ملخص
شهدت مدن سودانية عدة خلال الأيام الماضية أعلى نسبة هطول أمطار وفيضانات، هي الأكبر منذ أعوام طويلة، واجتاحت السيول مناطق في شمال البلاد ظلت لعقود طويلة خارج خريطة المناخ الممطر في السودان نظراً إلى طبيعتها الصحراوية.
يواجه السودان تحديات عدة للتصدي لظاهرة التغير المناخي وآثاره المتمثلة في موجات الجفاف والإجهاد الغذائي والمائي وسط عجز الحكومة عن تلبية حاجة السكان نتيجة اندلاع الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023.
وبرزت تغيرات متسارعة في التحولات المناخية، بخاصة موجات الحر غير المسبوقة التي وصلت إلى حدود الـ50 درجة مئوية وما رافقها من نقص في مياه الشرب، فضلاً عن تدمير النظم البيئية والزحف الصحراوي والفيضانات والحرائق المدمرة.
وأدت هذه التحولات المناخية للمرة الأولى إلى هطول أمطار غزيرة وسيول بصورة غير مسبوقة في مناطق شمال السودان وشرقه معروفة بصيفها الجاف شديد الحرارة، إذ لم تشهد هذه الأقاليم كوارث منذ أعوام طويلة وبمعدلات أمطار تجاوزت 100 ملم. وينذر الوضع بكثير من الأخطار على مجرى النيل الذي بدأ يختنق فعلاً بوصول الرمال إلى شواطئه مباشرة، إلى جانب التدمير الكبير المنتظر لما تبقى من الرقعة الزراعية في شمال البلاد، على رغم أنها تعتبر من أخصب الأرضي، غير أن الرمال التي علتها تصعب من مهمة استصلاحها.
تزايد المعاناة
في وقت لم تندمل جراح السودانيين من مآسي الحرب والنزوح والتشرد والتمكن من تجاوز الأوضاع الإنسانية الكارثية، طرقت كارثة السيول والأمطار أبواب ولايتي نهر النيل والشمالية، وأجزاء واسعة من إقليم البحر بمعدلات غير مسبوقة، متسببة في أضرار وخسائر كبيرة وتداعيات صحية وبيئية، وجرفت عدداً من الطرق الرئيسة شمال البلاد وشرقها، وجلبت معها مواد سامة من مناطق التعدين إلى داخل المدن والحقول الزراعية. واجتاحت السيول عدداً من القرى بمحلية وادي حلفا وجرفت طريق حلفا - السليم، وغمرت المياه كذلك معبر أشكيت الحدودي بين السودان ومصر، وشهدت مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور أمطاراً غزيرة وسيولاً جرفت عدداً من الطرق الرئيسة وتسببت في فيضان واسع لوادي كجا، وكذلك عزلت الأمطار الغزيرة مناطق عدة بولاية جنوب كردفان.
أضرار وخسائر
إلى ذلك، حذرت الهيئة العامة للأرصاد الجوية من توالي هطول الأمطار الغزيرة المصحوبة بالرياح القوية والعواصف الرعدية المتوقعة في عدد من ولايات السودان حتى منتصف الشهر الجاري، ويتوقع أن تتسبب في سيول جارفة وفيضانات للأودية بصورة قد تهدد الأرواح وتضرر الممتلكات والبنية التحتية، خصوصاً في ولايات البحر الأحمر وكسلا والشمالية ودارفور، وكذلك نهر النيل وسنار.
وتسببت السيول في وفاة 83 شخصاً وتدمير أكثر من 30 ألف منزل كلياً وجزئياً، وتسببت في نزوح 600 أسرة في منطقة أبو حمد بنهر النيل، وتدمير 150 مرفقاً خدماتياً، في حين تعرض 20 شخصاً في الأقل للدغات العقارب.
وشهدت مدن عدة في السودان خلال الأيام الماضية أعلى نسبة هطول أمطار وفيضانات، هي الأكبر منذ أعوام طويلة، واجتاحت السيول مناطق في شمال البلاد ظلت لعقود طويلة خارج خريطة المناخ الممطر في السودان نظراً إلى طبيعتها الصحراوية، وفق خبراء في الأرصاد الجوية. وغمرت المياه عدداً من المشاريع الزراعية وتأثر محصول البصل المخزن نتيجة هطول الأمطار بغزارة.
اللجوء إلى الجبال
وتداول ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لأكثر من 200 أسرة في منطقة سيركمتو بالولاية الشمالية، لجأوا إلى الجبال بعد محاصرة المياه المنطقة بالكامل.
في الأثناء، أطلقت وزارة الصحة بالولاية الشمالية نداءً عاجلاً إلى المجتمع الدولي والإقليمي والمحلي بضرورة التدخل لإنقاذ حياة آلاف المتضررين بالأمطار والسيول في منطقة وادي حلفا، وحذرت من كارثة إنسانية محدقة بآلاف النازحين بسبب الأمطار والسيول وآثارها.
وأشارت إلى أن "أكثر من ثلاثة آلاف منزل، وعدداً من المرافق الصحية ومراكز إيواء النازحين تعرضت لأضرار بالغة في مدينة حلفا والقرى المجاورة لها"، لافتة إلى الحاجة الماسة لإطعام المتضررين وإيوائهم وتوفير الخيام والمواد الغذائية والأدوية.
أخطار بيئية
وقرع ناشطون في مجال البيئة جرس الإنذار إزاء الأخطار الصحية عقب وصول مخلفات التعدين المنتشرة بكثافة في مدينة أبو حمد بالولاية الشمالية، إلى المناطق السكنية ومصادر مياه الشرب، بعد أن جرفت السيول تلك المواد السامة مع مخلفات التعدين إلى داخل المدينة، بخاصة المواد الضارة بالبيئة كالزئبق والسيانيد، مما يهدد بكارثة صحية وبتلوث المياه الجوفية والأشجار ومياه نهر النيل.
وفي هذا الصدد، حذرت شبكة أطباء السودان من وقوع كارثة بيئية وإنسانية جراء السيول والأمطار في مناطق عدة، وأشارت إلى أن "مناطق إنتاج الذهب بمحلية أبو حمد تضررت بنسبة عالية، لا سيما بعدما جرفت السيول كثيراً من المنازل والممتلكات ومناطق التعدين الأهلي والشركات، بما في ذلك ما يعرف بـ’الكرتة‘".
ولفتت الشبكة إلى أن "هذا الوضع ينذر بكارثة نتيجة الاستخدام السابق لمواد كيماوية قاتلة مثل الزئبق والسيانيد التي تسبب مشكلات عدة، من بينها تأثيرات ضارة في الجهاز التنفسي، فضلاً عن تزايد حالات الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي ولدغات العقارب والكسور جراء السيول".
ودعت شبكة أطباء السودان الجهات المتخصصة والمنظمات التطوعية والخيرية والكوادر الصحية إلى الاضطلاع بمهماتها وتقديم المساعدة اللازمة للحد من تفاقم الوضع وتقديم الدعم للسكان المتضررين.
محدودية الموارد
المديرة الوطنية لمشروع تمويل التصدي لأخطار المناخ في السودان راشدة حسن دفع الله قالت إن "معظم مناطق البلاد جافة وصحراوية وتعاني محدودية الموارد المائية مع تربة منخفضة الخصوبة وموجات جفاف متكررة، سببها التغيرات المناخية وبعض الممارسات البشرية الخاطئة، مما جعل السودان يتسم بالهشاشة أمام الصدمات المناخية، ولذلك فإن موجات الجفاف القاسية هي من أهم الأخطار التي يواجهها، علماً أن تتابع الأعوام الجافة أصبح ظاهرة واضحة فيه، مما يهدد الزراعة وغيرها".
وأضافت أن "موجات الجفاف تزيد هشاشة الموارد الطبيعية المتاحة، وينتج منها تناقص خصوبة الأراضي، بالتالي غياب الأمن الغذائي الناجم عن تدني الإنتاجية لأن أكثر من 80 في المئة من السودانيين يعتمدون في غذائهم على الزراعة التي تشارك في نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك على الرعي".
وأوضحت دفع الله أن "أسباب الحروب والهجرات والنزوح هي في الأصل الصراع على الموارد الطبيعية في السودان، فتأثير الموارد الطبيعية المباشر بتغيير المناخ هو الذي يعرض المجتمعات لظروف ضاغطة يزيد من حدتها التنافس على الموارد الطبيعية في الزراعة والرعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
آثار اقتصادية
المتخصص في الشأن الاقتصادي ضياء حامد قال إن "تقاطع التغير المناخي مع الحرب في السودان أثر بصورة كبيرة في القطاع الزراعي وانخفاض الإنتاج، ما زاد في تفشي المجاعة"، وأضاف أن "كثيراً من المواطنين استغلوا الصراع المسلح وغياب الأمن للتنافس على ملكية الأراضي والموارد المائية، بخاصة في ولايات دارفور وكردفان، ونتج من ذلك نزوح آلاف المزارعين والرعاة، فضلاً عن تعرض البنية التحتية الحيوية مثل الطرق والجسور وأنظمة الري وشبكات الطاقة لأضرار بالغة ودمار كبير، مما قيّد الأنشطة الاقتصادية في أقاليم السودان كافة".
وأشار إلى أن "تمركز النازحين في شرق البلاد وشمالها يسهم في ارتفاع الطلب على الموارد المحدودة، خصوصاً مع استمرار الحرب من دون وجود أفق لحل في الوقت الحالي"، شارحاً أن "تغير المناخ سيؤدي إلى زيادة التصحر في المساحات الصالحة للزراعة في السودان، إذ تغطي المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية نحو 72 في المئة من إجمالي مساحة البلاد، ويعتمد 80 في المئة من السكان على الزراعة المتأثرة بالمناخ، مما يعني اتساع الخطر وتهديد الأرض والإنسان والحيوان، فضلاً عن انخفاض المساحة الإجمالية الصالحة للزراعة وحزام إنتاج الصمغ العربي، مما يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة".
اختناق مجرى النيل
وأسهم التغير المناخي في اختناق مجرى نهر النيل في منطقة أبو حمد بالولاية الشمالية نتيجة انحسار الغطاء النباتي وغطاء الغابات بسبب الرعي والاحتطاب الجائر، وبات نهر النيل في تلك المنطقة مكشوفاً تماماً أمام صحراء العتمور المعروفة بكثافة رمالها وسرعة حركتها.
المتخصص في مجال الجغرافيا وخدمات البيئة والتنمية حسن سعيد النعمان قال إن "الضفة الشمالية لنهر النيل تعرضت للدفن المباشر بواسطة الكثبان الرملية المتحركة، بخاصة منطقتي الدبة ومروي، إذ بدأت الرمال بالفعل تجتاح بعض شواطئ ضفته الشرقية الشمالية، مما يهدد بتضييق مجراه بصورة مستمرة".
وأضاف أن "الوضع ينذر بالخطر على مجرى النيل الذي بدأ يختنق فعلاً بوصول الرمال إلى شواطئه مباشرة، إلى جانب التدمير الكبير المنتظر لما بقي من الرقعة الزراعية في تلك المناطق"، منبهاً إلى "تناقص الرقعة الزراعية وانحسار الغطاء النباتي نتيجة التآكل المستمر للجروف والزحف الصحراوي وهجرة المزارعين المتمرسين والحرائق التي ظلت تتعرض لها البساتين، كلها أدت إلى افتقاد التروس العليا للنيل خاصيتها البستانية، وتسارع زحف رمال صحراء العتمور لتصل مباشرة إلى الضفاف والشواطئ".
زحف صحراوي
يُعدّ شح المياه أحد ملامح التغير المناخي، وبدأت آثاره تتضح في السودان من واقع صعوبة وصول كثير من المجتمعات النائية إلى المياه، فضلاً عن السكان في مدن بورتسودان والقضارف والأبيض وغيرها، إما بسبب هشاشة البنية التحتية أو التهميش الاقتصادي الناتج من الحرب التي دخلت شهرها الـ17.
وبحسب مصفوفة مبادرة التكيف العالمية لجامعة نوتردام، يأتي السودان في المرتبة الثامنة لجهة قابلية التأثر بتغير المناخ من أصل 185 دولة في العالم، وفي المرتبة 175 لناحية الاستعداد، مما يضعه في المربع العلوي الأيسر من المصفوفة.
ويمثل الزحف الصحراوى أحد المهددات التي تواجه السودان بعدما تمدد في 14 ولاية سودانية واجتاح نحو ثلاثة في المئة من إجمالي الأراضي، في حين تشير دراسات محلية إلى أن نحو 64 في المئة من أراضي السودان معرضة للتصحر نتيجة عوامل طبيعية أو بشرية.
وبحسب بعض الدراسات المحلية، فإن خطر الزحف الصحراوي وموجات الجفاف والتصحر من أكبر مهددات تركيبته السكانية وإضعاف موارده المحلية، وتحولت مئات الفدادين من الأراضي الزراعية إلى صحارى قاحلة، وكذلك أدى التصحر إلى تزايد ظاهرة صراعات المجتمعات المحلية على الأراضي الخصبة.