Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روح الفنانة غايا تحلق فوق أنقاض مرفأ بيروت

ادغار دافيديان يكتب سيرة الضحية مسترجعا أحلامها التي تحققت

شموع عن نية ضحايا انفجار المرفأ في معرض آرت ليبانون (خدمة المعرض)

ملخص

عشية الذكرى الرابعة لانفجار مرفأ بيروت 2020، أصدر الكاتب والناقد الفرنكوفوني إدغار دافيديان كتاباً بعنوان "غايا"، يتناول فيه مأساة المهندسة والفنانة الأرمنية اللبنانية غايا فضوليان، التي حصدها الإنفجار. ويتناول مشروعها الفني الذي أكملته والدتها.

يصدر كتاب إدغار دافيديان "غايا" (دار آرت ليبان – كلمة) في الذكرى الرابعة لانفجار مرفأ بيروت الذي حصل في الرابع من أغسطس (آب) 2020، مستعيداً المشهد المأسوي الذي اجتاح المدينة وضواحيها، مخلفاً 235 ضحية بين أطفال وشباب وعجزة، عطفاً على 6500 جريح و300 ألف مشرد ولاجئ. وأحدث دماراً رهيباً في الأحياء والشوارع والأبنية والمرافق الحيوية، لم تشهده بيروت حتى في أوج حربها الأهلية. لكن الكاتب والناقد الفرنكوفوني شاء أن يقارب انفجار بيروت من خلال قصة إحدى الضحايا، وهي الفنانة والمهندسة الأرمنية الشابة غايا فضوليان التي حصدها منجل الانفجار في الـ29 من عمرها وفي عز عطائها الفني وطموحها الثقافي. غير أن الانفجار لم يتمكن من القضاء على أحلامها التي كانت بدأت في تحقيقها، بفضل أمها آني فارتيفاريان التي واصلت مشروع ابنتها الفقيدة بل مشاريعها وكأنها لا تزال حية. وتقول الأم لإدغار "غايا لم تمت، لقد رحلت إلى ناحية ما ولا أعرف جيداً أين. إنها رحلت لكن روحها إلى جانبي دوماً".

لا تنسى الأم بتاتاً اللحظات المأسوية التي عاشتها مع ابنتها عقب الانفجار وكيف أصيبت بشظايا الزجاج وراحت تنزف، وكيف راحت تتنقل بها من مستشفى إلى آخر بسيارتها، بعدما عجزت عن إيجاد سيارة للصليب الأحمر.وتنقلت الأم بها في ما يشبه جلجلة الآلام، من مستشفى القديس جاورجيوس في الأشرفية إلى مستشفى مار يوسف في الدورة ثم إلى مستشفى الأرز، فمستشفى أبو جودة في جل الديب. لكن الابنة لفظت روحها مع الدم الذي كان ينزف من فمها. لحظات قاسية جداً تفوق التصور، خصوصاً إذا ما استرجعنا المشهد الأبوكاليبسي الذي عاشته حينذاك بيروت والمناطق.

 أما المشروع الأساس الذي حققته غايا واستمرت به أمها، فهو عبارة عن بلاتفورم أو منصة رقمية وغاليري حقيقي وافتراضي في وقت واحد. وباتت هذه المنصة أو البلاتفورم تحمل اسم "أرت ديزاين ليبانون"، وقد انطلقت فعلاً وبات لها حضور مشرق في عالم الفن اللبناني والعالمي، إضافة إلى "غايا فودوليان ديزاين" و"مؤسسة غايا فودوليان".

كم تبدو الآم آني وفية لابنتها غايا التي لم تشأ أن تصدق أنها رحلت، فهي كما تقول للكاتب إن اللحظة الأكثر إيلاماً بالنسبة إليها هي عندما تتذكر الثامن من يوليو (تموز) 1991 وهو يوم مولد غايا، وليس يوم الرابع من أغسطس (آب) الذي انفتحت فيه الأرض وابتلعتها. ذكرى مولد غايا ما زالت حاضرة بقوة في وجدانها، وقد تكون هذه هي حال كل الأمهات اللواتي فقدن أولادهن في الانفجار. يجعل دافيديان من آني مثالاً يجسد الألم الأمومي عموماً. إنها بمثابة "الأم الحزينة" التي تضم ابنها الميت بعد إنزاله عن الصليب.

شاء الكاتب أن يتطرق في مطلع كتابه إلى مأساة الشعب الأرمني بُعيد المجزرة الرهيبة التي ارتكبها العثمانيون بين عامي 1915 و1916، فقتلوا الأطفال والنساء والرجال والعجائز، وشردوا الأحياء في بقاع الأرض. وهي من أقسى المجازر بل الإبادات التي شهدها التاريخ الحديث، وما زال الشعب الأرمني يدفع ثمنها الغالي، على رغم إصرار هذا الشعب على الحياة والصمود والتطور. كان أجداد غايا من الذين نزحوا ولجأوا إلى لواء الإسكندرون ثم انتقلوا إلى سوريا عبر دير الزور ثم إلى حلب وفي الختام إلى لبنان. ويتوقف عند تاريخ الأسرة رجالاً ونساء، وإلى نضالهم ومكانتهم التي تميزوا بها. أراد دافيديان أن يرسخ جذور عائلة آني وابنتها غايا عابراً مأساة الأرمن، وكأن موت غايا هو وجه من وجوه هذه المأساة.

يتطرق الكاتب إلى شخصية الأم آني، الناشطة الفنية والثقافية التي جعلت من الفن والثقافة هدفاً أساساً في مسيرتها، وقد أسست عام 2017 صالة عرض (غاليري) مهمة في شارع الحمراء سمتها "ليتيسيا"، وفتحت أبوابها أمام الفنانين اللبنانيين والعرب والعالميين. وقد عهدت إلى ابنتها غايا أن تشاركها إدارة الغاليري، فلبت طلبها ثم ما لبثت أن انسحبت عام 2020 لتتفرغ إلى مشروعها. وكان على غايا حينذاك، أن تواجه انتشار وباء كورونا الذي قلب الحياة رأساً على عقب، وجعل الناس يعيشون في حال من الخوف، منعزلين في بيوتهم، أو حذرين في خروجهم وتواصلهم بعضهم مع بعض. تحدت غايا هذه الظروف وكذلك الظروف المالية بعد سقوط سعر العملة اللبنانية وحجز المصارف أموال المودعين، مما سبب بأزمة كبيرة مالية واجتماعية ومعيشية. وتمكنت غايا من تأسيس البلاتفورم أو المنصة وانطلقت بقوة وعزم جامعة فنانين لبنانيين وعالميين، في هذه الصالة الافتراضية والحقيقية المفتوحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما شخصية غايا كما يرسمها الكاتب، فهي شخصية لطيفة جداً وخجولة ورقيقة وعذبة ومتحمسة ومندفعة، ولكن بوعي ورصانة. لم تكن تغادر الابتسامة وجهها، هي التي كتبت عبر "إنستغرام" ذات مرة: "هناك دوماً سبب للابتسام، فأوجدوه". التحقت غايا بمحترفات هيرميس في جنيف ودرست الفن والديزاين والهندسة طوال ثلاثة أعوام، ثم التحقت بجامعة "مازانغوني" الشهيرة في ميلانو فحصلت على شهادة أكاديمية وخبرة عميقة في فن الديزاين والتصميم. وكان حلمها أن تسافر إلى أميركا لتلتقي بعض أقاربها من الجالية الأرمنية وتتابع أحوالهم، لكن الحلم الأميركي لم يتحقق على عكس حلمها الفني والهندسي.

قد يكون كتاب إدغار دافيديان من أجمل الكتب التي يمكن أن تتناول مأساة انفجار مرفأ بيروت، على رغم الأسى والألم اللذين يحيطان به، وخصوصاً حكاية الفنانة والمهندسة الشابة غايا التي تمثل إحدى الشخصيات التراجيدية في هذه المأساة. وقد جمع الكاتب بين الأسلوب السردي المتهادي والسلس، والتوثيق التاريخي المختصر، واللغة المتفردة، المشبعة بالروح الشعرية والنفس المأسوي. لم يكتب دافيديان سيرة غايا فقط بل كتب سيرة ضحايا أبرياء، وسيرة حقبة هي من أقسى حقبات لبنان، وقد شفعها بسيرة العائلة الأرمنية وسيرة بيروت الفنية. كتاب إدغار دافيديان شهادة سردية وفية وعميقة ومتعددة الوجوه، نقرأ فيها صورة الذات والجماعة، في لحظة تاريخية باتت محفورة في الوجدان العام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة