Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحركة السوريالية انطلقت من 4 شوارع باريسية لتغزو العالم

تنقل مقصود وتبدلات في المواقف والغاية الرئيسة تحقيق الحرية تحت السلطة المطلقة لأندريه بريتون

صورة جامعة للسورياليين الأوائل (أرشيف الحركة السوريالية)

ملخص

تيار السوريالية لم يولد حصرياً في محترف أندريه ماسون، بل تباعاً في أربعة محترفات وبيوت تتوزع على أربع دوائر باريسية تنتشر بنوع من الإنصاف المحكم في مناطق متفرقة من عاصمة النور نفسها

قبل أسابيع قليلة من الآن في معرض حديثنا في هذه الزاوية عن الكيفية التي تحول بها الرسام الإسباني المقيم العامل حينها في باريس، نحو السوريالية بفعل جيرته مع زميله الرسام الفرنسي أندريه ماسون في محترف هذا الأخير في شارع بلومي بالدائرة الباريسية الـ15، كان الحيز أكثر ضيقاً من أن يتيح لنا أن نستفيض في ذلك الواقع المكاني الغريب الذي جعل واحداً من أكثر التيارات أممية في تاريخ الفن في القرن الـ20 يكون له ذلك التمهيد القائم على نوع من الصدفة المكانية، وهو الذي بسرعة عجيبة صارت معظم أمكنة العالم مكانه في طريقه ليصبح التيار الفني والأدبي الأكثر تأثيراً والأطول عمراً في القرن الـ20. وهنا قد يكون حرياً بنا أن نعود إلى الموضوع نفسه. والمناسبة؟ ببساطة أن التيار إنما ولد ليعم العالم كله تحديداً في مثل هذه الأيام من عام 1924 أي قبل قرن من الزمن يوماً بيوم. بيد أنه لم يولد حصرياً في محترف أندريه ماسون، بل تباعاً في أربعة محترفات وبيوت تتوزع على أربع دوائر باريسية تنتشر بنوع من الإنصاف المحكم في مناطق متفرقة من عاصمة النور نفسها، دائماً تبدو معه وكأنها مقصودة لنشر الولادة كي تشمل المناطق الأكثر فنية في تلك المدينة، التي تبدو دائماً وكأنها خلقت للفن وفي الفن.

بين دائرة وأخرى

فإذا كان المهد الأول هو الذي ذكرناه خلال الحديث عن ميرو والدائرة الـ15، فإن المهد الثاني كان في الدائرة الـ18 في المحيط المباشر لتلة مونمارتر التي كانت وتبقى - حتى تحولها إلى معلم من معالم السياحة الهمجية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية - مكان النشاط الفني العابق بالحياة، كما يذكرنا على سبيل المثال شارل أزنافور بأغنيته الخالدة "لا بوهيم"، في فرنسا وربما أوروبا كلها. وفي المقابل تلعب مونبارناس في الدائرة الباريسية الـ14 وتحديداً شارع الملاهي والحياة الصاخبة "بليزانس"، دوراً أساساً في تلك الولادة السوريالية، بينما تنال الدائرة التاسعة حصتها من خلال انتقال أندريه بريتون، زعيم السوريالية إلى منزل في شارع فونتان غير بعيد من ساحة كليشي، ساحباً معه رهط السورياليين، وذلك بالتوازي مع لجوء عدد كبير من هؤلاء ومعهم ما سمي حينها بمركز البحوث السوريالية إلى شارع غرينيل في الدائرة الـ13. وكل ذلك بكثافة غريبة خلال الأشهر الأولى من عمر السوريالية وقبل أن تكثر في الأعوام القليلة التالية مكامن ذلك التيار وصولاً إلى انفراطه الرسمي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وانتقال معظم أقطابه إلى الولايات المتحدة الأميركية هرباً من النازيين على أية حال. صحيح أن ذلك لم يؤد إلى زوال التيار لكنه أدى إلى انتفاء دور الجغرافيا الباريسية في تكونه، إلى درجة أن كثراً من المهتمين راحوا ينوعون أماكن التكوين بشكل بدا في بعض الأحيان بالغ التعقيد بينما هو في حقيقته بالغ البساطة يتوزع على عدد قليل جداً من أحياء باريس مهد السوريالية.

من مبدع إلى آخر

وما يهمنا هنا طبعاً هو تفصيل تلك العلاقة الوثيقة التي قامت بين السوريالية والشوارع الباريسية مستندين هنا على أية حال إلى ملف أعده واحد من مؤرخي السوريالية الفرنسيين، بيار شافو، ونشر ضمن ملف لافت عن هذا التيار وتأسيسه أصدرته منشورات فلاماريون الباريسية قبل سنوات. ولنبدأ بالتذكير بما كان عامين قبل التأسيس الرسمي للسوريالية من استئجار ميرو وماسون محترفين في شارع بلومي بالدائرة الـ15 والموازي لشارع "لي كورب" مما جعلهما جارين لفترة ومهد لميرو سبل التعرف التدريجي إلى من سيشكلون النواة الأولى للسورياليين بزعامة بريتون. وهم كانوا يجتمعون من دون أن يوحدهم أسلوب إبداعي أو فكر واحد في الأقل حتى نهايات صيف عام 1924، الذي شهد ليس فقط تأسيس السوريالية بل كذلك صدور بيانها الأول. لكن الصدور كان من عنوان آخر كان بريتون قد استأجره في عام 1922 في شارع فونتان بالدائرة التاسعة، حيث راح هو الآخر يستقبل فيه حواريي المستقبل من الشبان في محترف للرسم كان يستخدمه أيضاً كمكتب وكان من مزايا ذلك المكان موقعه قرب ساحة بلانش المطلة على ساحة كليشي ذات التقاليد الفنية الصاخبة والحيوية الليلية التي كان يعيشها الأصدقاء من خلال تجمعهم في مقهى سيرانو المطل على الساحة. ولعل ما يجدر ذكره هو أن بريتون الذي سيحافظ على المكان حتى رحيله بعد زمن طويل، قد جمع فيه مئات القطع من الفنون الأفريقية والباسيفكية وغير ذلك، واضعاً إياها في تصرف السورياليين بعد ظهور "البيان الافتتاحي" من ذلك المكان. ولا ننسين هنا أن بريتون كان يعلق في محترفه لوحة لدي كيريكو هي "دماغ الطفل" التي اقتناها في عام 1914 وكانت تعد أول لوحة مهدت للفن السوريالي قبل ولادته بـ10 سنوات.

بريتون يتنقل

غير أن بريتون وفي الوقت نفسه، حتى وإن كان قد حافظ على ذلك المحترف فإنه انتقل هو شخصياً إلى مكان إقامة جديد في حي بليزانس في الدائرة الـ14، حيث سرعان ما بات ذلك العنوان الجديد مهداً إضافياً للسوريالية خلال أشهر تكونها الأولى. وكان السوريالي المبكر مارسيل دوهاميل الذي سيلعب دوراً كبيراً في خلق مجموعات المنشورات المتعلقة بالقصص البوليسية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، استأجر شقة واسعة مجاورة لمحترف بريتون الجديد في بليزانس وأيضاً في خريف 1924، أي مثل هذه الأيام تقريباً، وقدمه ليقيم فيه الشاعر جاك بريفير والرسام إيف تانغي اللذان كانا من السورياليين المبكرين ومن أشد فقراء المجموعة فقراً. والحقيقة أن ذلك المكان بالذات كان الذي شهد الولادة الباريسية الأولى لتلك الموسيقى الجديدة الواصلة لتوها من أميركا: موسيقى الجاز التي سرعان ما انتقلت لتعم أحياء الحي اللاتيني برمته نزولاً مروراً بأقبية مونبارناس الليلية وحتى نهر السين. ولقد كانت موسيقى تبناها السورياليون منذ ذلك الوقت المبكر أي منذ الساعات الأولى لتأسيس تيارهم وأسهموا في تعميمها في أوروبا فأضحت ما يشبه التعبير الموسيقي عنهم. وكانت جزءاً من مكونات لياليهم بحيث نجد آثارها حتى في تلك الدراسات التي راح متحمسون مبكرون للسوريالية من طينة لويس آراغون وفيليب سوبو وريمون كوينو يشيرون إلى تأثيراتها عليهم في نصوص راحوا يكتبونها تحت عنوان عام هو "بحوث في النزعات الجنسية"، كما كمنت خلف البيان الجماعي الوقح الذي أصدروه في العام نفسه كإعلان إضافي عن وجودهم بعنوان "موت جثة" بتحريض من أندريه بريتون كنوع من الإهانة لذكرى أناتول فرانس "عدوهم اللدود" يوم وفاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حذار من النجاح

ولنذكر هنا أن أولئك أنفسهم سيصدرون بعد سنوات قليلة وإذ كانوا قد تركوا التيار مختلفين مع بريتون، بياناً مضاداً لبيانهم السابق موجهاً ضد بريتون نفسه هذه المرة بعنوان "جثة". وهنا لا بد أن نعود مرة أخرى إلى عام التأسيس نفسه لنذكر أن السورياليين الأوائل في زحام بيانهم التأسيسي ودائماً بحث من بريتون أقاموا في آخر الصيف مركزاً لـ"البحوث السوريالية" في المبنى رقم 15 شارع غرينيل بالدائرة الـ12 وهو مبنى وضعه بيار نافيل – الذي سيصبح من غلاة التروتسكيين لاحقاً – في تصرفهم. وكانت الغاية جمع أكبر عدد ممكن من الوثائق والمخطوطات الإبداعية بغية تكوين أرشيف سوريالي يعود في مقتنياته إلى أزمنة بالغة القدم وربما حتى زمن ولادة الأساطير اليونانية مروراً بولادة التحليل النفسي وكل ما يتعلق بالوعي الباطني الفرويدي وغير الفرويدي. ولقد أسندت إدارة ذلك الأرشيف منذ بدايات العام التالي 1925 إلى أنطونان آرتو الذي ما إن تسلم مهمته حتى صاغ بياناً توضيحياً يقول فيه إن "السوريالية ليست مجرد وسيلة تعبيرية جديدة ولا حتى ميتافيزيقا للشعر بل هي وسيلة لتحرير العقل كلياً من كل ما قد يبدو شبيهاً به. ومن هنا نجدنا وقد قررنا أن نطلق ثورتنا" ومن هنا جاء عنوان "الثورة السوريالية" الذي حملته مجلة السورياليين "الثورة السوريالية" التي بلغ من تحمس آرتو لها أنه أقلق بريتون ودفعه إلى سحب آرتو منها ممسكاً بيده مقاليدها وإدارة المكان نفسه وأرشيفه، حتى الاستغناء عن كل ذلك كما عن كل العناوين في ربيع عام 1930.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة