ملخص
تنشر "اندبندنت عربية" تفاصيل وثيقة سرية كشفت النقاب عنها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تعود لعام 1983 وخرجت إلى العلن عام 2010، وتتوقف عند وضع الجيش في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ لبنان الحديث وإمكاناته، وكذلك لا تغفل عن حضور إسرائيل في الجنوب وبيروت عسكرياً وحتى اقتصادياً.
بات خبز اللبنانيين اليومي منذ 10 أشهر الحديث عن المعارك القائمة حالياً في جنوب لبنان بين إسرائيل و"حزب الله"، التي تعد الأطول لناحية المدة الزمنية بين الطرفين، وأودت بحياة أكثر من 500 لبناني حتى الساعة، غالبيتهم عناصر من الحزب.
وفيما زاد اغتيالا الرجل الثاني في الحزب فؤاد شكر مساء أول من أمس الثلاثاء الـ30 من يوليو (تموز) الماضي في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت والزعيم السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية فجر أمس الأربعاء الـ31 من يوليو في طهران المشهد اللبناني الداخلي تعقيداً، باتت فرص التهدئة جنوباً بحكم المستحيلة أقله في المرحلة الراهنة، بعد أن كانت قنوات الاتصال بين الجانبين الأميركي واللبناني من جهة والأميركي والإسرائيلي من جهة أخرى تتحدث عن شروط، قد يقبل بها الطرفان أو ترفض ومنها تطبيق القرار 1701 وانسحاب مقاتلي الحزب وتحديداً قوة الرضوان كيلومترات عدة عن الحدود المباشرة مع إسرائيل، وانتشار الجيش اللبناني في البلدات الحدودية إلى جانب قوات حفظ السلام الدولية (يونيفيل).
وسط كل ما يحدث رفع كثر تساؤلات حول قدرة الجيش عدداً وعتاداً، على الانتشار في الجنوب وتسلم زمام المبادرة وتطبيق القرار الأممي، فيما أبدت دول غربية وتحديداً أميركا وفرنسا مراراً رغبتها في الوقوف إلى جانب الجيش اللبناني وتدريب آلاف العناصر الجديدة وتنظيم المؤتمرات الداعمة، لكن الخلافات بين الدول الغربية هذه نفسها حالت دون تنفيذ جزء من هذا الدعم على أرض الواقع، وسط الصراع القائم مع إسرائيل جنوباً.
التاريخ يعيد نفسه... بإخراج مختلف
كثيراً ما ردد اللبنانيون من عايش منهم الحرب الأهلية (1975-1990) أو تبعاتها المباشرة أي الجيل الجديد مقولة "التاريخ يعيد نفسه"، فيأخذ مثلاً تصريحاً لمسؤول ما قبل 50 عاماً وينشره اليوم لتجد أن غالبية ما يقال مطابق فعلاً للواقع الحالي، أو مثلاً عنوان في صحيفة لبنانية إن عدلت فقط تاريخ نشر عددها ليناسب تاريخ اليوم لوجدته مطابقاً للأحداث الراهنة، وغيرهما كثير.
الجيش اللبناني عدده وعتاده وانتشاره ودوره في الجنوب والتعامل مع قوات "يونيفيل"... ملف يحضر اليوم في الأزمة الراهنة، لكن تطرقت إليه أيضاً وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في وثيقة سرية يعود تاريخها لعام 1983، وتحديداً خلال الـ11 من مارس (آذار)، أي حين كانت منظمة التحرير الفلسطينية لا تزال في لبنان والاجتياح الإسرائيلي كان قد دخل شهره العاشر بين بلدات الجنوب والعاصمة بيروت.
تنشر "اندبندنت عربية" ما جاء في هذه الوثيقة الأميركية التي عدت حينها سرية وخرجت إلى العلن عام 2010، وتحمل رقم التصنيف "CIA-RDP85T00287R000700830001-5". وتتوقف في تفاصيلها عند وضع الجيش في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ لبنان الحديث وإمكاناته، وكذلك لا تغفل عن حضور إسرائيل في الجنوب وبيروت عسكرياً وحتى اقتصادياً.
قدرة الجيش اللبناني في الجنوب
يقول معدو هذا التقرير السري إنه منذ بداية العام الحالي (1983) أسهمت المساعدة الأميركية وعملية إعادة التنظيم الكبيرة التي قام بها قائد الجيش حينها الجنرال إبراهيم طنوس في تطوير قدرات الجيش اللبناني بطريقة ملحوظة، وضمن هذه التغييرات ما أتى على مستوى طاقم العمل وتم فصل عدد من الضباط غير الكفؤين والفاسدين.
ويقول التقرير إن المعدات التي زودت بها واشنطن جيش لبنان أسهمت في تدارك كثير من النواقص الرئيسة في أربعة ألوية من أصل 7 يملكها الجيش، ومعها بات الجيش اللبناني قادراً على التعامل مع أي تحد يواجهه، ويضيف "أي تسلل لمنظمة التحرير الفلسطينية سيكون على نطاق صغير. فحرب العصابات التي تخوضها منظمة التحرير الفلسطينية لا يمكنها أن تضاهي الجيش في القوة أو السلاح".
أما عن وجود الجيش في الجنوب، فيقيم التقرير الوضع بالقول إن مهمة الجيش اللبناني في مراقبة الجنوب ربما تكون أسهل مما تواجهه إسرائيل اليوم (خلال الاجتياح ووجودها في البلدات الجنوبية) مع فرضية استمرار التعاون من قوة الرائد سعد حداد.
وحداد كان ضابطاً في الجيش اللبناني وأنشأ عام 1976 ما يعرف بجيش لبنان الجنوبي أو جيش لحد، بهدف منع الامتداد الفلسطيني في الجنوب على حد قوله. وقوته التي ضمت مئات العناصر تلقت الدعم والتمويل من إسرائيل، وانتشرت عناصرها في بلدات جنوبية حدودية.
وفي هذا الإطار تذكر الوثيقة أن قوة حداد والتي هي في الأساس وحدة تابعة للجيش اللبناني "خضعت لتدريب ضعيف وتجهيز سيئ، وهي تعتمد على الجيش الإسرائيلي لدعمها".
عدد الجيش وألويته
وعن قدرات الجيش تقول الوثيقة "على رغم قدرته على مراقبة الجنوب بصورة فعالة، فإن الحفاظ على الأمن وبسطه في سائر أنحاء البلاد سينهك بصورة حادة الموارد البشرية للجيش اللبناني المؤلف من 22 ألف عنصر"، وتضيف أنه على المدى المنظور من شأن نشر لواء في المنطقة الأمنية الجنوبية ولواء في بيروت ولواء في سهل البقاع أن يترك الجيش اللبناني مع لواء واحد بقوة تقدر بـ70 في المئة، وثلاثة ألوية بقدرات منقوصة بصورة كبيرة لحراسة الحدود الشمالية ومراقبة بقية المناطق في البلاد.
"سيكون الجيش اللبناني في حاجة إلى سبعة ألوية بقدرة 100 في المئة لبسط سلطة الحكومة على الأراضي اللبنانية كافة"، خلاصة ذكرها التقرير الأميركي لحضور الجيش بفعالية في كل لبنان في تلك المرحلة، ويضيف أن "التوصل إلى حاجة سبعة ألوية يتطلب عامين في الأقل، فيما من شأن استيعاب أو ضم عناصر من قوة حداد واستخدام الـ7000 عنصر من قوات الأمن الداخلي أن يخفف من مشكلة الموارد البشرية، ولكنه لا يحلها".
واليوم يبلغ عدد المؤسسة العسكرية اللبنانية، التي تأسست عام 1945 بقيادة فؤاد شهاب القائد الأول لها، بحسب الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين 72 ألفاً، فيما كان العدد في السابق نحو 83 ألف عسكري. وبلغت موازنة الدفاع عام 2023 نحو 20838 مليار ليرة، أما خلال عام 2024 فقد بلغت 39307 مليارات ليرة.
ويتكون الجيش اللبناني من فروع القوات البرية والقوات البحرية والقوات الجوية.
نيات إسرائيل في جنوب لبنان
وفي سياق آخر، تتوقف هذه الوثيقة مطولاً عند سعي إسرائيل إلى سياسات اقتصادية وعسكرية وسياسية في جنوب لبنان، حتى أن بعضها سبق الاجتياح الذي حدث خلال يونيو (حزيران) عام 1982، وذلك ضمن هدف تل أبيب الواضح بمنع عودة هيكلية عسكرية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى المنطقة.
ويذكر التقرير أنه "بغية تحقيق هذا الهدف يعتقد الإسرائيليون أن منطقة جنوب نهر الأولي يجب أن تكون حزاماً عسكرياً عازلاً، حتى على حساب سلطة الحكومة المركزية اللبنانية. وهذا يتطلب شبكة من الوكلاء اللبنانيين بإشراف من الرائد حداد وحرية تحرك مطلقة لقوات الدفاع الإسرائيلية في الجنوب".
قوات يونيفيل ودورها عام 1983
لا يغفل التقرير الأميركي السري دور قوة حفظ السلام المتعددة الجنسيات التي تعرف بـ"يونيفيل" وتأسست عام 1978، إذ يقول إن إسرائيل تعد أن منع عودة هيكلية عسكرية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى المنطقة يتطلب عدم وجود قوات يونيفيل، فهي تعدها غير فعالة وهي على الأرجح ستتعارض مع قدرة إسرائيل فرض سيطرتها على الوضع.
وأيضاً يكشف الملف الأميركي أنه "بهدف تقوية قوة حداد في الجنوب بصورة أكبر، انخرط جيش إسرائيل في عمليات مضايقة مستمرة لقوات يونيفيل للحد من سلطتها في مناطق نفوذها. وتأمل تل أبيب على الأرجح أنه من خلال منع يونيفيل من تأدية مهامها، ستثبط عزيمة الدول المشاركة فيها من تجديد مهامها".
انخراط الإسرائيليين في الاقتصاد اللبناني
دخل اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان شهره العاشر في تلك الفترة، وأصبح الإسرائيليون منخرطين في جوانب الحياة كافة في جنوب لبنان. وعلى رغم أن كثيراً من النشاط الإسرائيلي مبرر من خلال ضرورات الاحتلال العسكري والوجود على الأرض، لكن يعكس عدد من تحركات الإسرائيليين في جنوب لبنان أهدافاً اقتصادية وأمنية وسياسية شاملة سعت إليها تل أبيب.
يدخل التقرير في السياسيات الاقتصادية الإسرائيلية حينها، ويكشف عن أنه "بالسرعة نفسها التي أمن جيش الدفاع الإسرائيلي المنطقة خارج حدود أرض قوة حداد، سافر رجال أعمال إسرائيليون إلى هناك لاكتشاف الفرص الاقتصادية المتاحة. وبحلول نهاية الصيف، بدأت السلع الإسرائيلية وبخاصة المواد الغذائية في الظهور في بلدات وقرى الجنوب اللبناني وكذلك في بيروت. وأدى الخلل في الاقتصاد المحلي... إلى تسهيل الدخول الإسرائيلي إلى الأسواق اللبنانية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "المعلومات الدقيقة عن مدى الانخراط الإسرائيلي الحالي في الاقتصاد الجنوبي اللبناني محدودة، ولكن التقارير الصحافية تقدر بأن القيمة الشهرية للصادرات الإسرائيلية إلى المنطقة تراوح ما بين 10 ملايين و70 مليون دولار... وقد بدأت السلع الإسرائيلية التي تم تسويقها تحت أسماء تجارية لبنانية الظهور في بلدان عربية أخرى".
وإضافة إلى تزويد مواد غذائية وسلع مصنعة بدأ الإسرائيليون أيضاً توسيع بعض الخدمات الرئيسة كطرقات الحافلات إلى المنطقة. وفتح مرفأ حيفا للتجار القادمين من جنوب لبنان كمرفأ يعفي من الرسوم الجمركية، وتذكر الوثائق "برتقال يافا ما زال يباع في بيروت".
سياسات إسرائيل العسكرية والسياسية
وتذكر وثائق السي آي إيه أن الإسرائيليين قاموا بعدد من الخطوات التي تهدف إلى مساعدة الرائد حداد ووحدته العسكرية المؤلفة من 1500 عنصر في تعزيز سلطته على الأراضي اللبنانية جنوب نهر الأولي. وحاولت إسرائيل إنشاء ميليشيات محلية بهدف منح الجيش الإسرائيلي مرونة لتقليب مجموعة ضد أخرى أو حتى ضد حداد في حال تعارضت أفعاله في مرحلة ما مع المصالح الإسرائيلية.
ويكشف التقرير "سلح الجيش الإسرائيلي أكثر من ست ميليشيات محلية تضم غالبيتها عدداً محدوداً من العناصر، ونطاق سلطتها محدود بمناطق صغيرة كمدينة صور".
أما سياسياً فقد سعت النشاطات الإسرائيلية في المجال السياسي إلى تقويض سلطة المؤسسات التابعة للحكومة المركزية في جنوب لبنان، والتي لم تتمتع أصلاً سوى بسلطة محدودة للغاية في المنطقة. وعينت تل أبيب فريق عمل مدنياً لجنوب لبنان بدأ تقديم بعض الخدمات التي كانت الحكومة اللبنانية مسؤولة عنها نظرياً.