حينما تقرر البنوك المركزية خفض أسعار الفائدة أو "تصفيرها" وربما تحويلها إلى "سالب"، فإنها تستهدف ذلك مجموعة من الأهداف، أهمها إنقاذ الاقتصاد من الركود ومواجهة التباطؤ وأيضاً وقف معدلات التضخم التي تتجه نحو الصعود بنسب كبيرة.
لكن في الوقت نفسه، فإن سياسة تصفير الفائدة أو التحول إلى الفائدة السلبية له عدة أضرار ومخاطر كبيرة، أهمها تأثير ذلك على أرباح البنوك التي لن تجد من يقبل عليها للاقتراض، وبالتالي تأثير ذلك على أموال المودعين التي ربما تتآكل بمرور الوقت مع تحول البنوك إلى الخسائر وربما إفلاس بعضها.
وخفض الفائدة بنسب كبيرة غالباً ما تلجأ إليه البنوك المركزية كأحد الإجراءات المهمة في احتواء التضخم الكبير، إضافة إلى امتصاص السيولة من السوق، لكنه في المقابل يعمل على نشر حالة من الركود وتوقف بعض الشركات عن توسعاتها الاستثمارية، وتكون المشكلة أكبر في المناطق والدول التي تعاني عدم الاستقرار، وبالتالي يلجأ أصحاب الفوائض المالية إلى البنوك التي هي الأخرى تخشى من المغامرة في الاستثمار خوفاً من خسائر متوقعة، وبالتالي لا يكون هناك أي مجال لاستمرار البنوك الصغيرة والمتوسطة بالعمل في ظل هذه الظروف التي قد تدفع بعضها إلى الإفلاس.
لماذا تلجأ البنوك المركزية إلى خفض الفائدة؟
وتعتبر فكرة الفائدة السلبية غريبة إلى حد ما، وقد تبدو فكرة خارجة عن المألوف، نظرا لمخالفتها المبدأ الأساسي للفائدة، حيث يعتبرها البعض فكرة مناقضة لمبادئ التمويل الأساسية، إلا أنها أصبحت في الآونة الأخيرة ركيزة أساسية في السياسة النقدية للمصارف المركزية في العديد من الدول.
وتهدف المصارف المركزية من اتباع مبدأ الفائدة السلبية، أي فرض "الفائدة" على الودائع، إلى تشجيع الإقراض والنشاط الائتماني والاستثمار والإنفاق، ما يحفز الاقتصاد ويرفع معدّلات التضخم التي تتراجع في ظل الركود الاقتصادي.
وتبرّر المصارف المركزية هذه الخطوة، على أنها المسرّع للعجلة الاقتصادية، لأنها تؤدي إلى زيادة الاستثمارات، وبالتالي الإنتاج، ما يؤدي إلى خلق وظائف جديدة.
وقد طبقت السويد مبدأ الفائدة السلبية في فبراير (شباط) 2015، وبدأت اليابان بتطبيقها في يناير (كانون الثاني) 2016 بهدف تحفيز النمو الاقتصادي، بينما اتبعت سويسرا هذه السياسة بداية عام 2015، بهدف كبح ارتفاع العملة. والبنك المركزي الأوروبي هو أوّل من طبّق نظام الفائدة السلبية في يونيو (حزيران) من عام 2014.
الفائدة السلبية تهدد أموال المودعين
في تقرير حديث لوكالة "بلومبيرغ أوبنيون"، ذكر أن البداية جاءت بالعوائد السالبة للبنوك المركزية، ثم للسندات الحكومية، وبعد ذلك إلى أثرياء المودعين، والآن أصبحت تطارد الجميع، وفي ظل هذه التراجعات: هل يمكن للمودعين في الخارج حماية أنفسهم من الاعتداء المقبل على أرصدتهم البنكية؟
ويبدو أن المستثمرين استسلموا للفكرة الجديدة المتعلقة بعدم وجود عوائد في سوق الدخل الثابت، وصرح صندوق الثروة السيادي في النرويج – وهو أكبر صندوق سيادي في العالم – بأنه عكس رهانه الذي طالما كان موجود والمتعلق بأن عوائد السندات سوف ترتفع.
كما أن سوق السندات الحكومية اجتازت مرحلة فارقة أخرى في الأسبوع الماضي عبر إقامة مزاد ألماني لطرح سندات خزانة طويلة الأجل صفرية العائد للمرة الأولى مرة على الإطلاق. وعبر عائد على السندات عند مستوى -0.11% فإن من قاموا بشراء تلك السندات سيضمنون أن يفقدوا المال حال ظلوا محتفظين بالسندات حتى مجيء فترة استحقاقها، وبعد دفع متوسط 103.61% من القيمة الاسمية للسند، فإنه سيتم منحهم 100% من القيمة الاسمية بعد 30 عاما.
لكن عددا كبيرا من المستثمرين من المحتمل أن يكونوا قد تعرضوا بالفعل إلى المعدلات السالبة حال كان لديهم أي مال مستثمر في صندوق دولي للدخل الثابت، ومع ارتفاع سوق السندات سالبة العائد لمستوى 16.5 تريليون دولار وحقيقة أن صناديق المعاشات مضطرة للشراء، فإن أي أموال يضعها الأشخاص جانباً استعداداً للتقاعد تسهم في إرساء قاعدة الفوائد السالبة أكثر فأكثر.
ولكن أكثر تهديد مباشر تشكله العوائد السالبة هو تهديدها للحسابات المصرفية للأفراد، حيث يتم بالفعل معاقبة الأثرياء في الدنمارك وسويسرا.
السياسة النقدية والاعتداء على أموال المودعين
مصرف "جايسك بنك" أعلن أنه سيفرض رسوماً على المودعين الدنماركيين ممن لديهم 7.5 مليون كرونة (1.1 مليون دولار) أو أكثر في حسابتهم، بينما ذكرت مجموعة "يو.بي.إس" أنها ستفرض رسوماً سنوية بنسبة 0.6% على الحسابات التي تبلغ قيمتها 500 ألف يورو
ولكن كم من الوقت سيمر قبل أن تخضع فيه الأرصدة الأقل إلى اعتداء السياسة النقدية؟ حيث أن تلك التهديدات على وشك أن تمثل جدالاً سياسياً رئيساً في الأشهر المقبلة.
ودفعت احتمالات أن يتجه البنك المركزي الأوروبي إلى خفض معدل الفائدة الرئيس لديه عند مستوى أقل من -0.4% المعمول به في الوقت الحالي في اجتماع الشهر المقبل، رئيس وزراء بافاريا، ماركوس سودر، للمطالبة بتطبيق حظر على البنوك الألمانية لمنع نقل التكلفة إلى المدخرين.
قبل أيام وفي تصريحات لصحيفة "بيلد"، قال "سودر"، إن الفوائد السالبة تعطي إشارة خاطئة بالكامل وتؤدي إلى هروب المدخرات، فهو يرغب في حماية قانونية للودائع التي تقل عن 100 ألف يورو. هذا المحور ناقشه أستاذ الاقتصاد في جامعة كولورادو، مايلز كيمبال، في ورقة بحثية نشرت في أبريل (نيسان) الماضي بالتعاون مع الاقتصادي في صندوق النقد الدولي ريتشار أجرول، وجاءت تحت عنوان "تمكين معدلات الفائدة السالبة من محاربة الانكماش".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقترح "كيمبال" أن تحفز البنوك المركزية البنوك التجارية على ضمان معدلات فائدة غير سالبة على حسابات الادخار والحسابات المصرفية الأصغر حجماً، وجعل الفائدة صفرية على للشركات والأثرياء، ولابد ألا يكون هناك معدلات فائدة سالبة للأشخاص أصحاب الإمكانات المحدودة.
وهناك طريقة أخرى أمام المستهلكين لمنع مدخراتهم من أن تكون مستنفذة بمعدلات الفائدة السالبة، وذلك عبر الانتقال إلى الاحتفاظ بالأموال الحقيقية وتخزينها تحت الفراش أو دفنها في الحديقة، وهناك دلائل بالفعل على أن الأفراد أصبحوا يخزنون العملات الفعلية.
وخلال العامين الماضيين، تجاوز عدد الأوراق النقدية المتداولة فئة 100 دولار لأول مرة نظيرتها ذات فئة دولار واحد، وعلاوة على ذلك فإن نحو 80% من تلك الأوراق النقدية موجود خارج الولايات المتحدة، بحسب بنك الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو.
وذكر تقرير حديث أعده البنك الفيدرالي في شيكاغو، أن ارتفاع الطلب على العملة الورقية في السنوات الأخيرة تزامن مع انخفاض معدلات الفائدة إلى مستوى صفر أو أقل من ذلك.
ارتفاع الطلب غير الشرعي على الأوراق النقدية
في تقرير لصندوق النقد الدولي، أشار إلى أن الشخص الأميركي العادي يحتفظ فقط بـ60 دولارا نقداً، لذلك فإن ارتفاع الأوراق النقدية فئة 100 دولار يبدو مدفوعاً بالكامل من الطلب الخارجي.
وشدد تقرير الصندوق على أن الطلب غير الشرعي على الأوراق النقدية ارتفع جزئياً بالتأكيد، نتيجة أن معدلات الفائدة والتضخم منخفضين بشكل استثنائي.
ومن المحتمل أن تجد البنوك المركزية طرقاً أخرى للتأكد من تحميل عبء سياسة معدلات الفائدة السالبة للمستهلكين، خصوصا أن هذه السياسة مصممة أساساً لإقناع المستهلك بالإنفاق بدلاً من الادخار.
وفي مقال نشره الشهر الماضي، طالب نائب رئيس بنك "مورغان ستانلي"، البنوك المركزية بتطبيق رسوم على عمليات سحب الأموال، معتبراً أنه عبر تنويع الرسوم على النافذة النقدية يمكن للبنك المركزي أن يدفع النظام للعمل عند أي معدل فائدة سلبي يختاره.
ولكن تخليص مدخراتك من العالم الافتراضي للنظام المصرفي الرقمي وتحويلها إلى قطع صغيرة من الورق ليس بلا مخاطرة، فمن الممكن أن تتعرض للسطو أو يحترق منزلك، كما أنه من المحتمل أن ننسى المكان الذي خبأت فيه نقودك.
ولذلك فإن الارتفاع بنسبة 25% في سعر الذهب في أخر 12 شهراً ربما يرجع جزئيا على الأقل إلى القلق بشأن أسعار الفائدة السلبية، ولكن إذا كنت لا تستطيع تحمل تكاليف التخزين الفعلي للمعادن الثمينة وكنت تشعر بشجاعة خاصة، فستكون هناك دائما عملة بتكوين التي يراها البعض ملاذاً آمناً.
الأزمة المالية في 2008 والاتجاه إلى خفض الفائدة
ومنذ الأزمة المالية العالمية في 2008 خفّض عدد كبير من البنوك المركزية نسب الفائدة إلى ما دون الصفر بعد سلسلة من التخفيضات المتتالية التي لم تكن كافية لتحفيز النمو وزيادة معدلات التضخم، وتعتبر اليابان آخر دولة تلجأ إلى سياسة الفائدة السلبية بعد أن قام البنك المركزي بهذه الخطوة سنة 2014، بالإضافة إلى عدة دول أخرى أوروبية كسويسرا والسويد والنرويج.
وتعتبر الفائدة السلبية من بين الأدوات غير التقليدية للسياسة النقدية التي لجأت إليها هذه الدول بعد أن فشلت الحلول الأخرى، خصوصا دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني نسب نمو ضعيفة، وانخفاضا في معدلات الاستهلاك. وتسعى هذه الدول من خلال تطبيق أسعار فائدة سلبية إلى إرغام البنوك التجارية على عدم الاحتفاظ برؤوس الأموال وضخها في النظام الاقتصادي لتخفيض كلفة الاقتراض وتشجيع الشركات والأفراد على الاستثمار والاستهلاك.
ومنذ مارس (آذار) من العام 2016، خفض البنك الأوروبي معدل الفائدة الرئيسة إلى 0%، ما يسمح للبنوك باقتراض النقد مجانا لمدة أسبوع واحد. لكن منذ صيف عام 2014، قرر البنك المركزي الأوروبي أن تدفع البنوك عندما تضع فائض السيولة على المدى القصير لديها، ويبلغ معدل الفائدة على الودائع حاليا -0.40%.
ويتعين على المصارف الاحتفاظ بأموال لدى البنك المركزي الأوروبي من أجل التعامل مع عمليات سحب يقوم بها العملاء. ومع ذلك، فإنها تودع عموما أكثر بكثير من المبلغ الإلزامي. وبالتالي، فإن أسعار الفائدة تشكل أداة حاسمة، ويعتزم البنك المركزي تحفيز النشاط الاقتصادي عبر خفض تكلفة الائتمان وإرغام المصارف التي تخزن الودائع بدلاً من إقراضها على دفع أموال.
لكن المشكلة تكمن فيما تواجهه المصارف منذ إدخال الفوائد السلبية على الودائع، فإن الأمر أصبح مكلفا بالنسبة لها. وتفيد التقديرات أن الفائدة الحالية على السيولة الزائدة، تكلف المصارف في منطقة اليورو ما لا يقل عن 7.5 مليار يورو سنوياً.
وعلى نطاق أوسع، تؤثر هذه السياسة بشكل مباشر على ربحية البنوك في أعمال الإقراض عن طريق تقليل الهامش في كل مرة بين معدل الفائدة الذي تقرضه وذلك الذي تعيد تمويل نفسها بواسطته، وفي الوقت نفسه فإنها تؤثر بشكل كبير على أموال المودعين التي تتآكل نتيجة خصم سعر الفائدة.