Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صور "الميدا" تكلفه حياته في الحرب الأهلية السريلانكية

الرواية التي فازت بجائزة "بوكر" تكشف الفساد والجرائم في مرحلة الثمانينيات

الروائي السريلانكي شيهان ناروتيلاكا (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

رواية الكاتب السريلانكي شيهان كاروناتيلاكا "أقمار معالي ألميدا السبعة" التي فازت بجائزة بوكر البريطانية، صدرت حديثا بالترجمة الفرنسية، وهي تتناول الحرب الأهلية في سريلانكا وتفضح أحوال الفساد التي أحاطت بها. ومع أن معظم روايات بوكر تتم ترجمتها إلى العربية، فهذه الرواية لم تعرّب، على رغم أهميتها على أكثر من مستوى.

رواية الكاتب السريلانكي الذي يكتب بالإنجليزية شيهان كاروناتيلاكا "أقمار معالي ألميدا السبعة" التي فازت بجائزة "بوكر" الأدبية لعام 2022 والصادرة حديثاً في ترجمة فرنسية قام بها كزافييه غرو في باريس عن دار كالمان ليفي (2024) لا تشبه الروايات الأنغلوفونية التي اعتدنا على قراءتها. إنها مزيج غريب من أساليب الكتابة الروائية الطليعية والسرانية التي تخترقها من أولها إلى آخرها. تدور أحداثها في كولمبو العاصمة السريلانكية وتحديداً في ثمانينيات القرن الـ20، حين كانت الحرب الأهلية مستعرة في الجزيرة الصغيرة الواقعة في المحيط الهندي. بطل الرواية معالي ألميدا هو مقامر مثلي ومصور فوتوغرافي حربي يستيقظ فجأة بعد موته، ليدرك أنه متوفى من دون أن يتذكر كيف مات. يجد نفسه في غرفة انتظار غريبة يصل إليها المتوفون حديثاً أفواجاً إلى مكاتب توجههم إلى أماكن أخرى قبل التوجه نحو النور العظيم.

غير أنه يدرك فجأة أن لديه سبعة أقمار أو سبع ليال، قبل أن ينتقل نهائياً إلى العالم الآخر ليقرر ما إذا كان سيغوص في هذا النور أم لا. ولئن عجز ألميدا عن تذكر موته، فإنه اقتنع أنه يهلوس جراء تناوله واحدة من الحبوب "السحرية" التي قدمتها له صديقته جاكي.

 وعلى رغم كل شيء يعي في تضاد غريب أنه في سباق محموم مع الوقت والفوضى العارمة التي تلف المدينة المليئة برائحة الموت والدمار، للوصول إلى أقارب الضحايا لإرشادهم إلى الصور التي التقطها والتي تصور وحشية الصراع في بلده. وها هوذا من "برزخه"، يحاول جاهداً التواصل مع أصدقائه أو أي فرد من عائلته أو أي شخص يمكنه مساعدته، بغية إيصال صوره المحفوظة في صندوق، التي توثق مشاهد الحرب والموت والدمار والفظائع التي عاينها بنفسه.

 يخبرنا الراوي أن معالي ألميدا قام بتصوير جميع المجازر التي وقعت في بلاده خلال النزاع المسلح والتمرد المتقطع ضد الحكومة السريلانكية الذي قام به نمور تحرير إيلام تاميل الذين طالبوا بإنشاء دولة تاميلية مستقلة في شمال الجزيرة وشرقها، بعد أن نجح في التواصل مع النمور الانفصاليين. ولعله أدرك أهمية صوره التي هي، على قسوتها وبشاعتها، قادرة في رأيه أن تفضح العنف، فتضع حداً للصراع الدموي الذي يمزق البلاد.

في شوراع كولومبو

هكذا يصور لنا كاروناتيلاكا في القالب الروائي الذي وضع فيه بطل سرديته، السباق المحموم الذي يخوضه ألميدا في شوارع كولمبو للتأكد من أن صوره لن تقع في الأيدي الخطأ. فيجعل من هذا السباق ومن بنية الرواية السردية مناسبة لاستعادة تاريخ بلاده منذ أن عرفت بحسب الروايات القديمة باسم "تاروبان" أو "سرنديب"، وهو الاسم الذي أطلقه عليها العرب، أو جزيرة "سيلان" بحسب التسمية التي عرفت بها حتى سنة 1972. فيتحدث عن وصول البرتغاليين الذين بسطوا سيطرتهم على الجزيرة في القرن الـ16 حتى تمكن الهولنديون من أن يحلوا محلهم، جاعلين من البلاد قاعدة تجارية في المحيط الهندي حتى بدايات القرن 19، ثم سيطرة البريطانيين واستقلال البلاد في منتصف القرن الـ20...

 هذا الكم الهائل من المعلومات التاريخية لا يشكل عائقاً أمام تطور الخيط السردي وأسلوب الكتابة الجميل المطعم بسخرية سوداء خففت في بعض الأحيان من قسوة الوصف الذي نجح الراوي في نقله إلى القارئ الذي يتنسم على تتالي صفحات الرواية الفانتازية روح المكان ورائحة إنسانه.

 ولعل هذه الرواية التي تبدأ كمهزلة، لتتحول بسرعة إلى رواية فريدة من نوعها، يلعب فيها شيهان كاروناتيلاكا على الشكل، ليتناول مضموناً يتطرق إلى موضوعات الاضطرابات السياسية والعنف والفساد في المجتمع المدني في بلد مزقته الحرب. يجعل المؤلف من السرد المتنقل ذهاباً وإياباً بين الحاضر والماضي، انطلاقاً من حياة معالي ألميدا المهنية والشخصية التي تتضمن الأحداث التي أدت إلى وفاته في عالم يسحق القوي فيه الضعيف، القالب الذي صب فيه رؤيته لتاريخ بلاده.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا يكتشف القارئ مع البطل أن هذا الأخير قد اغتيل أثناء وجوده في كازينو مثل عديد من مواطنيه في الجمهورية الاشتراكية الديمقراطية السريلانكية، وأن جثته تم التخلص منها بواسطة "رجال القمامة" العاملين في فرقة الموت، وأن رئيس الفرقة هو من كبار مسؤولي النظام السريلانكي، مما يعني أن معالي ألميدا قد استهدف بسبب تصويره الفظائع التي ارتكبها الانفصاليون والنظام والجيش والشرطة وجميع الفصائل المشاركة في الحرب الأهلية، إذ امتلك صوراً سرية مخيفة تدين الأطراف المختلفة، ومن بينهم مسؤولون رفيعو المستوى.

تعالج هذه الرواية إذاً، بمزيج من الواقعية التاريخية والخيال السحري والهجاء السياسي والفكاهة القاتمة أحد أحلك الفصول في تاريخ سريلانكا الحديثة. وقد قال كاتبها إنها حيرت الناشرين الدوليين الذين تاهوا في مستنقع السياسة السريلانكية، مضيفاً أنه كتب الرواية بصيغة المتكلم، لكنه وجد صعوبة في فصل صوت الراوي عن صوته، موجهاً فيها أيضاً نظرة نقدية إلى الدور الذي لعبته الدول الأجنبية والمنظمات الدولية التي تدخلت في الحرب خلال تلك الأعوام.

 تأخذنا هذه الرواية الغنية التي أعاد كزافييه غرو صياغتها بلغة فرنسية أنيقة، من خلال تناولها حقبة كريهة من ماضي سريلانكا وحربها الأهلية إلى قلب عالم الإنسان المظلم. لكننا بمجرد وصولنا إلى هناك، نكتشف، في الوقت عينه، واجب الذاكرة والرقة والجمال والحب والولاء والسعي وراء الفهم حتى بعد الموت، لعدم نسيان الفظائع، بغية محاولة السير قدماً على طريق الحياة. الحقبة الزمنية التي يتناولها الراوي الذي نجح في وصف رعبها، مفجراً بأسلوبه الخلاق مبادئ السرد التقليدية، حين وضع الفانتازيا والغموض والدراما الشخصية والسرد التاريخي جنباً إلى جنب، هي التي جعلت "أقمار معالي ألميدا السبعة" تشع بعيداً من أرضها الأصلية. فالرواية رحلة مدهشة في عالم الأدب السريلانكي، وشيهان كاروناتيلاكا هو بلا أدنى شك كاتب جريء وموهوب، متملك من التقنيات السردية، جعل قراءه يدركون أن أفكار الفساد والاستهداف العرقي والعنف والمحسوبية لم تنجح ولن تنجح أبداً، في أي مكان في العالم، ولو كان هذا المكان جزيرة صغيرة في المحيط الهندي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة