Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل كان كولومبوس واحدا من كبار مخادعي أو مخدوعي التاريخ؟

مصير "مكتشف" أميركا الذي نام على قناعته بأنه سلك طريقاً جديداً من غرب العالم إلى القارة الهندية

كولومبوس واصلاً إلى العالم الجديد (الموسوعة البريطانية)

ملخص

ملف كولومبوس لا يزال منذ رحيل الرجل محطماً منذ عام 1506 منسياً من الجميع، وانتزعت منه كل الألقاب التي كان أرضاه لفترة أن تسبغ عليه تاركة له مكاناً كبيراً في تاريخ البشرية

بعد سنوات طويلة من انتشار كتابه "غزو الفردوس" الذي أصدره وسط صخب كبير قبل عقود لمناسبة احتفال العالم بما لا يزل مصراً على تسميته "اكتشاف أميركا"، أي في ذلك الحين بمرور نصف ألفية من السنين بالتمام والكمال على ذلك اليوم الذي وصل فيه البحار الإيطالي الأفاق كريستوف كولومبوس وبحارته إلى العالم الجديد، معتقدين أن كل ما فعلوه إنما كان الوصول إلى الهند الآسيوية من طريق رحلة بحرية غربية تثبت أن الأرض كروية، إذ تساءل الكاتب المؤرخ كيركباتريك سيل عما إذا كان الوقت لم يحن بعد لإغلاق ملف كولومبوس بشكل نهائي وترك الرجل ينعم أخيراً في قبره وهو قرير العين هادئ النفس واثقاً مما فعل. فالحال أن ملف كولومبوس لا يزال منذ رحيل الرجل محطماً منذ عام 1506 منسياً من الجميع، وانتزعت منه كل الألقاب التي كان أرضاه لفترة أن تسبغ عليه تاركة له مكاناً كبيراً في تاريخ البشرية. طبعاً لن نعود هنا لتفاصيل ذلك الملف، ولكن لا شك أن في الإمكان دائماً العودة للقسم الأخير منه، أي إلى ما آلت إليه سمعة كولومبوس ومكانته في تاريخ العالم.

لماذا عوقب؟

ففي النهاية كحال مصير الرجل الذي رحل بائساً حتى إلى حدود لا يستأهلها، وذلك حتى على غرار كون اسم القارة التي اكتشفها في عالمها الجديد من دون أن يدري بذلك حتى، ليس اسمه بل اسم بحار إيطالي آخر قادته الصدفة بعد كولومبوس بحين إلى القارة نفسها فاعتبر مكتشفها وسميت باسمه، وكان على كولومبوس بالتالي أن يكتفي ببعض جوائز الترضية. ولكن القارة نفسها حملت اسم أميركا، والأدهى من هذا أن كولومبوس حمل لعنة التاريخ وموبقاته من دون أن يكون على علم بأي ذنب عوقب. وهذه الأمور تعود لتطفو على السطح بين الحين والآخر كما نعرف، وصولاً في العقود الأخيرة إلى ما يتداوله أنصار البيئة في العالم المعاصر بأسره من أن كولومبوس هو المسؤول عن أكبر جريمة بيئوية في تاريخ الكون، انطلاقاً من "اكتشافه" تلك القارة التي "لا شك في أن انتقالها من عالم الطبيعة البريئة إلى عالم أدخلها في حداثة الزمان هو المسؤول عن تلك الانقلابات الهائلة التي يعيشها كوكب الأرض وتتفاقم بالتدريج والتصاعد منذ 500 عام، بمعنى أن ذلك التدهور كله انطلق فيما كولومبوس قابع في سجنه يمضي فيه تعاسات واقع أيامه الأخيرة وسعادات افتخاره بالعثور على طريق الهند، غير أن تلك الإبادة البيئوية التي اعتبر كولومبوس مسؤولاً عنها ليست سوى الحلقة الأحدث في حلقات ذلك المصير الذي هو مصير كولومبوس. وكذلك حال واحد من الفصول الأخيرة، وهو يتعلق به شخصياً على أية حال. وهو يتناول هذه المرة بحوثاً في علم الجينات أجريت على ضوء أحدث التطورات في تحليل "الآ دي إن". فإذا كان كولومبوس على رغم آلامه وأحزانه مات مطمئناً إلى كونه كاثوليكي ورع من جنوى، ها هي تلك الدراسات تأتي لـ"تؤكد" بأنه ليس سوى يهودي من إشبيلية! وهو على أية حال أمر يشتغل منذ سنوات على "تأكيده" علماء في جامعة غرانادا يجمعون لعاب مئات من الأسبان من أبناء عائلة تدعى كولومبوس!

محو يوم وطني

ونعرف أن تلك الحكايات وما سبقها تالياً لليوم الذي وضع فيه الربان الأبدي قدميه على بر القارة الجديدة لم تتوقف، ومن فصولها الجديدة طبعاً حكاية "يوم كولومبوس الوطني" في الولايات المتحدة الأميركية. فمنذ زمن لم يعد هذا الاسم يروق لكثر من الأميركيين الذين باتوا يرون في كولومبوس عدو الأمة والطبيعة الرقم واحد، ومن هنا انكبوا على تبديل الاسم بكل الأشكال الممكنة يقودهم جماعات ذات قوة ونفوذ من سكان البلاد الأصليين المسمين عادة بـ"الهنود الحمر". وكانت المبادرة الأولى في مدن ومناطق عدة في كاليفورنا تحول اسم اليوم فيها إلى "يوم الشعب الأصيل"، وذلك بالتوازي مع إحضار أطنان من الدهان الأحمر راحت تلقى على عشرات التماثيل للراحل الكبير المنتشرة فيها. وكان لافتاً تعليق أطلقه للمناسبة ناشط بيئوي معروف يدعى راسل مينز، قال فيه إن "هتلر نفسه لن يبدو سوى مجرد صبي أزعر مقارنة بكولومبوس والضرر الذي تسبب به لتاريخ البشرية".

طبعاً نعرف أن كل هذا يتسم بالمبالغة، ولكن لا ننس هنا أننا في الولايات المتحدة بلد القياسات الضخمة والأحكام الأضخم، بل لعله يفسر لنا من جانب ما وبإلقائنا نظرة على ما يحصل في هذا البلد في زمن الانتخابات الرئاسية التي نعيشها اليوم بكل غرائبها، وأولها على سبيل المثال لا الحصر انحصار التنافس على المنصب بين عجوزين يكيل كل واحد منهما للآخر شتائم نابية لن تبرأ منها مرشحة أصغر سناً تسعى إلى أن تحل مكان الرئيس الذي تجاوز الـ80 من عمره.

انحطاط لغة الخطاب

ترى في بلد مثل هذا، بلد تنحط فيه لغة الخطاب السياسي إلى مستوى من الصعب العثور عليه في خطاب أعتى الدكتاتوريين. هل يعود من المدهش أن يكون على النحو الذي نصف مصير "المؤسس الحقيقي لهذا العالم الجديد"؟ سؤال لا بد من طرحه دائماً. وفي انتظار ذلك نعود لكولومبوس نفسه. فلئن كان كثر من الأميركيين يلعنونه الآن بوصفه أول مهاجر غير شرعي إلى القارة الجديدة، حمل إليها التحرش الجنسي والاغتصاب، ورد بالسيف على سكان البلاد الأصليين الذين ما إن فتحوا أذرعهم مرحبين به حتى شغل آلات القتل التي يحملها جنوده تبيدهم، فإن الأمر لم يخل أبداً ولن يخلو من كبار بين المفكرين ولا سيما الأوروبيون منهم الذين يسعون إلى تحويله لقديس، بمعنى إقناع الفاتيكان بتطويبه لقداسته. ومن هؤلاء طبعاً الكاتب الكاثوليكي الفرنسي الكبير كلوديل، الذي كتب عنه ذلك النص الذي من خلال استعراضه مصيره وأخطائه نفسها ركز على كونه شهيداً، بل من كبار شهداء التاريخ، وهو نص حوله الموسيقي داريوس ميلو إلى أوروتاريو يعتبر من أفضل ما كتب في فرنسا في القرن الـ20.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفاتيكان يرد

ولعل في مقدورنا عند هذه النقطة بالذات أن نعود قرناً بكامله للوراء وتحديداً لعام 1926 يوم ظهرت في أميركا فرقة أعلنت انتماءها إلى عنصريي الـ"كوكلاكس كلان"، أطلقت على نفسها اسم "فرسان كولومبوس" اعتبرت سيدها هذا "أول مهاجر حقيقي إلى القارة الجديدة"، بمعنى أنه بطل المسيحية الأول في ذلك العالم، مما يستدعي تطويبه قديساً. وهو على أية حال زعم جاء الرد عليه أول ما جاء من الفاتيكان الذي أصدر بياناً ذكر فيه أنه "لا يمكن بأية حال تطويب كولومبوس بالنظر إلى أن هناك فظاعات وجرائم عديدة يعزى إليه ارتكابها في البلدان والمناطق التي اكتشفها". وفي مقابل هذا الرد الفاتيكاني القاطع، حتى الآن في الأقل، قام نفر من أهل الفكر اليميني الأميركي يقولون "حسناً إذا كانت هناك صعوبات تاريخية وتقنية تحول دون تقديسه، فلنعترف له بكونه رائداً من رواد الحضارة والتنوير، في الأقل من خلال ذلك الاكتشاف الجغرافي الكبير الذي حققه حتى وإن لم يكن دارياً بما فعل - ونعرف أن عدداً كبيراً من الاكتشافات العلمية يحققها العلماء من دون أن يكونوا دارين بذلك!". وهنا أيضاً سرعان ما تأتي على هذا المطلب ردود تاريخية هذه المرة فحواها: "لئن سلمنا جدلاً بأن هذا صحيح يبقى أن ثمة براهين عديدة على أن آخرين سبقوا الربان الإيطالي في الوصول إلى أميركا و’اكتشافها‘، منهم القائد المنتمي إلى الفايكنغ إريك الأحمر الذي تشير كل الدلائل إلى أنه وصل حقاً إلى أميركا قبل كريستوف كولومبوس".

وهكذا في وقت يصرخ فيه مؤلف "غزو الفردوس" متأففاً من أن الوقت حان لإغلاق ملف كريستوف كولومبوس مرة وإلى الأبد، قائلاً: لقد كان حتى تاجراً فاشلاً، فهو الذي اعتقد نفسه وصل إلى الهند لم يدر أن مئات السفن كانت تعود منها شهرياً في ذلك الحين محملة بالذهب والتوابل صانعة حضارة العالم، فيما لم يصحب معه هو في درب عودته سوى حفنة من عبيد بائسين منعته الملكة إيزابيل حتى من بيعهم فلم يعرف ما يفعل بهم!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة