ملخص
اقترح وزير التربية والتعليم المصري قبل أيام إلغاء مادتي المنطق والفلسفة من الصف الثانوي الثالث، بحيث تتحول هاتان المادتان إلى مادتي رسوب ونجاح من دون إضافة علاماتهما إلى مجموع العلامات الكلي. هذا المجموع الذي يتيح للطالب اختيار اختصاصه في الجامعة. من تداعيات ذلك أن يهمل الطالب هاتين المادتين. ومعروف أن للفلسفة أهمية ودوراً أساساً في بناء إنسان العصور الحديثة العقلاني الرشيد.
الفلسفة كانت وما زالت للجميع، تتوجه بطبيعتها إلى غير الفلاسفة أكثر مما تتوجه إلى الفلاسفة. ذلك بأنها تستند دائماً إلى فهم قبل-فلسفي، إلى فهم قبل-أفهومي، قبل أن تبني أنظومتها الأفهومية. ينطلق الفيلسوف من مشكلات شخصية أو مجتمعية أو فنية أو علمية، لكن ليعيد صياغتها بطريقة كلية تناسب القول الفلسفي ويبني عمارته الفلسفية.
الفلسفة بما هي مصنع توليد الأفكار
لو فكرنا عميقاً لوجدنا أن ما نعانيه من أزمات سياسية مالية اقتصادية مجتمعية وغيرها يعود أساساً إلى أزمة في العقل والتفكير العقلاني. فعندما يفكر العقل أو الحس السليم بطريقة عقلانية حسنة، يصل إلى حل جميع الأزمات. أما إذا كان العقل لا يحسن التفكير السليم، فإنه يتخبط في أزمات لا نهاية لها. من البديهي القول إن أزمة العقل تعالج بالفلسفة أو في الأقل للفلسفة دور رئيس في ذلك .هكذا يمكن النظر في الفلسفة بوصفها مصنعاً لتوليد الأفكار، مع أنها ليست مجرد ضمة أفكار. فلو تناولنا مجموعة من الأفكار على سبيل المثال، كالديمقراطية وفصل السلطات والإرادة العامة والعقد الاجتماعي ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة والحرية والمساواة وسلطة الشعب والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وغيرها، وتساءلنا: من يولد هذه الأفكار؟ لأجبنا بأن الفلاسفة يولدون هذه الأفكار. لذلك لا غنى عن الفلسفة في الاجتماع البشري المعاصر.
ومن ثم، فالفلسفة بمنزلة مصنع يولد الأفكار وينظمها نظماً دقيقاً في أنظومات فلسفية. هل يمكن العيش من دون أفكار؟ كان نيتشه يقول إن الفيلسوف طبيب الحضارات. لا تبنى المدينة من دون علم، لكنها أيضاً لا تبنى بالعلم وحده. ولعلنا دفعنا ثمن التوجهات العلمية التي قدست العلم واحتقرت الفلسفة والعلوم الإنسانية وآمنت بكل ما هو مادي، متناسية دور الأفكار في بناء الإنسان والمجتمع وصنع التغيير، أو متجاهلة إياها.
الفلسفة عند بعضهم مجرد أداة، مجرد معول، مجرد ترسانة أفهومية، مجرد خادمة لدعم مذهبه الذي نشأ عليه مدعياً أنه المذهب الحق، ودعم أيديولوجيته الدينية أو السياسية التي صاغها آخرون قبل ولادته بقرون من دون أن يتساءل يوماً إن كانت تتمتع بتأسيس جيد أم لا. هكذا لم تعد الفلسفة سيدة أو مانحة غيرها الشرعية أو مؤسسة هذه الشرعية، بل صارت تعرض الخدمة أمام السلطان وأمام الكهنوت.
بناء الإنسان من مهمة الفلسفة
أقصى ما يستطيع التعليم العلمي أن يبنيه هو الحداثة الشيئية في الدولة. أما الدولة الحديثة، من ناحية أنها فكرة، والحداثة الفكرية فلا تبنيهما سوى الفلسفة وأخواتها. ولقد أثبتت أحداث غزة الأليمة أن التفكير العقلاني نادر الوجود في العالم العربي. لذلك وجب الإكثار من تعليم الفلسفة التي تعيد بناء التفكير العقلاني الرشيد عند الإنسان. وعليه، لا يمكن من يدعي محاربة الأصوليات الدينية أن يحاربها بداء أشد فتكاً منها، وهو الاستبداد! فبدلاً من توسيع تعليم الفلسفة التي هي بنت العقل البشري الشرعية لزيادة مساحة التفكير الفلسفي العقلاني النقدي الحر عند الناشئة، فإنا نجد أن وزير التربية والتعليم المصري يقترح إلغاء مادتي الفلسفة والمنطق من الصف الثالث الثانوي-أدبي. هذا ما اقترحه منذ أيام رابطاً ذلك في حاجة مصر إلى طلاب مهيئين للنجاح في سوق العمل، متناسياً دور الفلسفة في بناء الطالب المصري في كل مراحل التعليم. في وقت نطالب فيه بإدخال مادة الفلسفة في مرحلة التعليم الثانوي برمتها وجميع الاختصاصات الجامعية حتى يتعود الطالب، الذي هو المواطن في النهاية، أن يفكر من دون وصاية تفكيراً نقدياً حراً، نسمع بخبر إلغاء الفلسفة والمنطق من التعليم الثانوي في مصر.
في هذا السياق يقول مشير باسيل عون في كتابه "طريق الحكمة: رسالة الفلسفة في تدبير الوجود الإنساني" الذي صدر للتو (بيت الفلسفة، الفجيرة، 2024): "لا ريب في أن الجامعيين النابغين في حقول العلوم استشعروا وطأة الفراغ الفكري الذي ينتابهم من بعد أن استحصلوا على شهاداتهم الجامعية العليا. فقرروا الانسلاك في قسم الفلسفة ليدرسوا الفكر النقدي على أساتذة الفلسفة الجامعيين الذين ما برحوا حتى اليوم يعصمون أنفسهم من الانحراف الأيديولوجي المقيت، ويرشدون هؤلاء الطلاب إلى منابع الفكر الفلسفي الجريء بلغاته الأصلية ونصوصه الملهمة". ويضيف: "نسي المسؤولون أو تناسوا أن العلم لا يفكر، ولا يهذب، ولا يبني الوعي النقدي، ولا يصون الاتزان النفسي الداخلي، ولا يرشد الإنسان إلى سواء السبيل في القرارات الوجودية المصيرية. ولكم من عالم عبقري في حقل اختصاصه سقط سقوطاً مدوياً في ميادين القرارات الشخصية التي مهرت وجوده الفردي والزواجي والعيلي والاجتماعي والسياسي!".
أن يختار الطالب قسم الفلسفة ويدخله طوال سنوات الإجازة والماستر والدكتوراه، لا يعني أنه ملوث بلوثة الفلسفة كما لا يعني أنه يعشق فعلاً الفلسفة ليفكر من دون وصاية بصورة مختلفة غير مألوفة. فغالباً ما يختار المؤدلج أو المتدين قسم الفلسفة لا ليتعلم الفلسفة ويتمرن على التفكير الفلسفي، بل ليبقى حيث هو ويعزز ما هو عليه ويزين وجهه الأيديولوجي العريق ببعض المساحيق الفلسفية المنتهية الصلاحية. هذا ما على مدرسي الفلسفة أن يعالجوه بتعليم الفلسفة الحق.
هكذا نجد أن المستنير باحث عن الحقيقة، لا عن الوثوق بما تربى عليه وتدعيمه وتعزيزه. بهذا المعنى يكون من الصعب على المؤدلج أن يكون مستنيراً، إذ لا يستطيع الخروج على أيديولوجيته. لذلك لا يطيق التفكير، بل يمتنع عن التفكير في أساسات أيديولوجيته الواهية لأنه ينشد الاطمئنان، لا الحقيقة. يكتب الفيلسوف الحق في موضوعات شديدة التنوع، ومع ذلك يصر على أن قوله يبقى قولاً في الفلسفة وليس في أي حقل معرفي آخر. لا يبدع شيئاً إلا في صلة مع المشكلات التي يعيشها، ومع ذلك يحولها إلى مشكلات كلية يونيفرسالية تعني البشرية جمعاء. أما في عالمنا العربي، فيتحول الفيلسوف إلى مروج أيديولوجي من أجل مناصرة أيديولوجيا الحزب الحاكم أو أيديولوجيا التيارات الدينية. هكذا كان "الفيلسوف" العربي يتحول إلى منظر بعثي أو قومي أو حتى إلى أداة من أدوات السلطان الفكرية التي يحارب بها خصومه. لكن الفيلسوف الحق يعرف بنتاجه الفلسفي وموقفه المبدئي. وهذا ما لا تنجزه إلا قلة من المتفلسفين. وليست مشكلتنا أننا نتفلسف كثيراً، بل إننا لا نتفلسف بما يكفي.
طبيعة النشاط الفلسفي
وعليه، فالفلسفة إن لم توقظ ذهناً غافلاً من سباته، أو تشكك في بداهة سلم بها العقل تسليماً، أو تضيء منطقة معتمة في أعماق تفكيرنا ووعينا، أو تفكر في ما لم يفكر فيه بعد، أو تستكشف حقلاً فكرياً مجهولاً يمكن أن يتجدد به القول الفلسفي، أو ترسم آفاقاً فكرية تسمح بتجديد التفلسف واستئنافه، أو تستشكل (تُمشكِل) ما هو يومي لتؤسسه وترفعه إلى مستوى النظر والتحليل، أو تعد النظر في موروث حسبناه نهائياً، أو تتنطح للإجابة عن أسئلة العقل الأصيلة التي يطرحها بطبيعته حتى لو لم تكن لديه القدرة للإجابة عنها بما يرضي رغبته الجامحة في العلمان، أو تزعزع عقيدة مهما كانت في نظرنا راسخة، أو تنحت ذاتاً لتجعل منها تحفة فنية حياتية رائعة، أو تغير في طريقة تفكيرنا وأسلوب عيشنا حتى نرى الحياة بطريقة مختلفة، أو تناصر حرية مهما كانت التضحيات، أو ترفع وصاية فكرية تعوق انطلاق العقل وتحرره، أو تحارب حماقة تعوق العقل عن طرح المسائل والأسئلة، أو تقف في وجه الخرافة والشعوذة مهما كانت ممجدة، أو تبدد أوهاماً كثيراً ما اعتبرناها حقيقة، أو تكشف عن الأساسات الهشة لمذهب ما أو لعقيدة ما، أو تجترح فن وجود أو نمط حياة جديداً، أو تبدع أفهوماً خارقاً نبدأ به تفلسفنا، أو تصغ مسألة جديدة أو تجدد في مسألة قديمة حتى تتناسب مع عصرنا، أو تعارض سلطة قائمة حتى لو كانت سلطة فكرية، أو تحزن أحداً لأن الفكر عدواني بطبيعته، أو تقاوم ابتذالاً مهما عمَّ وانتشر، أو تفضح مألوفاً مهما كان راسخاً، أو تقوض أساساً مهما بدا متيناً، أو تؤسس فكراً حتى لا يبقى مجرد رأي، أو تشيد سستاماً فلسفياً حتى لو بقي مفتوحاً، أو تنظم أنظومة فكرية متماسكة تنجينا من شر الخواء، أو تبن عمارة فلسفية حتى لو بقيت غير منجزة تماماً، أو تسائلنا عن الطريقة التي بها كونا عقائدنا، أو تفكك أيديولوجيا تعوق تقدمنا، أو ترسم إطاراً فكرياً يجعل معارفنا وعلومنا ممكنة، أو تطرح سؤالاً لافتاً ومثيراً للانتباه عن معنى وجودنا، أو تعط معنى لحياتنا أو تساعدنا على فهم العالم والفعل فيه، أو تسهم في بناء إنسان نبيل راق، أو تغير في ما يمكن أن يعنيه التفكير اليوم، أو تفكر بصورة مختلفة، أو تقف بقوة في وجه عودة البربرية والتوحش، فهي مجرد ثرثرات ومماحكات ومجادلات عديمة النفع وعديمة التأثير للتميز من الجمهور.
في تعليم الفلسفة
إنه لأمر مؤسف حقاً أن يتحول تعليم الفلسفة في لبنان، سواء كان في الجامعات أم في الثانويات، إلى نوع من القصاص يحكم به على الطلاب الذين يفترض بهم أن يكونوا عشاقاً للحكمة. ولولا الاختبارات الرسمية لما اطلع طالب قط على كتاب الفلسفة الذي لم يكتب بأسلوب شيق، كما لا يقدم الفلسفة بوصفها طرحاً لمشكلات تعود إلى العقل بما هو كذلك وتمس كل واحد منا في الصميم. تحول درس الفلسفة إلى مجرد تلقين، بحيث يكون على الطالب أن يحفظ "الكور" حتى من دون أن يفهم منه شيئاً، ليقوم من ثم بـ"استفراغه" على ورقة المسابقة يوم الاختبار، ويعمد فوراً إلى تمزيق الكتاب بعد الانتهاء من الاختبار. وبدلاً من أن يكون الدرس الفلسفي، مهما كان موضوعه حتى لو كان درساً متافيزيقياً بامتياز، نوعاً من المتعة والفرح، فإنه يتحول إلى كابوس للطلاب والأساتذة على حد سواء.
الفلسفة التي هي طريقة معينة في التفكير وطريقة معينة في فن العيش، تتحول إلى مقولات جامدة لا يستفيد منها الطالب ولا تغير شيئاً في طريقة تفكيره ولا في طريقة عيشه. بذلك نضيع فرصة ثمينة أمام الطلاب الذين يحرمون مما يساعدهم على بناء أذهانهم بطريقة سليمة نقدية وحرة، ومن دون وصاية رجال الدين أو رجال السياسة. فالطالب الذي يخرج من قسم الفلسفة كما دخله لا يكون قد تعلم فلسفة، كما لا يكون قد تلوث بلوثتها.
الفلسفة بما هي كذلك، ضرورة للمدينة، ضرورة للاجتماع البشري. عندما تغيب الفلسفة ويغيب الفكر النقدي، تنتعش الأصوليات وتنتشر وتستحوذ على العقول، فتتحول الثانويات وأقسام الفلسفة في الجامعة إلى حوزات دينية. لذلك لا نتفاجأن بإعادة انتشار الأصوليات في مجتمعاتنا العربية. ليست الفلسفة مادة تضاف إلى بقية المواد، بل ركيزة بناء المجتمعات. عندما نفشل في تعليم الفلسفة، نفشل في بناء المجتمع فينهار هذا المجتمع ويتقوض ولو بعد حين. فسلطة الاستبداد بالتعاضد مع سلطة رجال الدين، يناسبها هذا النوع من الفلسفة التي لا توقظ ذهناً ولا تنعش فكراً ولا تسعى إلى تغيير طريقة التفكير ولا إلى تغيير المجتمع بما يتناسب مع أفكارها المستنيرة.
لذلك نأمل في أن تتغير طريقة تعليم الفلسفة في الجامعة حتى تأخذ الفلسفة دورها في المجتمع ومكانتها التي تستحق. مهمة الفلسفة، اليوم، محاربة الحماقة وفضح الثقافة الثرثارة والنضال ضد السلطة وعزل جائحة الغباء الاجتماعي والوقوف ضد الاستخفاف بالعقول. في الثقافة لدينا ثرثارون أكثر مما لدينا مبدعون. فالإبداع يتطلب موهبة لا تتوافر عند كثيرين. كما يتطلب جهداً استثنائياً يستنفد العمر كله. لا تنفصل الفلسفة عن غضب ضد العصر لأنها ثورية بطبيعتها. لكن لدى الفيلسوف ما يكفي من الرزانة ليبقى هادئاً ومتزناً، وإن كان في أعماقه غاضباً ضد عصره.
يخطئ كثيراً من يدخل محراب الفلسفة ليجعلها خادمة لعقيدته الدينية أو لأنظومته الأيديولوجية أو حتى عقيدته الوطنية أو القومية. بذلك يفقد الفلسفة حريتها ويمارس عليها نوعاً من الوصاية التي تعوق تقدمها، إذ لا مرجعية لها سوى ذاتها.
تعليم الفلسفة الحق، لا تعليم ما يشبه الفلسفة
وعليه، عندما نطالب بإدخال مادة الفلسفة مادة إلزامية في جميع الاختصاصات الجامعية، فإنا نعني بذلك الفلسفة الحق وليس ما هو مضاد للفلسفة أو بشبه الفلسفة كما يجري في غالبية أقسام الفلسفة في العالم العربي حيث تحولت هذه الأقسام إلى ما يشبه الحوزات الدينية وكليات الشريعة واللاهوت. فالفلسفة هي الفلسفة وليست ما يشبهها. إنها النشاط الفكري العقلاني الحر الذي برع فيه الفلاسفة الكبار المعترف بهم بما اجترحوه من فتوحات فكرية غيرت طريقة تفكيرنا ونمط حياتنا إلى الأبد. غايتها تمرين الطالب على التفكير الحر من دون مرجعية غير العقل ومن دون وصاية حتى لو كانت أعلى وصاية دينية أو سياسية، وعلى التفكير النقدي البناء الذي يروم اكتشاف ما هو مظلم ولا عقلاني في كل ما يبدو مضيئاً وعقلانياً.
يذكر أني سبق أن طالبت بإقفال أقسام الفلسفة في الجامعة اللبنانية عندما وجدت أنها تحولت إلى مقار للتوعية الدينية ونشر الفكر الديني أكثر مما هي أقسام لتعليم الفلسفة. كذلك وجدت أن غالبية طلاب الفلسفة يتخرجون في قسم الفلسفة من دون أن تترك فيهم أثراً. لست ضد الفكر الديني، لكن الفلسفة ليست الفكر الديني. كما لا بد من الإشارة إلى ظاهرة جديدة تطغى في أقسام الفلسفة، هي ظاهرة الشيخ "الفيلسوف" الذي يعلم "الفلسفة"، لكن من دون أي نقد لما هو عليه، إذ يدخل قسم الفلسفة طالباً بكامل عدته المذهبية وترسانته الفكرية التي تعلمها في الحوزات الدينية وكليات الشريعة من دون أن يغير فيه تعلم الفلسفة شيئاً. ويتخرج فيه من ثم أستاذاً، لكنه يبقى على حاله.
ما يعلم في الحوزات الدينية وكليات الشريعة ميدان من ميادين التفكر الفلسفي وليس، في أي حال من الأحوال، مرجعية يستند إليها الفكر الفلسفي. أضف إلى ذلك أن الفلسفة التي لا تغير في طريقة تفكير من يتعلمها ونمط حياته ولا تخلخل شيئاً في قناعاته الدينية والمذهبية التي تربى عليها ليست بفلسفة!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعليه، هل نشهد يوماً ما إقفالاً لأقسام الفلسفة في الجامعة العربية إذا ما وجدنا أنها باتت غير منتجة فكرياً وإذا ما وجدنا أنها تحولت إلى كليات شبه دينية، غايتها الترويج للعقيدة والمذهب والأيديولوجيا بدلاً من الحث على التفكير الحر ورفع الوصاية الفكرية وتعلم طرق التفكير لدى من سبقنا من الفلاسفة من أجل ابتكار طريقة جديدة في التفكير ورسم نمط حياة يناسبان العصر الذي نعيش فيه؟
صحيح أن لا خوف على الفلسفة من الموت والانتهاء ما دامت طبيعة العقل البشري لم تتغير، إذ سيبقى هذا العقل يطرح الأسئلة المزعجة والمقلقة حتى لو كان عاجزاً عن الإجابة عنها. وسيبقى يحاول البناء المتجدد حتى يرتاح ولو بصورة موقتة. لكن هذا لا يعني أن أقسام الفلسفة لا تعاني اختلالاً خطراً وانحرافاً مقلقاً في تعليم الفلسفة. ما يعلم في أقسام الفلسفة ومعاهدها بعيد، أحياناً كثيرة، من روح الفلسفة. إنه يشوه الفلسفة ويعطيها معنى معاكساً. هكذا يكون على أستاذ الفلسفة أن يشتغل مع طلابه على جبهتين: جبهة تنظيف ذهن الطالب مما رسخ فيه من الفلسفة المضادة، وجبهة ترسيخ فهم فلسفي للفلسفة. هكذا نبعد الفلسفة عن العقيدة والأيديولوجيا وتاريخ الأفكار والتصوف والعرفان وفلسفة الدين واللاهوت وعلم الكلام، ونطلق مجدداً عملية التفكير والنقد من دون وصاية. فتعود الفلسفة كما كانت نشاطاً عقلياً يرى من حقه أن يتناول أي شيء من دون أن يكون علماً أو يتحول إلى علم. نأمل في أن يتحول درس الفلسفة إلى لقاء يجمع عشاق الفكر من كل الاختصاصات.
لا تليق الفلسفة إلا بمن هو ملوث بلوثتها يعشقها عشقاً. فالفيلسوف فيلسوف حتى في طريقة كلامه ونبرة صوته وحتى في نظرة عينيه وحركات يديه ومشيته، وليس فقط في أفكاره وطريقة نظمها. بل حتى في اهتماماته ومواقفه من السلطة. وهذا ما لا نجده عند مجرد المتخصص بالفلسفة.
وعليه، لا يعتقدن أحد أن ممارسة الفلسفة فعل مريح لا يجلب المتاعب لمن يزاوله. فالفلسفة تبقى مهنة المتاعب لأن ما ينادي به الفيلسوف يتعلق بالخير العام، بخير الإنسانية جمعاء. وهذا ما يتعارض مع مصالح المجتمعات الآنية الضيقة. بقدر ما تكون الفلسفة مهمة ممتعة ومثيرة الانتباه، بقدر ما تكون خطرة ومحفوفة بالأخطار. إن فعل التفلسف فعل خطر، بل وخطر جداً، يقض مضاجع السلطة الدينية والسياسية معاً، حتى لو بقي الفيلسوف ملازماً بيته ومدينته كما فعل كانط فيلسوف الأنوار والحداثة بامتياز. وعليه، فالفلسفة مغامرة فكرية ومجتمعية وشخصية ولغوية جليلة. والفيلسوف هو ذلك المغامر الجريء والفارس النبيل وحارس المدينة الأمين. إنه فارس من طراز رفيع. على الفلسفة، اليوم، أن تتصدى للبربرية العائدة بنوعيها: البربرية المتولدة من قلب الحداثة نفسها، والبربرية المتولدة من قلب الأديان!
نختم بالقول مع مؤلف كتاب "طريق الحكمة" مشير باسيل عون: "إذا شاء المرء أن يقيس مستوى التحضر والتقدم والرقي في الاجتماع الإنساني، نظر في مضامين التربية الفلسفية التي تبثها المدارس والمعاهد والجامعات في وعي التلامذة والطلاب. أما إذا أراد أن يقارن المجتمعات الإنسانية بعضها ببعض، فله أن يعاين الرقي الإنساني يرافق تطور الوعي الفلسفي".