ملخص
لعل الحادثة الأبرز في عمليات الخروق الأمنية هي عملية الموساد الإسرائيلي بالوصول والدخول إلى مخزن أرشيف البرنامج النووي السري في منطقة طورقوزاباد، والذي سمح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بعقد مؤتمر صحافي لشرح هذه الوثائق والكشف عن الشخصية المحورية في البرنامج النووي الجنرال محسن فخري زاده، ثم اغتياله بطريقة مركبة لم يكشف حتى الآن عن تفاصيلها الدقيقة والحقيقية.
البيان المقتضب الثالث الذي أصدره فريق التحقيق التابع لحرس الثورة الإيرانية حول عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية تحدث عن صاروخ قصير المدى أطلق على المبنى المحصن أمنياً والواقع في دائرة القصور الرئاسية المعروفة بمجمع سعد آباد شمال العاصمة طهران من مسافة كيلومتر ونصف، واستهدف الجناح الذي يقيم فيه الضيف الفلسطيني مما أدى إلى مقتله مع مرافقه.
بيان الحرس أو السردية التي قدمتها الجهة المعنية بحماية الضيف الحساس لم تشر من قريب أو بعيد إلى طريقة التنفيذ، وهل تمت من قبل فرد قام بنقل الصاروخ إلى المنطقة الجبلية المحيطة بالموقع والمطلة عليه، ثم نصبه ووجهه إلى الهدف؟ أم أن الجهات المنفذة استخدمت مسيّرة سداسية المراوح للقيام بعلمية الاغتيال؟
وفي كلا الحالين فإن خرقاً واضحاً قد حصل للمنظومة الأمنية وأجهزة الحماية في الوحدات الخاصة بحرس الثورة والمكلفة مرافقة الضيف الفلسطيني، سواء كان هذا الخرق من قبل عناصر استخباراتية إسرائيلية دخلت إيران للتنفيذ، أو من قبل أشخاص إيرانيين جُندوا من قبل جهاز الموساد، مما يكرس حقيقة واحدة وهي أن العملية لم تحصل من تعاون على الأرض، وأن العناصر المنفذة استطاعت العمل بكل اطمئنان ومن دون خوف من الانكشاف.
الخرق الأمني والاستخباراتي الجديد الذي أصاب المنظومة الأمنية الإيرانية لا يمكن إدراجه في خانة العلميات الأمنية التي شهدتها إيران في إطار صراعها وحربها الأمنية مع الأجهزة الإسرائيلية في داخل إيران أو على مساحة مناطق النفوذ الإيراني في الإقليم وخارجه، فالعملية بالدرجة الأولى كشفت عن أن الهيكلية الأمنية تعاني أزمة انتماء وصلت وتغلغلت إلى أبعد نقطة في صفوف المعنيين بالحفاظ على الأمن القومي والكرامة والسيادة الإيرانية، وهذا يقدم تفسيراً لموقف المدعي العام في القضاء الإيراني الذي أكد أن مروحة التحقيقات لن تستثني أحداً من العناصر المشتبه فيهم، بغض النظر عن الموقع الذي يشغلونه أو يتولونه، عسكرياً وسياسياً وأمنياً.
وحجم الخرق الذي تعانيه هذه المنظومة التي تحاول تقديم نفسها بأنها من أصلب وأقدر الأجهزة على مستوى الإقليم والعالم حتى، وصل إلى دوائر القرار العسكري والإستراتيجي، ولعل أولى المؤشرات على هذا الخرق جاءت من وزارة الدفاع عندما كان على رأسها علي شمخاني في عهد الرئيس محمد خاتمي، بعد الكشف عن تورط الجنرال في حرس الثورة وأحد مستشاري الوزير علي رضا عسكري في التعاون مع جهازي الموساد والاستخبارات المركزية الأميركية، والذي قدم حزمة من المعلومات الدقيقة والإستراتيجية المتعلقة بأنشطة قوة القدس في سوريا ولبنان والعراق، وأيضاً فضح الشخصيات الميدانية والعسكرية التي تقوّم العمل العسكري والأمني لـ "حزب الله" اللبناني، والتي أدت إلى تحديث معلومات هذين الجهازين، أي الموساد والـ "سي آي أيه"، حول شخصية عماد مغنية، وساعدت في اصطياده واغتياله على الأراضي السورية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الخرق الآخر والأخطر الذي حصل في مكتب علي شمخاني أيضاً، والذي تنقل معه من وزارة الدفاع إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، فكان من قبل علي رضا أكبري الذي أعدم بتهمة التعاون مع جهاز الـ "أم أي 6" البريطاني، على عكس عسكري الذي استطاع تنظيم آلية خروج من إيران باتجاه تركيا، ليعلن هناك اختفاؤه ويظهر بعدها في الولايات المتحدة الأميركية، فيما لا تزال الأجهزة الإيرانية تصر وتتمسك بروايتها عن خطف عسكري ونقله إلى السجون الإسرائيلية.
هذه الخروق على المستوى السياسي وفي دوائر اتخاذ القرار لا شك في أنها لا تزال فاعلة من خلال أطراف أخرى تقوم على تقديم هذه الخدمات للأجهزة الأميركية والإسرائيلية والغربية داخل المنظومة الإيرانية، مما يفسر إصرار بعضهم على رواية خطف عسكري ووجوده في السجون الإسرائيلية، وأيضاً يفسر مسارعة هذه الجهات إلى اتخاذ قرار إعدام أكبري لإقفال الملف.
وفي موازاة الخروق على مستوى دوائر القرار فإن خروقاً أخرى حصلت على المستوى النووي، ولعل أبرزها عملية هرب عالم الفيزياء النووية شهرام أميري الذي استغل سماح الأجهزة الأمنية له بزيارة الأراضي السعودية بهدف العمرة في يوليو (تموز) 2009، فاستغل الفوضى التي كانت تعيشها إيران نتيجة أحداث الانتفاضة الشعبية المرافقة للثورة الخضراء ليختفي عن أنظار البعثة الإيرانية ويظهر بعدها في أميركا التي قال مسؤولون أمنيون فيها إن أميري قدم لهم معلومات قيمة حول تفاصيل البرنامج النووي الإيراني وأهدافه.
إلا أن ضغوطاً مارستها الأجهزة الإيرانية على أهل أميري أجبرته على طلب العودة وتسليم نفسه في الـ 15 من يوليو 2010، ليعدم في الثالث من أغسطس (آب) 2016، وحينها ردت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون على الاتهامات الإيرانية بخطف أميري بأنه وصل إلى أميركا بكامل حريته، وهو حرّ في مغادرتها متى أراد.
هذا الاستدعاء للذاكرة واستعادة تفاصيل محطات الخروق التي حصلت في دوائر القرار استدعت أيضاً العودة للتحذيرات والكلام الذي صدر عن وزيرين للأمن، الأول علي يونسي الذي شغل هذا المنصب في عهد الرئيس محمد خاتمي، والثاني محمود علوي الذي كان وزيراً في عهد الرئيس حس روحاني.
ولعل كلام الوزير علوي يشير بوضوح إلى الخلفية الثقافية للأشخاص الذين يقعون في دائرة الشك ويشكلون جسر الخروق والنفوذ للأجهزة الأجنبية داخل منظومة السلطة والقرار والأمن في إيران، فهو يقول حرفياً في الـ 29 من يونيو (حزيران) 2019 إن أجهزة الوزارة "اكتشفت جواسيس في مواقع تشكل صدمة للمسؤولين، فالأشخاص المخترقون هم عملياً من يطلقون أكثر الشعارات تشدداً في الدولة، ويسارعون إلى اتهام الآخرين قبل أن يضعهم الآخرون في دائرة الشك والاتهام".
هذا الأمر كان أكثر وضوحاً في كلام سلفه الوزير يونسي عن الخرق الذي حصل في مكتب علي شمخاني عندما كانت يتولى منصب وزير الدفاع، إذ اعتبر أن هذا الترهل الأمني يعود لسببين رئيسين، الأول إنشاء أجهزة أمنية موازية لوزارة الاستخبارات ومصادرة دورها وتفرد كل جهاز بالعمل وحده من دون أن تكون هناك غرفة تنسيق، والثاني، ولعله الأخطر، وهو أن هذه الأجهزة وبدلاً من أن تركز عملها على مكافحة التجسس قامت بإهمال الجانب المتعلق بأنشطة الأجهزة الخارجية ومحاولات اختراقها للأمن الإيراني، وركزت اهتمامها على الداخل وملاحقة المعارضين واتهامهم بشتى أنواع التهم، دفاعاً عن مصالح الجهات التي أنشأتها وتشرف على أنشطتها، وبالتالي بات دور هذه الأجهزة ملاحقة المواطن الإيراني بدل التركيز على الأمن القومي، وهذا الموقف استند إليه الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد في إطار دفاعه عن الفريق الذي عمل معه في رئاسة الجمهورية.
ويمكن القول إن إيران مكشوفة أمام الأجهزة الاستخباراتية الدولية وبخاصة جهازي الموساد والـ "سي آي أيه" المصنفين في خانة الأجهزة الأعداء، وإن كان في الاستخبارات أن كل الأجهزة عدوة حتى التابعة للدول الصديقة والحليفة، فعمليات الاغتيال التي استهدفت أربعة من علماء البرنامج النووي ونفذتها، بحسب الرواية الرسمية للأجهزة الإيرانية، عناصر تابعة أو تعمل لمصلحة الموساد الإسرائيلي، تكشف عن حجم الخرق الموجود للمنظومة الأمنية، بخاصة أن هؤلاء الأشخاص من المفترض أنهم يتمتعون بنظام حماية كبير ومشدد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى ما كشف عنه المستشار الإعلامي لأحمدي نجاد، عبدالرضا داوري، من أن الموقف الإيراني الرافض للكشف عن أسماء العلماء الإيرانيين في البرنامج النووي للوكالة الدولية للطاقة الذرية وطلبها التحقيق معهم في عهد الرئيس محمد خاتمي قد تم التخلي عنه في زمن تولي سعيد جليلي مسؤولية أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، والذي سلم "الوكالة الدولية" جدولاً بأسماء هؤلاء العلماء وسمح بعقد لقاءات معهم، مما أدى إلى كشف هوياتهم وبدء سلسلة عمليات اغتيال لعدد منهم.
ولعل الحادثة الأبرز في عمليات الخروق الأمنية ما قام به عناصر من الموساد الإسرائيلي بالوصول والدخول إلى مخزن أرشيف البرنامج النووي السري في منطقة طورقوزاباد، والذي سمح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بعقد مؤتمر صحافي لشرح هذه الوثائق والكشف عن الشخصية المحورية في البرنامج النووي الجنرال محسن فخري زاده، ثم اغتياله بطريقة مركبة لم يكشف حتى الآن عن تفاصيلها الدقيقة والحقيقية، كما استطاع المنفذون الخروج من إيران من دون أي خوف من الملاحقة أو الاعتقال.
الاغتيالات النووية واستهداف عدد من منشآت البرنامج النووي وصولاً إلى اغتيال إسماعيل هنية تضع جهاز استخبارات وأمن حرس الثورة في موقع المسؤول الأول لأنه المكلف بتأمين وتوفير أمن هذه الشخصيات والمواقع، وبالتالي فإن هذه الخروق تطرح كثيراً من الأسئلة عن تركيبة هذا الجهاز ودور المسؤول عنه، حسين طائب، لمدة 15 عاماً منذ تأسيسه ولحين إقالته قبل نحو عامين، لينتقل إلى موقع جديد كمستشار لقائد قوات حرس الثورة، بخاصة أن الجهد الذي قام به طائب في موقعه كان ملاحقة المعارضين في الداخل وإهمال الأخطار الخارجية.
جهاز أمن الحرس الذي يعمل بموازاة وزارة الأمن والاستخبارات وعلى حساب دورها ومهمتها لا يزال يتمسك بالدفاع عن التقصير الحاصل في عملية اغتيال هنية، من خلال تأكيد مساعد رئيس جهاز أمن قوة القدس أن العملية لم تكن نتيجة خرق أمني، وأن التحقيقات حول الاغتيال لا تزال قائمة.