ملخص
يرى نقيب الأطباء المصريين أنه "من غير المنطقي إلغاء تكليف الأطباء البشريين، لأن أي طبيب بشري يجب أن يعمل وسط منظومة صحية حتى يتعلّم، علاوة على أن الطب البشري هي المهنة الوحيدة التي تستلزم دراسات عليا للاستمرار في ممارستها".
أثار قرار وزارة الصحة المصرية تكليف خريجي الكليات الطبية "وفق حاجات سوق العمل وليس إلزامياً" جدلاً في الرأي العام عموماً والأوساط الطبية خصوصاً، لا سيما عقب تداول منشور لنقابة العلاج الطبيعي خلال الساعات القليلة الماضية، يحذر فيه طلاب الثانوية العامة قبل الالتحاق بالكليات الطبية، التي تشمل الطب، وطب أسنان، والعلاج الطبيعي، والصيدلة، والتمريض.
تساؤلات عدة طرحت عقب تداول القرار، إذ ما مدى ارتباط ذلك بتحركات الحكومة المصرية الراهنة لخصخصة القطاع الصحي؟ وأي مصير ينتظر خريجي الكليات الطبية الذين لن يكلفوا؟ وهل يسري القرار على كل المهن الطبية؟ وما الشروط والضوابط التي سيتم وفقاً لها اختيار من سيكلفون، وأين سيدرب الأطباء؟ وكيف سيحصلون على الدراسات العليا؟
ويمنح قانون التكليف رقم 29 لسنة 1974 الحق لوزارة الصحة في تكليف خريجي الكليات الطبية بصورة إجبارية، للعمل في المستشفيات الحكومية، أو الوحدات التابعة لها، لمدة سنتين، مع إجازة تجديد التكليف لمدد أخرى. ويقصد بتكليف خريجي الكليات الطبية في مصر، أي تعيينهم في المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية مباشرة عقب التخرج، وقضاء "سنة الامتياز".
ويرجع متخصصون في القطاع الطبي تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" الأسباب الرئيسة وراء صدور القرار إلى "تضخم أعداد الخريجين" من كليات طب الأسنان والصيدلة والعلاج الطبيعي، بعدما توسعت الحكومة عشوائياً على مدى السنوات الماضية في إنشاء هذه الكليات. مشيرين إلى أن قرار التكليف الحالي "يتماشى مع توجهات الدولة في خصخصة القطاع الصحي والرغبة في تقليل الإنفاق في مجال الصحة العامة، ويخدم توجهاتها في الانسحاب من تقديم الخدمة الصحية".
ما مصير الخريجين؟
يقول النقيب العام لأطباء العلاج الطبيعي الدكتور سامي سعد "تكليف خريجي الكليات الطبية تحول من قرار إلزامي إلى احتياج حسب سوق العمل". مرجعاً ذلك إلى زيادة أعداد خريجي الكليات الطبية من طب الأسنان والصيدلة والعلاج الطبيعي بأعداد كبيرة سنوياً "بصورة تفوق إمكانات وقدرات الدولة، وتكبد الموازنة مبالغ طائلة". متسائلاً "خلال العام الماضي تقدم 9 آلاف صيدلي للتكليف، ولم يختر سوى 1900 صيدلي فحسب، فما مصير باقي الخريجين؟".
وكان وزير الصحة الدكتور خالد عبدالغفار قد أعلن في حوار تلفزيوني في يونيو (حزيران) الماضي أن العمل "جار على تغيير منظومة التكليف" بأن من يكلفوا بوزارة الصحة يكون في ضوء الاحتياج الفعلي. موضحاً "بداية من 2025 سيتم البدء في التكليف طبقاً للأعداد والتوزيع الجغرافي حسب المحافظة"، مؤكداً أن "لدينا 14 ألف طبيب يتخرجون في الجامعات ويكلفون بالمستشفيات، بينما هناك فائض في عدد الصيادلة بأربعة أضعاف ما يحتاج إليه المعدل العالمي، ونشهد سنوياً تخرج 18 ألف صيدلي على رغم حاجة الدولة إلى 4 آلاف فحسب، أما عدد خريجي التمريض ليس بالسيئ، لكن هناك سوء توزيع للتمريض بالمستشفيات".
يضيف نقيب العلاج الطبيعي، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "مصر تعاني عجزاً واضحاً في خريجي كليات الأطباء البشريين والتمريض، فيما تشهد تزايداً في أعداد كليات العلاج الطبيعي، التي يبلغ عددها حالياً نحو 75 كلية ما بين حكومي وخاص وأهلي، وهو أمر مخالف للمعايير الدولية، إضافة إلى العدد الهائل لخريجي الكليات الفنية بصورة تفوق إمكانات الدولة المصرية".
ويوضح سامي سعد أن القرار يأتي تنفيذاً لما سبق وأقره اجتماع اللجنة العليا للتكليف الذي عقد في الـ13 من سبتمبر (أيلول) عام 2022، بحضور كامل تشكيل اللجنة بما في ذلك نقباء الأطباء البشريين، وأطباء الأسنان، والعلاج الطبيعي، والتمريض، واللجنة الثلاثية لإدارة نقابة الصيادلة، إضافة إلى الدكتور أشرف حاتم رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب، بأن يكون التكليف لجميع الفئات المخاطبة بالقانون رقم 29 لسنة 1974 في شأن تكليف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان وهيئات التمريض والفنيين الصحيين والفئات الفنية المساعدة، طبقاً للحاجات الواردة من الجهات المذكورة بالقانون اعتباراً من بداية عام 2025، وصدقت الحكومة المصرية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2022 بالموافقة على ذلك القرار.
ويطالب سعد بضرورة طرح هذا القرار خلال مناقشات لجان الحوار الوطني في الفترة المقبلة، وأن يكون هناك تنسيق مشترك بين النقابات ومجلس الوزراء والصحة والتعليم، لتحديد الأعداد المطلوبة في المستقبل في إطار خطة استراتيجية وطنية واضحة، علاوة على تطوير التعليم الصناعي وتقليص الكليات النظرية والاهتمام بالتخصصات الفنية الدقيقة، مردفاً "يجب على الدولة بمشاركة كل النقابات والوزارات المتخصصة والجهات المعنية التفكير في تغطية سوق العمل وحاجاتها الفعلية، وأن يكون هناك استراتيجيات منهجية واضحة من أجل الاهتمام بجودة ونوعية الخريج لا عدد الخريجين".
هل يشمل القرار الأطباء البشريين؟
في السياق ذاته، يؤكد نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبدالحي أن هذا القرار "يسري على كل الأطباء والمهن الطبية لا تخصصات بعينها". ملقياً باللوم على الحكومة بأنها "توسعت بصورة عشوائية في إنشاء كليات طب الأسنان والصيدلة والعلاج الطبيعي، وهو ما أدى إلى تضخم أعداد الخريجين من تلك الكليات في مصر، لذلك ترغب حالياً في التخلص من قرار التكليف الإلزامي وربطه بحاجات سوق العمل".
وكان وزير الصحة والسكان الدكتور خالد عبدالغفار توقع في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2022، زيادة المكلفين خريجي كليات الطب إلى 17 ألفاً بدلاً من 10 آلاف في 2027، تزامناً مع زيادة الكليات الطبية على مستوى الجمهورية.
ويشير عبدالحي، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إلى أن قرار التكليف للخريجين في مستشفيات وجهات طبية حكومية لمدة سنتين بعد التخرج والامتياز "كان إجبارياً على الدولة والأطباء أنفسهم خلال السنوات الماضية، لكن وفقاً للقرار الحالي فإن التكليف أصبح اختيارياً على الدولة والأطباء أنفسهم". متسائلاً "ما مصير الخريجين الجدد من الأطباء الذين لن يتم تكليفهم؟ وهل سيكون هناك لائحة أو ضوابط معينة في شأن من سيتم تكليفهم؟ وأين سيتم تدريبهم وإجراء دراساتهم العليا؟". مجيباً "كان من الأجدى على الحكومة أن تضع خطة ممنهجة في شأن أعداد الخريجين في السنوات المقبلة".
وسبق وأعلنت وزيرة الصحة السابقة الدكتورة هالة زايد، في أكتوبر عام 2019 إلغاء النظام القديم، ودمج التكليف في برنامج الزمالة المصرية، إذ سيلتحق الأطباء فور تخرجهم ببرنامج الزمالة المصرية لمدة ثلاث سنوات بدلاً من التكليف لمدة عامين، وسيدرس كل منهم تخصصاً محدداً، على أن تخضع اختيارات الأطباء للتنسيق بحسب الفرص المتاحة مع إعطاء أولوية للعمل في محافظة سكن الطبيب نفسها.
ويكمل عبدالحي "بعض رجال الأعمال في مصر استثمروا في كليات طب الأسنان والصيدلة والعلاج الطبيعي، باستثناء كليات الطب البشري التي استثنيت من تلك القرارات بسبب القانون الذي يحظر السماح بفتح كليات طب بشري جديدة إلا بعد إنشاء مستشفى جامعي، لتدريب الطلبة في السنوات النهائية للتخرج، مما جعل كثيراً من رجال الأعمال يحجمون عن الاستثمار فيها".
ويرى نقيب الأطباء أنه "من غير المنطقي إلغاء تكليف الأطباء البشريين، لأن أي طبيب بشري يجب أن يعمل وسط منظومة صحية حتى يتعلم، علاوة على أن الطب البشري هي المهنة الوحيدة التي تستلزم دراسات عليا للاستمرار في ممارستها".
ووفق نقيب الأطباء فإن مصر تعاني عجزاً في أعداد الأطباء البشريين، إذ هناك تسعة أطباء لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي يراوح ما بين 22 و24 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن.
وقبل 58 عاماً بدأ نظام تكليف الأطباء عندما أصدر الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر قراراً بقانون تكليف الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان بالعمل في المواقع التي تحددها الدولة لمدة سنتين قابلة للتجديد، وكان القرار بداية لسلسلة من القرارات الشبيهة التي شملت العاملين بمهن أخرى من ضمنها المهندسون والمدرسون، والغرض الأساس منها هو تغذية أجهزة الدولة المختلفة بما تحتاج إليه من مهنيين يعملون لفترة عمل إجبارية.
وحدد القانون رقم 29 لسنة 1974، الذي صدر في عهد الرئيس السادات لإعادة تنظيم تكليف الأطباء، عقوبة المخالف للتهريب من التكليف بالحبس مدة تصل إلى ستة أشهر، والغرامة بين 200 و500 جنيه أو إحداهما، مع مضاعفة العقوبة في حالة الحرب أو انتشار وباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خصخصة القطاع الصحي
فيما يؤكد المدير التنفيذي لجمعية الحق في الدواء والمحامي الحقوقي محمود فؤاد أن القرار "يتماشى مع توجهات الحكومة في شأن خصخصة القطاع الصحي، وتقليل الإنفاق في مجال الصحة العامة"، تنفيذاً لقانون منح التزامات المرافق العامة للمستثمرين المصريين أو الأجانب أو ما يعرف إعلامياً بـ"تأجير المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص". مردفاً "وزارة الصحة تريد أن ترفع عن كاهلها مرتبات الأطباء، وأن يكون تعيين الأطباء من قبل المستثمر الذي سيتولى إدارة المستشفى".
ويشير فؤاد، خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية"، في شأن عجز بعض التخصصات الطبية، إلى أن قانون إنشاء الجامعات الخاصة يشترط على أي مستثمر في حالة الرغبة في فتح كلية طب بشري أن يكون هناك مستشفى تعليمي لتدريب الأطباء به، وهو ما تسبب في إيقاف نحو ست كليات طب بشري قرابة أكثر من عام لعدم إنشاء مستشفى تعليمي. موضحاً "75 في المئة من إجمال الجامعات الخاصة في مصر ليس بها كليات طب بشري، مما جعل هناك عجزاً في تخصصات الطب البشري مقارنة بالصيادلة والعلاج الطبيعي والأسنان، فيما يوجد بمصر تسع كليات تمريض تخرج الآلاف سنوياً، لكن المعضلة تكمن في أن معظمهم يهاجر".
وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة حكومية) أظهر في منتصف مايو (أيار) عام 2022 أن إجمال أعداد العاملين في مهنة التمريض في مصر بالقطاعين الخاص والحكومي 227 ألف ممرض، خلال 2020، بنسبة انخفاض قدرها 0.8 في المئة، على رغم ارتفاع أعداد الخريجين بالمعاهد الفنية للتمريض إلى 5151 ممرضاً في العام نفسه.