Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما سر استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية قبل الحرب وبعدها؟

الأحداث الأخيرة كان من شأنها أن تنعكس سلباً وعصفاً على سوق العملات، لكن هذا لم يحدث، فما السبب؟

قبل الحرب الأخيرة بين إسرائيل و"حزب الله"، خلالها وحتى بعد انتهائها بقي سعر صرف الليرة على المستوى نفسه (ا ف ب)

ملخص

يرفض الاقتصاديون في لبنان وضع استقرار سعر الصرف وعدم تأثره بالحرب الأخيرة في خانة التعافي، لأن "التعافي يعني دخول المؤشرات الاقتصادية مرحلة النمو الحقيقي، واستقطاب الودائع الأجنبية، وقدوم الاستثمارات الخارجية، وقطاع مصرفي موثوق وقوي، وليس اقتصاداً نقدياً".

"هل يعكس استقرار سعر صرف الدولار بدء التعافي الاقتصادي في لبنان؟"، سؤال مشروع يعكس حال الاستغراب التي يعيشها اللبناني بفعل استقرار سوق القطع، وهو سوق شبه رسمية يتم بين مصرف لبنان وأطراف آخرين، على رغم الحرب العاتية التي شهدتها البلاد، في مقابل الحركة العنيفة التي شهدتها سوق الدولار في الفترة السابقة، وظهور بوادر السقوط الحر لسعر الليرة اللبنانية عام 2019- 2020، الذي انتهى باحتجاز ودائع المواطنين، وشبه إفلاس الدولة اللبنانية التي توقفت عن سداد اليوروبوندز.

في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، أطلق "حزب الله" ما قال إنها "حرب إسناد" لقطاع غزة، وهي حرب استمرت على نمط مضبوط لغاية منتصف سبتمبر (أيلول) 2024، حين صعدت إسرائيل بصورة كبيرة وبدأت معها الحرب الفعلية، التي ترجمت عبر تفجير أجهزة الـ"بيجرز"، اغتيال قيادات كبيرة من الحزب ومن بينهم والأمين العام السابق حسن نصرالله وبعده هاشم صفي الدين.

هذا التصعيد انتهى في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) مع إعلان وقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً بين إسرائيل ولبنان، وبدء آليات تطبيق القرار الدولي 1701. 

كل تلك الأحداث كان من شأنها أن تنعكس سلباً وعصفاً على سعر الصرف، مما لم يحدث، فما السبب؟

خسائر كبيرة من دون تراجع

أدت الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى خسائر هائلة طاولت الاقتصاد اللبناني. فقد خلف تدمير البنى التحتية، بحسب تقرير البنك الدولي، خسائر تقدر بأكثر من 8 مليارات دولار أميركي. كما تضرر قطاع الإسكان إلى حد كارثي، إذ دمر أو تضرر أكثر من 100 ألف منزل، بكلفة تصل إلى 3.4 مليار، فيما تعرضت قطاعات التربية والبيئة والصحة إلى خسائر تقدر بنحو 5 مليارات.

ناهيك بتدمير سلاسل التوريد وطرق التجارة، وهو ما فاقم الوضع الاقتصادي، إذ أغلقت عديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة أبوابها، وفقد 166 ألف شخص وظائفهم.  

وفي السياق قدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وصول البطالة إلى نحو 32 في المئة نهاية عام 2024، وتقلص حجم الاقتصاد اللبناني بنسبة سالب بلغت 6.6 في المئة، مع توقع مزيد من الانكماش في الأعوام المقبلة، مما سيفاقم الانكماش الاقتصادي الحاد المستمر منذ أعوام، مما سيضاعف معاناة 80 في المئة من السكان.

ولكن ما أثار استغراب المحللين والمواطنين غير المدركين في زوايا الاقتصاد وتفاصيله، أن تلك الخسارات والمؤشرات السلبية لم تنعكس بصورة مباشرة على سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وهو أمر لم يعهده اللبناني في مراحل سابقة، عندما كانت الأزمات والحروب تؤدي إلى انهيار سوق القطع كما حصل خلال ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الـ20. 

الليرة ليست بخير

عاشت الليرة اللبنانية "مرحلة العز" خلال مرحلة الانتعاش الاقتصادي والمصرفي للبلاد التي استقطبت الودائع العربية، والاستثمارات الأجنبية، ومع انطلاق عملية بناء المؤسسات في عهد الرئيس فؤاد شهاب حيث تراوح سعر الصرف من ثلاث ليرات.

لكن هذا الرقم تبدل ووصل إلى خمس ليرات عام 1982 عقب الاجتياح الإسرائيلي في لبنان، وبلغ عتبة الست ليرات في 1984 قبل بدء المسار الانحداري الذي وصل عام 1992 إلى 2382.

لكن ومع الحكومات التي تلت انتهاء الحرب، تم تثبيت سعر الصرف عند مستوى 1507 ليرات مقابل دولار أميركي واحد، واستمر هذا التثبيت حتى خريف عام 2019، وحينها بدأ التراجع ووصل خلال أشهر إلى 140 ألف ليرة مقابل الدولار، ثم انخفض خلال السنتين الماضيتين لمستوى الـ90 دولاراً تقريباً، ولا يزال اليوم عند هذا المستوى.

الحماية للأصفر؟

فطن رجال الدولة والاقتصاد في لبنان إلى أهمية الحفاظ على الليرة، ودعمها باحتياط من المعدن الأصفر للأوقات الصعبة. يؤكد الباحث الاقتصادي بلال علامة، "تقدر قيمة الذهبي اللبناني بقرابة 25 مليار دولار أميركي، وهو واحد من أهم الاحتياطات المالية في العالم العربي، وقد بدأت مرحلة الشراء في عصر الرئيس فؤاد شهاب، واستكملت العملية في عهد الرئيس إلياس سركيس، وعد بمثابة الضمانة للحفاظ على الليرة اللبنانية، وتعزيز الاقتصاد اللبناني".

مع الانهيار المستمر لسعر صرف الليرة، والتراجع الاقتصادي الكبير، اقترح بعض الوزراء والساسة اللجوء لتسييل جزء من الأونصات الموجودة لدى المصرف المركزي أو في الولايات المتحدة إذ يوجد الثلث في "قلعة نورث فوكس" وفق النظام العالمي لتحسين أداء العملة الوطنية وتحديد سعر صرف الدولار والعملات، ولكن لم تنتقل تلك الدعوات إلى موضع التطبيق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يؤكد علامة، "ليست المرة الأولى التي تبرز المحاولات للمساس بالمخزون الذهبي، وخلال عهد الرئيس أمين الجميل، بادر الرئيس السابق لمجلس النواب الراحل حسين الحسيني، بالتعاون مع رئيس الحكومة سليم الحص عام 1986، لإقرار قانون تجميد التصرف بالمخزون من الذهب، من ثم لم تعد هناك إمكانية للتصرف به إلا بقانون جديد وبموافقة الغالبية المطلقة أعضاء مجلس النواب، مما جعله بمثابة الضمانة لليرة اللبنانية". من هنا، "لا ينصح بالمساس بالذهب، لأن وجوده يؤمن حداً أدنى من البقاء للعملة الوطنية" يقول علامة.

الدولار عملة لبنان

تشهد الأسواق اللبنانية تعاملاً كاملاً بالدولار، وبات أصحاب المتاجر يسعرون بضائعهم "من البابوج إلى الطربوش" بالعملة الخضراء. ويجزم الاقتصاديون أن "لبنان بلغ مرحلة الدولرة الشاملة المطلقة، بعد عقود من الدولرة النسبية" بحسب الباحثة الاقتصادية ليال منصور. وتنطلق منصور من "عدم تأثر سعر صرف الليرة بالحرب الإسرائيلية على البلاد"، لتؤكد أن "الليرة أصبحت وكأنها عملة لبلد آخر بسبب الاعتماد المطلق في التعاملات على الدولار"، مشيرة إلى تطبيق حاكمية المصرف المركزي صيغة مشوهة من الدولرة الشاملة ونظام مجلس النقد الذي يعرف بـ"Fake currency board".

أدت تلك الإجراءات إلى "تحويل الدولار إلى عملة لبنان ووقف الاستعانة بالليرة الوطنية" بحسب ليال منصور، قائلة "لو استمرت الحرب لأشهر وأعوام مقبلة، ما كان سعر الصرف سيتغير لأنه لم يعد لليرة اللبنانية دور، وخرجت من دائرة التبادل بين الليرة والدولار وفق آليات السوق والعرض والطلب"، "في المقابل نجد أن الشيكل الإسرائيلي والليرة السورية والجنيه المصري عملات تتأثر بحركة السوق، ويتأثر سعر صرفها سلباً وإيجاباً بأية واقعة أو حدث يمكن أن يعكر هدوء واستقرار البلاد، لأن تلك العملات هي العملة الوطنية والمستخدمة في التعاملات وهناك إلزامات قانونية للمواطنين".

وتقدم منصور أمثلة من الحياة الواقعية، إذ تحدد أسعار السلع، وتدفع الفواتير والسندات، وتجبى بعض الضرائب بالدولار الأميركي، ولا وجود للعملة الوطنية في عمليات التسعير، و"لا مجال لخط العودة". 

الدولرة ظاهرة قديمة

ليست الدولرة بالحدث الطارئ في لبنان، إذ تحظى العملة الخضراء بحضور دائم. وفي وقت كانت حيازة الدولار تشكل جريمة يلاحق بها المواطن في بعض دول المحيطة، تعامل اللبناني بحرية بالدولار في تعاملاته الاقتصادية اليومية بنسبة 75 في المئة. تؤكد منصور "وجود اختلافات عميقة بين الاقتصادات المدولرة وتلك التي تكافح العملات الأجنبية، على المستوى التشريعي والنفسي والاقتصادي. ففي لبنان، لم نكن أمام سوق سوداء للدولار، بل يمكن الحديث عن سوق موازية بسبب وجود أكثر من عملة معترف بها في البلاد". وتضيف، "يشهد لبنان تطبيقاً فعلياً على أرض الواقع لنظام الدولرة الشاملة بحثاً عن عملة مستقرة وثابتة بسبب موت العملة اللبنانية، فيما تتهرب السلطة التشريعية من إقراره في القانون"، و"لا يعقل أن تتحول الليرة عملة للبخشيش ولقاء بدل الوقوف فقط". 

التعافي المزيف

يرفض الاقتصاديون وضع استقرار سعر الصرف وعدم تأثره بالحرب الأخيرة في خانة التعافي، لأن "التعافي يعني دخول المؤشرات الاقتصادية مرحلة النمو الحقيقي، واستقطاب الودائع الأجنبية، وقدوم الاستثمارات الخارجية، وقطاعاً مصرفياً موثوقاً وقوياً، وليس اقتصاداً نقدياً، ولا وجود لأي دور للمصارف في عمليات التسليف، وتحريك العجلة الاقتصادية، وعمليات الإدخار والسداد، ناهيك بتأجيل عملية إعادة الهيكلة ورد الودائع بغية تخفيف الخسائر عن عاتق أصحاب البنوك"، بحسب ليال منصور التي تعبر عن عدم ثقتها بقيام السلطة اللبنانية بإجراءات إصلاحية وتصحيحية واستمرار نهج مماطلة مستمر بسبب عدم الجدية.

في سياق متصل، يتوقف اقتصاديون عن أسباب أخرى أدت إلى استقرار سعر صرف الليرة خلال الحرب الأخيرة، ومن بينها قيام حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري بإيقاف عمليات شراء المركزي للدولار من السوق، وأوقفت كل منصات الصرف كتلك التي كانت تحمل اسم "صيرفة"، في المقابل يركز المصرف المركزي اليوم على بيع الليرة اللبنانية لمن يطلبها.

ناهيك بقيام مصرف لبنان بإصدار تعاميم أتاحت لمجموعة من المودعين بالحصول على جزء من ودائعهم شهرياً، ولو بمبالغ محدودة مما خفف من الطلب على الدولار بصورة كبيرة.

ويتوقع مصرفيون أن يبقى سعر الصرف ثابتاً للمنظور، خصوصاً مع تخفيض البنك المركزي للكتلة النقدية بالليرة لتصل إلى 53 تريليون ليرة من نحو 60 تريليوناً في بداية الأزمة، مما أضعف قدرة المضاربين على التأثير بأسعار الصرف.

هل التعافي ممكن؟  

من جهته يأسف الدكتور بلال علامة إلى العشوائية في السياسات الحكومية التي انعكست سلباً على الوضع الاقتصادي والمالي بصورة عامة، وهو ما انعكس بصورة مباشرة على تسريع انهيار سعر صرف الليرة وتراجع الثقة بها، متحدثاً عن إجراءات ضارة بالاقتصاد بدءاً بالتوقف عن دفع سندات ديون لبنان- اليوروبوندز، وهو ما يمكن اعتباره "إعلان إفلاس الدولة اللبنانية". ولا يستبعد علامة "إصدار عملة جديدة أو فئات كبيرة لاحقاً، فإن تلك من المسائل المرهونة باستعادة لبنان عافيته، وانتظام عمل المؤسسات، وإجراء تقييم جدي للعملة وحجم السيولة والتداول وحجم التدفقات".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير