Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يثري الذكاء الاصطناعي الحوار بين الكتاب وقارئه؟

الثورة الرقمية والقراءة والكتب الورقية ما زالت تشغل الباحثين ولا أفق واضحاً

الصراع بين الكتاب الورقي والإلكتروني (موقع كتب)

ملخص

قضية الصراع بين الكتاب الورقي والكتاب الالكتروني ما برحت تشغل الباحثين والناشرين والقراء أيضاً. والسؤال المطروح الآن: هل ينجح الذكاء الإصطناعي في ترسيخ العلاقة بين القارئ والكتاب؟

في محاضرة ألقاها في البندقية عام 1998، تناولت موضوع الكتاب وقراءته، اعترف أومبرتو إيكو (1932-2016) أن السؤال عن موت الكتاب ونهايته طارده في كل مقابلة أو ندوة دعي إليها. غير أنه أقر في النهاية أن تكرار هذا السؤال إن عبر عن شيء فعن قلق حقيقي، مما دعاه إلى التفكر في هذه المسألة بجدية وعدم الأخذ بالقول الذي يشدد على أنه لم ينتج ويبع هذا الكم الهائل من الكتب في تاريخ البشرية كما يحدث اليوم. فالإحصاءات ليست برأيه كافية لتهدئة المخاوف من اختفاء محتمل للكتاب كما نعرفه، وبالتالي من اختفاء طرق القراءة التقليدية المرتبطة بهذا "المكعب الورقي المكون من صفحات" على حد قول لويس بورخس.

لكن قبل التأسف على موت الكتاب، قد يكون من الأفضل برأي هذا العالم والفيلسوف والناقد الثقافي والألسني الإيطالي تحديد ماهيته، فما الكتاب الذي قال عنه المتنبي إنه "خير جليس في الأنام"؟

مادي وفكري

في كتابه الموسوم "ميتافيزيقا الأخلاق" ميز الفيلسوف الألماني كانط بين طبيعتين للكتاب في إطار محاولته التعريف به، إذ رأى أن الكتاب من ناحية هو شيء مادي يمكن إعادة إنتاجه أو نسخه، ومن ناحية أخرى هو خطاب أو مجموعة من الأفكار موجهة إلى الجمهور من المؤلف أو الناشر الذي حصل على وكالة للتحدث باسم المؤلف. لذا كان نسخ النص من دون هذه الوكالة تزويراً وانتهاكاً لحقوق المؤلف، ذلك أن الكتاب هو في الوقت نفسه سلعة مادية يملكها من دفع ثمنها، وهو كذلك مضمون يحتفظ المؤلف بملكيته "على رغم إعادة إنتاجه في نسخ عديدة". هذه الطبيعة الثانية للكتاب تتجاوز بمقدار أبعاده المادية، ولعلها توضحت في قضية أصحاب المكتبات وباعة الكتب اللندنيين الذين هددتهم في أوائل القرن الـ18 تشريعات جديدة طاولت حقوقهم وحقوق الملكية الفكرية. ففي مرافعته الشهيرة قال المحامي الذي دافع عن القضية إن "هوية العمل الأدبي تكمن في الإبداع وفي الأفكار والتعبيرات الخلاقة للعقل البشري"، وإن الملكية الفكرية تتمثل في سلطة المؤلف على شيء غير مادي، هو ثمرة خياله وشعوره وفكره. وأياً تكن الطرق المختارة لنقل هذا الخيال والشعور والفكر إلى الأذن أو العين، من خلال التلاوة أو الكتابة أو الطباعة، وبغض النظر عن عدد نسخ الكتاب، فإن العمل الأدبي والفكري يظل دوماً ملك المؤلف، ولا يحق لأحد نقله أو تحويله من دون موافقته، سواء كانت ضمنية أم صريحة.

أورد كذلك في هذا السياق النقاشات التي جرت في ألمانيا أواخر القرن الـ18 التي تناولت موضوع تزوير الكتب وتقليدها وقرصنتها، وبرز فيها خطاب الفيلسوف يوهان غوتليب فيشته (1762–1814).  أشار فيشته، على غرار كانط، إلى طبيعتي الكتاب المادية والفكرية التي تفصل بين الكتاب كشيء مادي وبين مضمونه الفكري والأدبي الذي يتخطى بأشواط قيمته المادية، مضيفاً إلى هذا الفصل تمييزاً جديداً. في الواقع ميز فيشته في كل عمل أدبي بين الأفكار التي يعبر عنها الكتاب وبين الشكل الذي تقدم بواسطته، فالأفكار بحسب الفيلسوف الألماني عالمية بطبيعتها وتوجهها وفائدتها، لكن "لكل شخص منا أفكاره الخاصة وطريقته في تكوين المفاهيم وربطها ببعضها بعضاً"، "ولا يسعنا نقل أفكارنا للآخرين من دون إعطائها شكلاً معيناً، لذا كان الشكل الذي يتوشح به المضمون أي الأفكار ملكية حصرية للمؤلف". فالشكل هو المبرر الوحيد لملكية المطبوعات وطبيعتها الخاصة غير القابلة للتصرف، وليس أصحاب المكتبات وباعة الكتب سوى منتفعين ملزمين بسلسلة من القيود تحدد عدد نسخ كل طبعة والرسوم الواجب دفعها عند إعادة طبع الكتاب.

كانت هذه التمايزات المفاهيمية التي وضعها فيشته كافية برأيه لحماية المؤلفين والناشرين من دون المساس بالملكية الفكرية وحقوق المؤلفين والبائعين، أما ديدرو فاعتبر أن "كل عمل يعبر بطريقة لا يمكن اختزالها عن أفكار ومشاعر مؤلفه يعتبر ملكاً شرعياً له"، وها هوذا يتساءل "ما الخير الذي يمكن أن يجنيه الإنسان، إن لم يكن عمله الفكري، ثمرة سهره ودرسه وجهده وبحثه الدؤوب، أفكاره الخاصة، مشاعره وعواطفه السامية التي تخلده؟".

غير أنه قبل كل هذه الصيغ الفلسفية والقانونية التي ظهرت في القرن الـ18، عبر عن طبيعة الكتاب المزدوجة بالاستعارات. أورد على سبيل المثال لا الحصر قولاً لأحد أصحاب المطابع في مدريد وإشبيلية ألونسو فيكتور دي باريديس وهو مؤلف أول دليل لفن الطباعة نشره عام 1680 اعتبر فيه الكتاب كالإنسان، كائن مركب من جسد وروح. ولتوضيح استعارته، استعان دي باريديس بقصة خلق الإنسان كما وردت في سفر التكوين، مسقطاً إياها على الكتاب المركب أيضاً من نفس وجسد. لكن الكتاب نفسه أو روحه ليست النص كما وضعه أو تخيله مؤلفه وحسب، بل هي أيضاً الشكل الجميل والأنيق الذي انسكبت فيه هذه الأفكار والتخيلات بفضل جهود المصحح والمنسق والطابع، رافضاً الثنائية التي ميزت بين "الجوهري" و"العرضي" التي فصلت مادية الكتاب عن روحه.

أما بورخس فشدد في محاضرة ألقاها عام 1978، تناولت موضوع الكتاب، على أن الكتب التي تشكل التراث المشترك للبشرية لا يمكن ردها إلى سلسلة من الأشياء المادية والفنية التي سهلت نقلها إلى قرائها أو مستمعيها. مع ذلك نراه يعترف في سيرته الذاتية التي أملاها على نورمان توماس دي جيوفاني بأن الشيء الوحيد الذي يتذكره عن أحد أهم الكتب التي قرأها في حياته، كتاب سرفنتس "دون كيشوت"، هو الغلاف الأحمر والعناوين الذهبية التي ميزت طبعة غارنييه للكتاب، مضيفاً أنه يوم قرأ "دون كيشوت" في طبعة أخرى، شعر أنه لم يقرأ النسخة الحقيقية، مشدداً على أن الرسوم والهوامش والأخطاء التي وردت في طبعة غارنييه كانت بالنسبة إليه جزءاً لا يتجزأ من كتاب "دون كيشوت" الحقيقي.

الكتاب ومضمونه

هذه الرؤية التي لا تفصل بين مادية الكتاب ومضمونه، تقودنا حتماً للتفكير في التحدي الأساس الذي تفرضه  النصوص الرقمية على الكتاب. ففي الثقافة المكتوبة كما نعرفها، التي هي نتيجة مسار تاريخي طويل، اعتمدت العلاقة بين الكتاب كشيء مادي وبين أشكال القراءة على ثلاثة ابتكارات أساسية شكلت قطيعة مع ما سبق. يعود الابتكار الأول للقرون الأولى للمسيحية، عندما استبدلت الرقوق ولفائف البردى بالكتاب المخطوط والمكون من أوراق وصفحات أو ما يعرف باللاتينية بـ"الكودكس"، أما القطيعة الثانية فظهرت في أواخر القرن الـ14 وبدايات القرن الـ15 قبل اختراع غوتنبرغ للمطبعة، وتمثلت في ظهور الكتاب المخطوط الحاوي بين دفتيه لكل النصوص التي وقعها المؤلف الواحد، فضلاً عن المجاميع التي ضمت أعمالاً وأنواعاً أدبية وفكرية متعددة وضعت في تواريخ ولغات مختلفة، لكنها نسخت في كتاب واحد. هكذا ظهرت أعمال بتراركه وبوكاتشيو وكريستين دي بيزان ورينيه دانجو، أما القطيعة الثالثة فتمثلت باختراع المطبعة وظهور حروف الطباعة المتحركة في منتصف القرن الـ15، التي أصبحت التقنية الأكثر استخداماً لنسخ النصوص وإنتاج الكتب. شكلت هذه الابتكارات على مر العصور الإطار الأساسي لتطور علاقة القارئ بالكتاب كعمل فكري وجمالي يتمتع بهوية خاصة، ولعل ظهور أنواع جديدة من النصوص المكتوبة في القرن الـ19 مثل المقالة الصحافية والمجلات العلمية والإعلانات والروايات المصورة التي اعتمدت أيضاً على تقدم تقنيات الطباعة أعادت تشكيل علاقة القارئ بالنص المكتوب وقراءته من خلال الأشكال المادية المختلفة التي استخدمتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما في العقود الأخيرة فشهد العالم تطوراً أساسياً تمثل في ظهور النصوص الرقمية، تتميز هذه النصوص بأنها قابلة للتعديل بشكل مستمر، وهي موجهة إلى مختلف أنواع القراء، وتعتمد على الوسائط المتعددة (النص، الصوت، الفيديو)، وأخيراً هي جزء من شبكة تواصلية واسعة تجعل النصوص متاحة على الفور وبطرق جديدة للقراءة والكتابة. شكل هذا التغيير التكنولوجي تحولاً جذرياً في علاقة القارئ بالنصوص المكتوبة، ذلك أن الوسيلة نفسها، وهي ههنا شاشة الكمبيوتر، بدأت تظهر أمام القارئ نصوصاً كانت تعتمد سابقاً أشكالاً مادية مختلفة. أضف إلى ذلك أن القراءة على شاشة الكومبيوتر أصبحت قراءة متقطعة، إذ غالباً ما يبحث القارئ من خلال الكلمات المفتاحية أو العناوين الموضوعية عن الجزء الذي يريد قراءته: مقالة في دورية إلكترونية، مقطع من كتاب، معلومة منشورة على أحد المواقع الإلكترونية، وذلك من دون الالتفات إلى ضرورة معرفة كاتبها أو السياق الذي وردت المعلومة ضمنه أو الفكرة أو النص الكامل الذي استل منه هذا الجزء، بمعنى آخر يمكن القول في العالم الرقمي إن كل النصوص هي كبنك معلومات لا تفترض قراءتها بأي شكل من الأشكال إدراك العمل أو المجموعة النصية الكاملة التي استل منها، ولئن اعترف بورخس باستحالة اختفاء الكتاب فإنه عبر عن الثقة في بقائه في مواجهة وسائل الاتصال الجديدة.

ولكن هل يمكننا اليوم التأكيد كبورخس أن الكتاب باق بشكله التقليدي، لا سيما وأن حاضرنا يتميز بظهور تكنولوجيا جديدة لتسجيل ونشر النصوص؟ لم تعد اليوم شاشات الحاسوب والهواتف الذكية شاشات لعرض الصور، بل أصبحت شاشات لقراءة الكتب وتحميلها، بحيث أصبح بإمكاننا حمل مكتبة ضخمة في الحاسوب أو في الهاتف الذكي. تستقبل الشاشات إذاً  إلى جانب الصور الثابتة والمتحركة الأصوات والكلمات والموسيقى والأفلام، ولعلها تعرض بشكل مفرط للنصوص المكتوبة التي كانت لزمن ليس ببعيد محفوظة في الكتب. ويهمني أن أشير ههنا إلى أن قراءة الكتب قبل ظهور الكتاب الإلكتروني كانت متواصلة، وكانت تتطلب كذلك تحرك الجسد بأكمله لأنه كان على القارئ أن يمسك الكتاب بيديه، مما يجعله غير قادر على الكتابة أثناء القراءة.

فهل تغير الكتب الإلكترونية والثورة الرقمية من عادات القراءة وهل تقضي على الكتاب الورقي؟ أو هل تسمح بفضل الوعود التي يقدمها الذكاء الاصطناعي بإثراء الحوار بين الكتاب وقارئه؟

يذكرنا المؤرخون بأن كل تحول طاول الكتاب عبر التاريخ أدى إلى تعايش أصيل بين حركات الماضي والتقنيات الجديدة، ففي كل مرة أضفت الثقافة المكتوبة أدواراً جديدة على الأشياء والممارسات القديمة، فالقصائد الهوميرية والحوارات الأفلاطونية وغيرها من النصوص كتبت وقرأت يوم كانت تنسخ على أوراق المخطوطات ثم صدرت في كتب مطبوعة، واليوم أتاحت لنا التكنولوجيا قراءتها إلكترونياً.

يبقى بالنهاية أن الكتاب، أياً كان الشكل المادي الذي يتوشح به، ضرورة لنتابع التفكير والتخيل والأحلام، التي من دونها تصبح الحياة لا معنى لها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة