ملخص
على مدى أسابيع طويلة عمدت إسرائيل خلال حربها الأخيرة مع "حزب الله" على نسف قرى وشوارع وبلدات بأكملها بعد دخولها وتفخيخها، في مشهد ذهل له اللبنانيون، بخاصة عندما رأوا أحياء بأكملها تحولت دماراً في ثوان قليلة.
وفي تبعات هذا الدمار الكبير لم تعد المعالم العقارية للمناطق التي تعرضت للقصف واضحة، فلا منازل بقيت ولا شوارع ولا حتى أشجار يستدل بها، فيعرف من خلالها النازح عند عودته لبلداته أن أرضه تبدأ هنا وتنتهي هناك.
في ظروف الحرب القاسية، كتلك التي عاشها لبنان في الأشهر الماضية، يبدو وكأن ما تسببه من خسائر بشرية ومادية وما يرافقها من مشاعر خوف وقلق أسوأ ما يمكن التعرض له.
إنما في الواقع، يبدو أن تبعات الحرب وما تخلفه من كوارث وأزمات قد لا يقل صعوبة.
على مدى أسابيع طويلة عمدت إسرائيل خلال حربها الأخيرة مع "حزب الله" على نسف قرى وشوارع وبلدات بأكملها بعد دخولها وتفخيخها، في مشهد ذهل له اللبنانيون، بخاصة عندما رأوا أحياء بأكملها تحولت دماراً في ثوان قليلة.
وفي تبعات هذا الدمار الكبير لم تعد المعالم العقارية للمناطق التي تعرضت للقصف واضحة، فلا منازل بقيت ولا شوارع ولا حتى أشجار يستدل بها، فيعرف من خلالها النازح عند عودته إلى بلداته أن أرضه تبدأ هنا وتنتهي هناك.
إعادة الإعمار بتصميم جديد
في ظل القصف المدمر الذي طاول مناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، فقدت عقارات كثيرة معالمها، واليوم مع انطلاق عملية إعادة الإعمار الطويلة، تبدو هذه من الأزمات الكبرى التي لا بد من الاستعداد لمواجهتها مع ضرورة رسم الحدود العقارية من جديد.
نفتح هذا الملف مع المهندس علي دياب الذي توقف بداية عند الخطوات الضرورية التي رافقت عملية إعادة الإعمار بعد حرب يوليو (تموز) 2006، حينها استعانت الدولة به وبغيره من الاستشاريين للعمل على إظهار حدود العقارات وكل من المباني المدمرة مجدداً في الضاحية الجنوبية إثر الدمار الذي لحق بها، فتصميم المدينة والمباني التي فيها بعد الحرب ليس كما قبلها. ويقول دياب "قمنا بإعادة البناء آنذاك بصورة تحفظ حقوق الغير والأملاك العامة. بطبيعة الحال لم يكن من الممكن الاعتماد على الخرائط المتوافرة أصلاً بوجود تعديات ومخالفات، فكان الأجدى للكل الاعتماد على إظهارات حدود جديدة، وهذا ما سيحصل الآن أيضاً، وإن كان الدمار الحاصل اليوم أكبر بكثير. ستحصل عملية إعادة الإعمار كاملة لا بناء على خرائط، بل بناء على عمليات إظهار حدود جديدة أكثر دقة مع تصميم جديد للأبنية المهدمة بالكامل". ويوضح أنه من المفترض أن تتم عملية إعادة البناء مع الحفاظ على الوحدات السكنية وأعداد الغرف، ولو اختلف التصميم حكماً بصورة تراعي التراجعات في الحدود.
قد تساعد الظروف في استعادة التصميم الذي كان موجوداً أصلاً، فيعاد إعمار المباني وفق تصميمها الأصلي، لكن إذا كانت المباني المهدمة قديمة، من الطبيعي اعتماد تصاميم أكثر تطوراً في إعادة الإعمار. ويشير دياب إلى أن منطقة برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية مثلاً من المناطق التي سجلت فيها النسبة الأعلى من الدمار، وينطبق ذلك على منطقة الشياح، وكلتاهما من المناطق التي تكثر فيها المباني القديمة التي يعود تاريخ بناؤها لما قبل 70 سنة. أيضاً تكثر في هذه المناطق التعديات لاعتبار أنه في الحرب لم تكن هناك اعتبارات للحدود، ولم يكن هناك احترام لأملاك الغير وللأملاك العامة. لكن في الضاحية الجنوبية ما يسهل عملية إعادة الإعمار أن المساحة نهائية، بعكس ما هو عليه الوضع في القرى الجنوبية الحدودية.
تحديات في الضاحية الجنوبية وأخرى في الجنوب
في الجنوب اللبناني نحو 33 ألف وحدة سكنية مهدمة، منها 10 آلاف في محافظة النبطية، و10 آلاف في مرجعيون، و1000 تقريباً في صور، بحسب تقرير الكشف الأولي على المناطق. ولا تعتبر عملية إعادة الإعمار في المناطق كافة التي تعرضت لدمار هائل سهلة، بل يتوقع دياب أن تتطلب فترة لا تقل عن 10 سنوات، إلا أن الصعوبة الكبرى تتركز بصورة أساسية في الضاحية الجنوبية، إذ تتعلق إعادة الإعمار بوحدات سكنية ومبان مهدمة، هذا إضافة إلى التدمير الهائل الذي طاول البنى التحدية، ويتطلب عملية ترميمها وقتاً طويلاً.
أما في القرى فتبدو إعادة الإعمار أكثر سهولة إلى حد ما، لأنها تتعلق بمنازل منفردة. فيمكن العمل على إظهار الحدود وإزالة الردم الذي هو بكمية أقل أيضاً، والبدء بأعمال البناء بصورة فردية. كما أنه ليست هناك ملكية مشتركة في القرى بصورة تعرقل عملية إعادة الإعمار، مما يسهل الأمور من هذه الناحية إلى حد ما.
حتى أن أعمال الترميم للبنى التحتية تجري في القرى بوتيرة سريعة بسبب كثرة المبادرات الفردية واندفاع الأهالي للإعمار، فهم بطبيعتهم أكثر ميلاً إلى المبادرة في أعمال البناء والإعمار. وفي هذه الحالة يمكن الاعتماد على إظهار الحدود الرسمية مع أخذ التراجعات المطلوبة عن الجيران في الاعتبار، شرط أن تكون في هذه القرى مساحة نهائية. مع الإشارة إلى أنه في هذه المناطق، تقل التعديات لأنه ثمة مساحات كبرى. أيضاً يحترم كل مواطن حدود جاره في القرية، مع تراجع بمعدل نحو خمسة أمتار في الأقل عنه، وإن كانت التعديات على الأملاك العامة ممكنة في مثل هذه الحالة، إلا أن هذا لا ينطبق على القرى القديمة و"خراج" البلدات، إذ يكون هناك تلاصق في المنازل عادة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما المشكلة الكبرى التي يمكن مواجهتها، فهي في القرى الحدودية التي لا مساحة نهائية لها، وهي تعتمد على الصور الجوية وعلى آلية العلم والخبر. ففي قرى مثل الضهيرة وعيتا الشعب وغيرها من القرى الحدودية لا مساحة نهائية ولا خرائط، بل تعتمد حدوداً قديمة كانت تقسم فيها الأراضي بطريقة عشوائية وبالتراضي، وهي ليست رسمية ولا دقيقة ويجب إظهار الحدود بصورة رسمية لحفظ حدود الغير.
انطلاقاً من ذلك ستكون عملية إظهار الحدود الأصعب والأكثر تعقيداً في القرى الحدودية، ومن المفترض بعدها وضع الحدود الرسمية مع تصميم محدد للبناء. وصدر عن مجلس النواب اللبناني قانون في شأن إعادة الإعمار والوحدات السكنية في القرى، إلا أنه ثمة صعوبة إضافية في أن قرى كثيرة تعرضت للتدمير الكامل مع جرف للأراضي والحقول.
وهنا ستتطلب عملية إعادة الإعمارعدداً كبيراً من خبراء المساحة للعمل على إظهار حدود العقارات، وهي عملية صعبة تتطلب وقتاً وتمويلاً. هذا من دون أن ننسى ما يزيد على ثمانية أطنان من الردم التي من المفترض إزالتها أولاً. فبعد حرب 2006 كانت معضلة الردم موجودة أيضاً، إلى أن اتخذ القرار ببيع الردم مع الحديد. فاستخرجت الشركة الملزمة بإزالة الردم، وتستفيد في الوقت نفسه من تلك الكميات الكبيرة من الحديد الموجودة فيها.
بين الوقت والتمويل
في كل الحالات تتطلب عملية إعادة الإعمار كاملة وقتاً ولا يمكن الاستخفاف به ولو أزيلت العقد كافة، فيشير دياب إلى أننا على أبواب الشتاء وليس بالمسألة السهلة إعادة الإعمار بسرعة في الظروف الحالية في البلاد التي ترزح تحت أزمة اقتصادية. أما بعد حرب 2006 فلم يكن الوضع مأسوياً بهذا الشكل، حتى أن المواطن اللبناني اليوم في حالة نفسية سيئة قد تشكل عائقاً أمام إعادة الإعمار سريعاً، نتيجة الصدمات المتكررة التي تعرض لها. ونظراً إلى أنواع القنابل والأسلحة التي استخدمت في هذه الحرب، كان القصف مدمراً أكثر بعد، حتى أن محيط الأبنية المدمرة متضرر بنسبة عالية.
بغض النظر عن الوقت الطويل الذي تتطلبه عملية إعادة الإعمار، يبقى الشرط الأساس توفير التمويل اللازم كخطوة أولى تسبق كل ما يجب أن يتخذ من إجراءات، فيما لا تعتبر مصادر التمويل واضحة حتى اللحظة، كما أنه ثمة حاجة إلى مواد البناء الأولية بكميات كبرى. على سبيل المثال في الجنوب 25 معمل باطون جاهز، وقد تكون هناك حاجة إلى العودة للأساليب القديمة مع اعتماد جبالات الباطون للبناء لعدم كفاية إنتاج هذه المعامل، ولا بد من تأمين البضاعة والمواد الأولية من حصى فيما الكسارات متوقفة عن العمل. ومن الشروط الأساسية التي لا بد من التشدد فيها خلال عملية إعادة الإعمار احترام الشروط الأساسية والحدود الموضوعة، مع الحرص على عدم تشويه القرى في الإعمار في بناء أبنية ووحدات سكنية لا تشبه تلك الموجودة أصلاً.
عوائق كثيرة في قرى أزيلت معالمها
من جهتها تشدد رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات أنديرا زهيري على التحديات في إظهار الحدود في القرى الخاضعة إلى آلية العلم والخبر في حدود العقارات، وهي كثيرة في الجنوب، ولم يجر فيها مسح عقاري رسمي، وبما أنه ما من مسح رسمي إلزامي، توضع حدود العقارات بالتراضي بين الجيران وبعلم من المختار.
وتضيف "هنا تزيد الصعوبة في هذه القرى التي تسبب التدمير الهائل فيها بمحو آثار الحدود الفعلية للعقارات، لذلك المطلوب البدء بوضع حدود العقارات كلها من جديد في عملية صعبة ومعقدة، خصوصاً في ظل تعديات أصلية كثيرة. علماً أن الصعوبات أكبر بعد لمن فقدوا منازلهم وأملاكهم بالكامل. ففي هذه المرحلة لا بد من إعادة الإعمار بطريقة مدروسة مع ضرورة تطبيق القانون في التنظيم المدني وبالتعاون مع البلديات، كما أنه من الممكن الاستعانة بالخرائط الجوية".
وفي السياق نفسه تشدد زهيري على أنه من الصعب الاعتماد على الخرائط الأصلية، خصوصاً أن كثيرين تركوا منازلهم بصورة مفاجئة مع بداية الحرب من دون أن يأخذوا معهم مستنداتهم التي تثبت الملكية، ففقدت كلها. ومنها ما قد يكون أتلف في الحرب حتى في المراكز التي في القرى والمناطق التي تعرضت للدمار. لذلك هناك إشكال على المستوى العقاري، خصوصاً أنه لم يسبق أن حصل سابقاً هذا الكم الهائل من الدمار في البلاد وبصورة أزيلت فيها المعالم والحدود العقارية.
في السابق كان كثيرون بنوا على أملاك الغير، وهناك من تركوا أملاكهم وأتى من بنى عليها. يبدو توفير صكوك الملكية، إذا كان ذلك ممكناً، في غاية الأهمية لتفادي التعديات. وهنا تقول رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات إنه لا بد من القيام بمسح جدي ودقيق، لتجنب المشكلات والحفاظ على حقوق الملكية.
"بعد انفجار المرفأ حصل مسح مماثل، ومن المفترض الانطلاق من هنا. كما يجب أن تكون البلديات مسؤولة هنا للمساهمة ولتأمين بيانات دقيقة، بما أنه لها الصلاحيات للقيام بذلك وفق القانون"، تضيف وتشدد على أنه لا بد من تأمين مهندسين وخبراء في تحديد المساحة للانطلاق في عملية إظهار الحدود للعقارات. هذا من دون أن ننسى إعادة المسح للأراضي الزراعية التي محا الدمار حدودها مع إعادة الفرز، لكن كل هذه الأمور تتطلب جهات مانحة وتمويلاً، وإلا ثمة كارثة حقيقية بانتظارنا.
تبدو البيوت الجاهزة من الحلول التي يمكن اللجوء إليها في المناطق المتضررة اليوم، وهي مطروحة بالفعل وتسلط الأضواء عليها، لكن تشدد زهيري على أنه لا يمكن تجاهل أساس النسيج اللبناني في ذلك حرصاً على السلم الأهلي. كما لا يمكن تغيير الوجه الديمغرافي للبلاد في عملية إعادة الإعمار لو اعتمت البيوت الجاهزة، وإن كانت صديقة للبيئة وتأمينها سريع وسهل.
خطوات لا مفر منها
يوضح نقيب الطوبوغرافيين المجازين سركيس فدعوس أنه في المرحلة الحالية لا يمكن القيام بعمل إنشائي صحيح من دون عمل طوبوغرافي يراعي المعايير العلمية، فلا بد من البدء بإظهار الحدود للعقارات التي أزالها القصف عندما أزيلت الإنشاءات بالكامل، بما أن كثيرين لم يعودوا قادرين على التعرف على عقاراتهم ولا يمكن الاعتماد على الخرائط القديمة. "يجب إعادة وضع الحدود بطريقة فنية بالتعاون مع الطوبوغرافيين، هو عمل فني وهندسي يقوم به أصحاب الاختصاص، على أن تبادر الدولة إلى التواصل معهم. كما أن الصور الجوية يمكن أن تساعد، بالتعاون مع قيادة الجيش التي يمكن أن تسهم أيضاً في تأمين الإحداثيات"، ويضيف أنه على المعنيين أن يعملوا على إعادة الحدود للعقارات، مع أهمية التواصل مع الدول العربية وإنشاء لجان من الاختصاصيين للمساهمة بفاعلية. فحتى الآن المعالم فقدت في المناطق التي تعرضت للقصف، لكن في المناطق النهائية التي لها خرائط موجودة مثل العاصمة بيروت، قد يكون الوضع أكثر سهولة، لكن في كل الحالات هي عملية تتطلب كثيراً من الدقة بوجود خبراء ولجنة متخصصة فنية وقانونية".