتذكرون خطاب جورج دبليو بوش بعد هجمات الـ 11 من سبتمبر (أيلول).
وبالأمس اختار جو بايدن المكتب البيضاوي وخلفه صور عائلته وابنه الراحل ليرسل "تلويحته الأخيرة" بعد انسحابه الدرامي الأسبوع الماضي من انتخابات عام 2024، فكان الخطاب من المكتب البيضاوي الطريقة الأمثل للرئيس الـ 46 في الدفاع عن إرثه، بعيداً من صخب التجمعات الانتخابية التي لم يعد يسعفه صوته فيها، فتأثير الأعوام الثلاثة ونصف العام الماضية في البيت الأبيض بات واضحاً عليه، إذ لم يعد الشاب اليافع الذي جاب قاعات الكونغرس، ولا الجد النشط الذي فضّله باراك أوباما ليكون نائبه، ووصفه بأن "خيار العقل" لا القلب.
منعطف للبلاد وبايدن
أراد بايدن من مخاطبة الشعب من المكتب البيضاوي أن يحقق بعضاً مما يحتاج إليه في هذه الفترة: الحفاظ على كرامته ونقل الرواية التي يريد أن يعرفها الشعب عن رئاسته، ودق ناقوس الخطر من تهديدات المستقبل.
وحذر الرئيس الديمقراطي من أن أميركا أمام منعطف تاريخي، ولذلك قرر تأييد نائبته كامالا هاريس كمرشحة بديلة، وقال إن "أفضل طريق للأمام هو تسليم الشعلة إلى الجيل المقبل"، وإن حماية الفكرة الأميركية تعتمد على نتيجة الانتخابات المقبلة، فإما أن تختار أميركا بين "المضي قدماً أو الرجوع للوراء، بين الأمل والكراهية، وبين الوحدة والانقسام"، وبعبارة أخرى بين هاريس ودونالد ترمب.
لكن ما أغفله بايدن (81 سنة) هو المنعطف الشخصي الذي يمر به، فقبل أيام من انسحابه كان الرئيس يجوب الولايات لحشد الدعم، يخطب في تجمع انتخابي ويصافح أنصاره في متجر، في حين يواجه اليوم واقعاً صعباً، فحملته الانتخابية لم تعد باسمه، ولا المندوبون الديمقراطيون الذي يقارب عددهم 4 آلاف سيصوتون له، وكل ما بقي له ستة أشهر في حكم أميركا، وبيانات إنشائية كثيرة تحتفي بتنحيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبدا واضحاً في خطابه الأخير أن بايدن يريد من الأميركيين أن يركزوا على العقود الخمسة التي قضاها سياسياً، فقال "لقد كان شرف حياتي أن أخدم هذه الأمة لأكثر من 50 عاماً"، لكن مهمة الرئيس في محو الـ 24 يوماً الماضية من تاريخه سيكون صعباً، فمن المناظرة إلى بيان الانسحاب أحداث وانقسام لم يشهدهما الحزب الديمقراطي منذ عام 1968 عندما انسحب ليندون جونسون من الانتخابات على خلفية حرب فيتنام.
كل شيء تغير بعد المخاوف حول تدهور قدرات بايدن الذهنية، والتي أثارت قلقاً لدى قيادات الحزب الديمقراطي حيال قدرته على الفوز، وهو قلق دفع رئيسة مجلس النواب السابقة نانسي بيلوسي إلى قيادة الحزب للإطاحة به، ولم تكن تبدي أي تعاطف وراء الكواليس، وفي إحدى المكالمات بينهما أصر بايدن على أنه أقوى مرشح لهزيمة ترمب، وقال إن استطلاعات الرأي ترجح فوزه، فطلبت بيلوسي أحد مستشاريه بالاسم، وسألته عن أية استطلاعات يتحدث الرئيس؟
وفي العلن فرضت بيلوسي مزيداً من الضغط على الرئيس للتنحي بطريقة ذكية عبر التحدث عن الانتخابات في البرنامج التلفزيوني المفضل لبايدن "مورنينغ جو" على "أم أس إن بي سي"، وفي دوائر واشنطن يُعتقد أن موظفي البيت الأبيض يختارون الظهور في هذا البرنامج كي يشاهدهم بايدن، وفي البرنامج نفسه صرحت بيلوسي أن الرئيس "يجب أن يتخذ قراراً لأن الوقت ينفد"، على رغم أنه أكد مراراً أنه حسم قراره بالترشح.
وداع طويل
تقول "نيويورك تايمز" إن بايدن كان يعلم دائما أنه سيلقي خطاباً وداعياً كهذا، لكنه كان يأمل في أن يحدث ذلك بعد أكثر من أربعة أعوام من الآن، ولذلك فإن إطلالته في المكتب البيضاوي أمس ليست إلا بداية "وداع طويل".
وقالت الصحيفة إن الخطاب عبّر عن شخصية بايدن، فقد شمل الاحتفاء بأميركا والأسرة، وافتخاره المنتقى بسجل إدارته، والعبارات الكبيرة حول "المنعطف وإنقاذ الديمقراطية".
وما أشارت إليه الصحيفة أيضاً هو "صوت الرجل العجوز الهادئ الأجش الذي لم يعد يسيطر على الغرفة كما كان في الماضي"، ومضت تتحدث عن تجاهل بايدن في خطابه لأية إشارة إلى كيفية اتخاذه قرار الانسحاب، وما إذا كان قد تأمل في سبب وصوله إلى لحظة مهينة كهذه، على رغم أن الأيام والأسابيع الماضية شهدت صدمات شخصية وسياسية أدت إلى نهاية مترددة لمسيرته السياسية منذ نصف قرن.
"مؤامرة" التستر
ولم يتحدث بايدن عن الصدمة من تخلي الحزب الديمقراطي عنه وتحول النخبة الإعلامية والسياسية المنتمية لحزبه إلى خصم، وعلى رغم أنه لم يظهر مشاعره إلا أن مشهد عائلته حوله في المكتب البيضاوي والوجوه الحزينة والدموع تحكي الكثير. ومما زاد تاريخية اللحظة أنه لم يحدث قط أن انسحب رئيس أميركي من الانتخابات في وقت متأخر إلى هذا الحد، فكيف وصلت أميركا إلى هذا الوضع؟
تجيب الباحثة في مؤسسة "هوفر أيان" هيرسي آلي بأن "الأزمة السياسية التي تعصف الآن بالديمقراطيين كارثة من صنع أيديهم، ولم تكن مؤامرة للتغطية على مدى خرف بايدن، بل كانت أقرب إلى عمل غريب من أعمال الخداع الذاتي الجماعي".
وأوضحت آلي أن التدهور العقلي والجسدي للرئيس بايدن لم يكن سراً وكان واضحاً لأي شخص مبصر، فالرئيس كان يعاني تلعثم الكلام ويرتكب عدداً لا يحصى من الهفوات والأخطاء خلال المؤتمرات الصحافية والمناسبات العامة، حتى إنه كان يكافح في بعض الأحيان للقراءة من جهاز التلقين، وأمام ذلك كله لم يقدم البيت الأبيض إلا أعذاراً واهية، مثل أنه يعاني التأتأة منذ صغره أو إرهاق السفر.
وقالت الباحثة الأميركية إن البيت الأبيض حاول التستر على تدهور قدرات بايدن الجسدية والذهنية، مستشهدة بما كان يتعرض له مراسلو الصحف والقنوات في البيت الأبيض من التنمر عندما يكتبون أي شيء عن عمر بايدن خلال عامي 2022 و2023.
وفي الـ 19 من يوليو (تموز) الجاري كتب النائب في الكونغرس سيث مولتون أنه عرف بايدن منذ أعوام، ومن دونه لم يكن ليفوز بمنصبه السياسي، مستذكراً دعوة الرئيس له واتصالاته من وقت لآخر، ومع ذلك فإن بايدن لم يتعرف على مولتون عندما التقاه في الاحتفال بالذكرى الـ 80 لـ "إنزال نورماندي"، وهو اليوم نفسه الذي نشر معارضو بايدن لقطات له قالوا إنها تظهر تدهوره الإدراكي.
وقالت آلي إن الدرس المهم الذي يمكن تعلمه من انسحاب بايدن هو أن "المؤسسة بأكملها كذبت على الأميركيين في شأن صحة بايدن، وكذب كثير منهم حتى اللحظة الأخيرة، وقد أدت كل مجموعة دوراً في هذه اللعبة، البيت الأبيض والصحافة والسياسيون والقاعدة الليبرالية، وعاقبوا أي شخص تجرأ على الخروج عن الخط"، مضيفة "لقد تمسكوا بالكذبة التي رووها، كما أظن، لأنهم كانوا يعرفون أن الكذبة تورطهم أيضاً، وسيكون الأمر مختلفاً إذا كانت المناظرة هي أول صدع في سردية فريق بايدن، لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد كان الجميع خارج الفقاعة الليبرالية يعرفون أن بايدن عانى تدهوراً عقلياً وجسدياً حاداً منذ بداية رئاسته، وكان السؤال الوحيد الذي طرحه معظم الناس هو إلى أي مدى؟".
وأوضحت أن "حملة ترهيب الصحافة كان محكوماً عليها بالفشل في نهاية المطاف، فبعد المناظرة في يونيو الماضي، وهو الحدث الذي بادرت بتنظيمه شبكة 'سي إن إن' الليبرالية، انهار السد".
وواجه بايدن الشكوك المثارة قائلاً إنه على رغم "تبجيله منصب الرئاسة لكنه اتخذ قرار الانسحاب لأنه يحب بلاده أكثر، ويرى أن "الدفاع عن الديمقراطية التي تقف على المحك أهم من أي منصب"، مشيراً إلى أن "هذه المهمة المقدسة في تحسين اتحادنا لا تتمحور حول نفسي، بل هي من أجلكم ولعائلاتكم ومستقبلكم".
