Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين كتب بول أوستر أناه الأخرى في "طفل الحريق"

تطابق لم تلده الصدفة بين المراهق ستيفن كرين صاحب "بيغي" والعجوز الراحل قبل حين

بول أوستر (1947 – 2024) (غيتي)

ملخص

لئن كان طبيعياً لبول أوستر عند نهايات العقد الثاني من القرن الـ21 أن يتخذ من حياة كرين نوعاً من وسيلة للحديث عن حياته الشخصية هو نفسه، فإن الغريب في الأمر أن "يسهو عن بال" الكاتب المعاصر – الذي غادر عالمنا في ربيع هذا العام – أن الفروق بينه وبين كرين تصل إلى أضعاف النقاط التي تجمع بينهما.

بعدما ظل منسياً في الحياة الأدبية والعالمية طوال ما يزيد على قرن وربع القرن من السنين، احتاج الكاتب الأميركي ستيفن كرين في النهاية إلى تدخل زميله الأميركي الكبير و"ابن بلده" بول أوستر كي يعيده في نهاية الأمر إلى تلك الواجهة، ولكن بالطبع على طريقة هذا الأخير الخاصة. وأوستر نفسه احتاج لاجتياز مسيرته الأدبية الطويلة والمجيدة هو الآخر واصلاً إلى السنوات الأخيرة من حياته، قبل أن "يكتشف" في نهاية المطاف أنه لئن كان يرى أن الوقت قد حان لاستعادة ستيفن كرين إلى تلك الواجهة، ولكن من خلال ذلك التماثل ولو المحدود بينهما على رغم فوارق لا تعد ولا تحصى تجاوزها تماماً، إذ كان يكفيه أن يكون كرين أصيل مدينته نيوآرك في ولاية نيوجيرسي المتاخمة لـ"مدينتهما" المشتركة نيويورك حتى يؤرخ لنفسه من خلال صاحب الرواية التي كانت تعد الأكثر شعبية في تاريخ الأدب الروائي الأميركي عند نهايات القرن الـ20، ولا سيما حين وقع ذلك الأدب تحت تأثير "طبيعية" الفرنسي إميل زولا فأبدعت روايات تلقفها القراء وكانت من بينها، وربما في مقدمها، رواية ستيفن كرين "بيغي فتاة الأزقة" التي التهمها القراء التهاماً.

 

 

ولئن كان طبيعياً لبول أوستر عند نهايات العقد الثاني من القرن الـ21 أن يتخذ من حياة كرين نوعاً من وسيلة للحديث عن حياته الشخصية هو نفسه، فإن الغريب في الأمر أن "يسهو عن بال" الكاتب المعاصر – الذي غادر عالمنا في ربيع هذا العام ليعد كتابه "فتى الحريق" آخر كتاب كبير أصدره قبل وفاته بسنوات قليلة، ولكن كذلك كتابه الأضخم من سنوات طويلة – أن الفروق بينه وبين كرين تصل إلى أضعاف النقاط التي تجمع بينهما.

بين الـ30 والـ80

فالواقع أن أوستر عاش حتى ناهز الـ80 فيما لم يعش كرين أكثر من 28 سنة. وكرين كتب ما لا يزيد على 3 أو 4 كتب، فيما أصدر أوستر أكثر من ثلاث دزينات. وكرين كان كما أشرنا من أنصار زولا، لكن أوستر لا يمت إلى أدب زولا بصلة. ومع ذلك كله كان يكفي سلفه الكبير أن يولد مثله في نيوآرك ويتمرد على عائلته منذ صغره، ويوجه أحلامه شطر أوروبا، إلى درجة أنه سيموت وهو في مقتبل شبابه في مصح لداء السل في ألمانيا، ليكون في موته راضياً عن نفسه بنزعته الأوروبية، كما كان يكفيه أن يكون مثله مغرماً بلعبة البيسبول وبحياة التشرد ولا يتقن في حياته سوى الكتابة حتى يعثر لديه على مادة بدت على أية حال كافية لملء الصفحات التي يزيد عددها على الألف، والتي كانت في نهاية الأمر كتاب "فتى الحريق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع ذلك، وعلى رغم ما يجيء على الغلاف من عنوان ثان للكتاب يفيد بكون سيرة لستيفن كرين تتناول حياته وأعماله، لم يغب عن بال أحد أن الكتاب يكاد يكون سيرة لهواجس ومخاوف بول أوستر بقدر ما هو عن "هواجس ومخاوف" كرين، وأن أوستر إنما استكمل هنا ذلك الحضور الذاتي الذي أتى في كتبه الأخرى – معظمها على أية حال – نتفاً نتفاً بحيث يبدو الكاتب تحت أقنعة في بعض الأحيان، أو كطرف ثالث تسأل عنه شخصية في الرواية شخصية أخرى، أو يكون هو الراوي الذي يترك له عمه صناديق كتب لا تعد ولا تحصى تملأ غرف بيته فينتهي به الأمر إلى استخدامها كأثاث، من دون أن ننسى مرات يتلقى فيها بطل ما لرواية من الروايات اتصالاً تليفونياً يسأله فيه محدثه على الجانب الآخر من الخط عما إذا كان هو بول أوستر. وغالباً من دون أن يكون متلقي المكالمة على معرفة لا بمحادثه ولا ببول أوستر.

خصوصية ونكهة

كل هذا أعطى خصوصية ونكهة لافتة لأدب أوستر منذ "الثلاثية النيويوركية" إلى "مون بالاس" ومن "تومبوكتو" إلى "موسيقى الصدفة" أو "كتاب الأوهام"، وغيرها. ولكن هنا في "سيرة ستيفن كرين" تبدو النكهة مختلفة إلى حد كبير. فالسيرة سيرة حقيقية وليس لكاتبها المعاصر من حضور إلا من خلال تعمقه في رسم تلك الشخصية هو الذي يقول إن الصدفة وحدها وغرابتها هي التي جعلتهما، كرين وهو، "نولد في المدينة نفسها. غير أن هذا ليس من شأنه حقاً أن يفسر أو يبرر اهتمامي به. وأنا على أية حال يمكنني أن أتفهم تماماً الصعوبات التي جابهته أول حياته قبل أن يتمكن من نشر روايته الأولى طالما أننا نعرف كم أن تلك المرحلة كانت صعبة بالنسبة إلى الكتاب الشبان، والذين لم يكن يعرض عليهم أكثر من وظائف في سلك التعليم الابتدائي". ويذكرنا أوستر هنا بأن كثراً من كتاب نهايات القرن الـ19 الأميركيين كان عليهم أن يخوضوا نضالات جبارة قبل التمكن من إعالة أنفسهم "وهكذا كانت حال كرين".

 

 

ومهما يكن من أمر لا يفوت أوستر أن يذكرنا هنا بأن كرين وقبل أن ينصرف إلى نشر رواياته كان يعمل في الصحافة وغطى كثيراً من الحروب مراكماً من التجارب والحكايات الشخصية ما اغتذى منه أدبه، "ومن هنا ذلك الطابع المغرق في واقعيته الذي طبع ذلك الأدب". بالتالي أتت تلك "النكهة التي نحسها لديه من أنه كان يصر على أن يكون ذلك الأدب أقرب ما يكون إلى الواقع الحقيقي. ويقيني أنه كان سيكون كاتباً من نوعية زولا حتى ولو لم يعرف أدب زولا"، يضيف كاتب "السيرة" ملاحظاً كيف أن أسلوب كرين هو الذي جعله يفرد صفحات كثيرة لتفسير كيف أن هذا الأخير حتى في كتابته تحقيقاته الصحافية كان يدنو منها وكأنها نصوص روائية تخييلية، "ولا سيما حين يكتب واصفاً مدينة نيويورك، إذ يصبح من المستحيل على قارئه أن يدرك ما إذا كان يكتب نصاً وثائقياً أو تخييلياً. هل تراه يصف الواقع وصفاً عيانياً أم تراه يبتكر؟".

كيف نزرع الحيرة

ويقيناً أن أوستر وفي هذا الجانب بالتحديد يزرع نوعاً من الحيرة لدى قارئه هو نفسه، طارحاً الأسئلة نفسها كقارئ راصد كما كمبدع مؤلف حول الفروق في ذلك البعد بالنسبة إلى أدبه نفسه. ولعله يوصل قارئه إلى ذروة تساؤلاته حين يصل في حديثه إلى رواية أخرى من روايات كرين لا تحظى، أدبياً في الأقل، بشهرة روايته الكبرى "بيغي..."، وهي "وسام الشجاعة القاني" التي حولتها هوليوود إلى واحد من أقوى الأفلام التي تناولت حرب الانفصال بين الشمال والجنوب في التاريخ الأميركي. ذلك أن "هذا البعد المتأرجح بين التخييلي والتوثيقي هو الذي يجعل من هذه الرواية نصاً بالغ الحداثة وبالغ القوة. ولنعترف بأن كثراً من كبار الكتاب العالميين قد كتبوا عن الحروب، من تولستوي إلى زولا مروراً بكبار غيرهم، لكن أياً منهم لم يتناولها بمثل هذه القوة. فلدى كرين جوانية مذهلة تجعل من روايته نوعاً من دراسة سيكولوجية للمجابهة بين الشاب اليافع هنري فليمنغ والحرب نفسها. صحيح أننا لا نعرف سنه، لكننا نفترض أنه في أولى سنوات مراهقته كما كانت سن الروائي نفسه في الزمن الذي يحدده لأحداث الرواية".

سيكولوجية مبكرة

وهنا لا يفوت أوستر أن يذكرنا بأن كرين كان أكبر قليلاً من تلك السن حين كتب تلك الرواية بما فيها من سبر لبطلها الذي يكاد يكون أناه الأخرى. وكذلك أنه كان في تأرجحات سن "بطلته بيغي" حين كتب "بيغي فتاة الأزقة". ترى من أن استقى كرين كل تلك المعرفة بأعماق شخصياته؟ يتساءل صاحب "مون بالاس" و"رجل في الظلام"، لكنه يبدو عاجزاً عن الإجابة وعلى وشك أن يستسلم أمام مئات الأسئلة التي يطرحها في هذا الكتاب الذي، في نهاية الأمر لن يكون من الغريب أن نرى فيه ليس فقط نوعاً من "وصية أدبية" في أخريات حياته سجلها من خلال ذلك الأنا الآخر الذي أوقعته الصدفة بين يديه أو تحت قلمه، بل نوع من محاولة لطرح أسئلة الذات وهو يراجع عند نهايات حياته مسيرته الخاصة من خلال مواطنه وسلفه القديم الذي علينا في النهاية أن نتذكر أنه كان الوحيد الذي كتب له أوستر سيرة متكاملة في مساره الكتابي كله. ويقيناً أن ذلك لم يكن صدفة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة