Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الساعات الأخيرة في حياة أتاتورك

في اليوم التالي للوفاة عقد البرلمان جلسة استثنائية تم فيها انتخاب عصمت إينونو كرئيس جديد للبلاد

يعتقد أصحاب نظرية أن أتاتورك مات مسموماً أن إيبينغر أعطاه دواء ساماً يحتوي على الزئبق (أ ف ب)

ملخص

اختلف الأطباء في تشخيص حالته، وكانت آخر قضية تدور في ذهنه قبل الوفاة هي قضية ولاية هاتاي والحدود مع سوريا، وهناك آراء تتهم طبيباً نازياً بالوقوف وراء تسميم أتاتورك

خلال رحلته إلى مدينة يلوا القريبة من إسطنبول، تم تشخيص حالة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، بأنها خطيرة، وكان ذلك في 17 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1938، وتحديداً قبل ثلاثة أسابيع وثلاثة أيام على وفاته.

بدأ أتاتورك يشعر بالقلق الحقيقي، وكذلك الأتراك الذين ينظرون إليه على أنه "أهدى لهم جمهورية كاملة من قصر دولمة بهجة الشهير في إسطنبول إلى أصغر الرعايا".

فبعد أن تم تشخيص مرضه بأنه "خطير للغاية" نُقل إلى قصر دولمة بهجة، وتحديداً إلى الغرفة 71 حيث ساد التوتر وغص المكان بالأطباء. درجة حرارة أتاتورك وصلت إلى 38.8، والنبض 90، والزعيم التركي بات يغمض عينيه ويتنفس بشكل غير منتظم حتى دخل في غيبوبة. لم يعد الموضوع سراً، عرف الأتراك أن هناك ريباً في صحة الرجل الأول في البلاد، لكن لا أحد يريد أن يتخيل تركيا بلا أتاتورك، لا أحد يريد أن يتخيل ماذا سيحصل بعد تدهور صحة أتاتورك.

تضارب في الأخبار

في اليوم التالي لمرض أتاتورك، تضاربت عناوين الصحف في البلاد، منها العناوين المفعمة بالأمل، وأخرى مليئة بالحذر. على سبيل المثال، في تاريخ 18 أكتوبر، عنونت صحيفة "جمهورييت" صفحتها الرئيسة بالخط العريض: "تم نشر تقريرين يتعلقان بالمرض الذي يعاني منه قائدنا العظيم"، وبدأت تحت هذا العنوان تسرد بحذر التقارير الأولية التي أصدرها الأطباء في ما يتعلق بصحة أتاتورك، وعلى رغم ذلك لم تذكر الصحيفة أن أتاتورك دخل بالفعل في غيبوبة، وإنما ورد فيها نقلاً عن التقرير الطبي: "... على رغم أن هناك تحسناً طفيفاً في الوضع العام، إلا أنه يجب لفت الانتباه إلى أن الوضع لا يزال خطيراً".

 الأشخاص المقربون من أتاتورك كانوا يقولون إنه "يصعب تخيل شخص أنجز خلال أعوام قليلة أعمالاً تحتاج لقرون، أن يموت خلال 24 ساعة"، وبينما كان الأطباء وأعضاء الحكومة يدركون الحالة الصحية التي وصل إليها، وأنه يوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، إلا أنهم لم يرغبوا بالتحدث في ذلك.

خلال الأعوام التي أعقبت وفاة أتاتورك تم طرح العديد من الأسئلة المتعلقة بأيام مرضه، مثل ما هي العلاجات التي أعطيت لأتاتورك؟ ومن هم الأطباء المسؤولون عن صحته؟ ومن شارك في عملية العلاج؟ وهل حقاً طالب أتاتورك أن يعالجه أطباء أتراك وليس أجانب؟

سؤال آخر أيضاً تم طرحه، ماذا كان يفعل البروفيسور الألماني إيبينغر في قصر دولمة بهجة أثناء مرض أتاتورك، وهو النازي الذي أقسم بالولاء لهتلر، ومتهم بتشريح جثة ابنته المتوفاة، وتلاحقه الكثير من التهم؟ ماذا يفعل شخص كهذا في غرفة أتاتورك قبل وفاته؟

كل هذه الأسئلة تؤدي إلى سؤال واحد رئيسي، هل كان هناك إهمال متعمد في صحة أتاتورك قبل وفاته؟

كل هذه الأسئلة يجيب عليها الصحافي والباحث الاستقصائي يشار غورسوي في هذا التقرير، علماً أن غورسوي هو مؤلف كتاب "قتلة أتاتورك وذلك الطبيب".

كلمات "غير مفهومة"

يقول غورسوي إن أتاتورك دخل في غيبوبة قبل 25 يوماً من وفاته، في يوم الأحد 16 أكتوبر 1938 بدأت أعراض المرض تظهر على مصطفى كمال، وفي اليوم التالي بينما كان في غرفته دخل عليه كلٌ من المشرف العام حسن رضا بك، والطبيبان البروفيسور نشأت عمر إردلب، والبروفيسور ميم كمال أوكي، كان هذان الطبيبان يحضران له الأدوية، في هذه الأثناء كان أتاتورك يسعل بشدة في سريره، وبين الحين والآخر، تخرج من فمه كمية صغيرة من السائل الأصفر، فيقوم الأطباء بإعطائه الحقن المسكنة، ليتوقف عن السعال لفترة وجيزة، وكان الممرضون يعطونه قطعاً صغيرة من الثلج، فاقترب إليه المشرف العام حسن رضا بك وسأله: هل كان الثلج جيداً يا سيدي؟ فيجيب بصعوبة بالغة وبكلمة واحدة: نعم.

يضيف غورسوي أن أتاتورك "كان في أيامه الأخيرة يتحدث بكلمات غير مفهومة، وكان كثيراً ما يدير رأسه إلى كلا الجانبين، ويقول بين الحين والآخر عبارة: (لساني لساني)، فكان رضا بك يسأل الأطباء إذا كانت لديه مشكلة في لسانه، فيما رجح آخرون أنه كان يقصد باللسان اللغة، يعني أنه كان يريد الإشارة إلى ضرورة متابعة ما قام به من أجل اللغة التركية، التي تم اعتمادها قبل أعوام قليلة من وفاته بعد تغيير أحرفها إلى لاتينية، فكان أتاتورك يصر على ضرورة أن تتحول اللغة الجديدة ويتم اعتمادها والمحافظة عليها، خصوصاً أنه كان شديد الاهتمام في هذه القضية. وقبل أسبوع واحد من مرضه الأخير، شارك في احتفال بمهرجان اللغة التركية، كما كرس سنوات حياته الأخيرة في تدعيم اللغة".

ازداد سوء الحالة الصحية للشخصية الأبرز في تركيا يوماً بعد يوم، بدأ الأطباء ينبهون السلطات بالخطر المقلق، اقترح وزير الخارجية آنذاك توفيق روستو أراس إجراء مشاورات عاجلة بشأن الحالة التي تمر بها البلاد في ظل غياب رجلها الأول عن صنع القرار، وتم استدعاء أطباء آخرين بشكل عاجل إلى قصر دولمة بهجة.

كان الأطباء ينقلونه إلى المرحاض كل صباح، وكان يسقط من المقعد على ظهره على الأرض، ثم يعيدونه إلى السرير، فيغلق عينيه، كان يعاني بشدة، وكان يقاوم وكأنه يقاتل في الخطوط الأمامية، أصبحت حالته خطيرة جداً، ارتفع نبضه بشكل خطير، وصل إلى مرحلة لا يستطيع حتى التبول، والآن طبيب جديد يدخل القصر، هو البروفيسور عقيل مختار أوزدن، أحد أطباء أتاتورك في مرضه الذي توفي فيه.

اقترح أوزدن إعطاء أتاتورك مصل الغلوكوز، وبالفعل قام الطبيب ميم كمال أوكي بحقن 250 سم مكعب من المصل في وريده، لكن الغيبوبة استمرت لأربعة أيام أخرى، ولا يزال الوضع يزداد سوءاً.

هل مات أتاتورك مسموماً؟

هناك من يرى أن أتاتورك مات مسموماً، ويصرون على هذه الرواية، ولديهم أدلة حول هذا الموضوع، والشبهات تدور حول الدكتور النازي هانز إيبينغر، المقرب من الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر. وبالعودة في التسلسل الزمني قبل نحو ثلاثة أشهر من مرض أتاتورك المميت، وتحديداً في 31 يوليو (تموز) 1938، كان من المثير للاهتمام أن الطبيب إيبينغر يخرج ويدخل بسهولة إلى قصر دولمة بهجة من دون أن يُسأل ومن دون تدخل أحد، وكان يستطيع الدخول من دون إذن إلى الغرفة 71 وهي ذاتها الغرفة التي توفي فيها أتاتورك. ويرى أصحاب نظرية أن أتاتورك مات مسموماً أن إيبينغر أعطاه دواء ساماً يحتوي على الزئبق. من جهته، يؤكد صاحب كتاب "قتلة أتاتورك وهذا الطبيب" أن إيبينغر أعطى أتاتورك دواء يسمى "ساليغران"، وهو يحتوي على الزئبق، مضيفاً أنه أعطى أتاتورك هذا الدواء ثلاث مرات على الأقل، ويتابع بأن هناك أطباء آخرين كانوا موجودين مثل الطبيب الفرنسي فيسينبيرغ الذي لم يعترض على المصل الذي أعطاه إيبينغر لأتاتورك، ويشير إلى أن فيسينبيرغ عجز عن التعامل مع حالة أتاتورك.

يقول الباحث التركي يشار غورسوي، إن أتاتورك لم يكن يحب إيبينغر، وكان يقول عنه إنه "رجل فظ وغليظ"، ومما يدعم الآراء التي تقول إن أتاتورك مات مقتولاً على يد إيبينغر، هي أن حاشية أتاتورك كان لديها دفتر يسمى "دفتر الواجب"، في هذا الدفتر كان يتم تسجيل اسم كل شخص دخل إلى أتاتورك، وفي أي دقيقة دخل وفي أي دقيقة خرج، كان يتم تسجيل اسم أي شخص حتى المقربين جداً من أتاتورك، إلا أنه بالبحث في هذا الدفتر لم نجد اسم إيبينغر على رغم أنه كان كثير الدخول والخروج، فلماذا لم يتم تسجيل اسمه؟

في 20 أكتوبر 1938، دخل أتاتورك يومه الرابع في الغيبوبة، الوضع بات خطيراً للغاية، عقد الأطباء وحاشية القصر اجتماعاً طارئاً لبحث مسألة إبلاغ الجمهور بتطورات صحة أتاتورك، اقترح بعض الأطباء إعداد تقرير يوضح الحالة الصحية الحقيقية لأتاتورك وإعلان ذلك للجمهور، كون خطورة الوضع وصلت إلى مستوى عالٍ جداً، بينما رأى آخرون أن تُترك هذه المسألة للحكومة كي تبت فيها.

قبل يوم من هذا الاجتماع، كان وزير الداخلية آنذاك شكرو كايا قد جاء من أنقرة إلى إسطنبول للوقوف على ما يجري، وخلال هذا الاجتماع تم للمرة الأولى بحث مسألة "ماذا بعد أتاتورك"، ومناقشة الخطوات التي يجب اتخاذها في حال توفي، والإجراءات الأمنية التي يجب اتخاذها، وقام وزير الداخلية أيضاً بوضع برنامج للأطباء الحاضرين.

عندما طرح وزير الداخلية قضية "ماذا نفعل في حال توفي أتاتورك" اعترض بعض الأطباء الذين قالوا إن هذا غير مناسب في الوقت الحالي، لأن الوضع الصحي لأتاتورك خطير للغاية لكن لم يصل إلى خطر الوفاة حتى الآن. في المقابل رأى أطباء آخرون أن الوضع خطير للغاية ويجب بالفعل اتخاذ الإجراءات اللازمة، فبدأت الخلافات والاضطرابات.

أطباء "ماسونيون"

أثناء فترة مرض أتاتورك كان هناك الكثير من الأطباء الذين يزورونه، لكن كان هناك عدد محدود من الأطباء يبقون معه طوال الوقت، وكان أيضاً هناك ثلاثة أطباء يشرفون بشكل مباشر على عملية علاج أتاتورك، وهم عمر نشيت إردلب، وميم كمال أوكي، وبيل إرديلة، وبين الحين والآخر يزوره أطباء ألمان وفرنسيون وغيرهم. هناك من يرى أن الأطباء الثلاثة الذين أشرفوا على علاج أتاتورك كانوا "ماسونيين" وفق بعض المزاعم.

كثرة الأطباء الذين عالجوا أتاتورك أدت إلى كثرة الاختلافات في تحديد المرض المصاب به. على سبيل المثال، قال بعض الأطباء إن أتاتورك دخل في الغيبوبة إثر إصابته بالملاريا قبل أعوام عدة، فيما رأى آخرون أنه يعاني من تلف الكبد الضموري، فتعددت الآراء وكثرت الاقتراحات والوصفات العلاجية، من دون أن يتمكن الفريق الطبي من الاتفاق على سبب المرض وعلاجه. وعند هذه الجزئية يقول أصحاب فكرة أن أتاتورك مات مقتولاً: "بعد الاختلافات الكثيرة بين الأطباء حول سبب مرض أتاتورك، قدم الطبيب النازي إيبينغر اقتراحاً بأن يتم إعداد عقار ساليغران الذي يحتوي على الزئبق، وحقن أتاتورك به، وبالفعل قبل الأطباء برأي إيبينغر وتم إعطاء أتاتورك هذا المصل".

يقول صاحب كتاب "قتلة أتاتورك" إن الطبيب التركي "محمد كامل بيرك هو الشخص الذي ربط فك أتاتورك بعد وفاته، وهذا الطبيب شخصية مثيرة للاهتمام، لأنه وفي عام 1928 حصل على ترخيص صيدلي وقام بالتعاون مع الطبيب إردلب بإعداد تركيبة (بروميد الأمونيوم)، وبالفعل تركيبته هذه حققت نجاحاً باهراً حتى أنه في عام 2008 تم بيع الشركة المنتجة لهذا الدواء لشركة أدوية إيطالية مقابل 48 مليون يورو (نحو 53 مليون دولار). وبالعودة إلى قضية وفاة أتاتورك، فإن كل من بيرك وإردلب اقترحا أن يتم إعطاء أتاتورك من هذا الدواء، لكنهما لم يحققا بالآثار الجانبية المحتملة لعلاج كهذا، فهو يضر بشكل خطير المرضى الذين يعانون من أمراض الكبد، كما أن كثرة استخدامه تسبب الغثيان وتراكم الدم في البول، وعلى رغم ذلك تم إعطاء أتاتورك 11 حقنة منه، من دون أن تتم مراعاة الآثار الضارة لهذا المصل الذي قد يتسبب في تعطل وظائف الكبد وتسبب تشوهات عصبية ونفسية. والأمر الأكثر إثارة للاهتمام في هذه المسألة هو أنه عند العودة إلى (دفتر الواجب) نجد أن هذه الحقن أعطيت لأتاتورك بتواريخ 20 و22 و23 و24 و25 و26 و27 و29 و31 أكتوبر، و4 نوفمبر، لكن عندما تم كتابة تواريخ وأوقات الحُقن لم يكتب في الدفتر نوع الحقنة أو ما تحتويه، فقط كان يُكتب (حقن شرجية)، وهذا أيضاً مثير للتساؤلات والشبهات".

"علاج العجائز"

من جديد تزداد حالة أتاتورك سوءاً، يقف الأطباء عاجزين مختلفين حول ماهية المرض الذي يهدد تركيا كلها، ولا يزال وضع أتاتورك الصحي غامضاً على عامة الشعب الذين لا يعرفون ما يحصل داخل أروقة قصر دولمة بهجة حيث يرقد أتاتورك على سريره بلا حراك. والآن يريد البعض اللجوء إلى العلاجات العشبية والطبيعية، فبعد حالة من اليأس اقترح أحدهم أن يتم اللجوء إلى "علاج العجائز" والمقصود هنا الأعشاب التي تستخدمها عادة العجائز لمعالجة مختلف المرضى، فهل حقاً وصل الأمر بكبار الأطباء في تركيا وأوروبا لاستخدام علاج العجائز مع حالة أتاتورك؟ عندما تم طرح ذلك لم ينصح المسؤولون بالاتجاه نحو هذا الحل، لكن كما أن لأتاتورك أعداء له أيضاً أصدقاء محبون مخلصون، ومنهم من قرر فعل كل ما تقتضيه الحاجة من أجل شفاء أتاتورك، وكان من بين هؤلاء صديق طفولته وصديق دربه الطويل صالح بوزوك الذي حاول الانتحار لاحقاً بعد وفاة أتاتورك.

كان صالح بوزوك عندما يمرض تقدم له والدته مشروباً ساخناً يحتوي على بعض الأعشاب الطبيعية، وبمعنى آخر كانت هي طبيبه الخاص طوال عمره، وكان يحتفظ منها ببعض الأعشاب حاول استخدامها للمساعدة في شفاء أتاتورك.

لم يعد الأمر يُحتمل، بدأت المعلومات عن صحة الزعيم التركي تنتشر كالنار في الهشيم، حتى علم الناس في تركيا وخارج تركيا أن أتاتورك مريض والأطباء شبه عاجزين عن علاجه، وبعضهم ربما ينتظر لحظة الوفاة ليبدأ العهد الجديد في البلاد.

من القصص الغريبة في فترة مرض أتاتورك أنه كانت هناك امرأة تركية تقيم في النمسا، أرسلت رسالة إلى قصر دولمة بهجة، مكتوب فيه: "هذه رسالة حسنة نية، لدي وصفة طبية، إذا اتبعتم وصفتي فسيكون أتاتورك على ما يرام"، القصر قرأ الرسالة لكن لم يهتم بمحتواها، فليس من المنطقي اتباع مثل نهج كهذا، إلا أن المرأة أصرت على ما تقوله، وجاءت على الفور من النمسا إلى إسطنبول، حيث كانت تملك منزلاً هنا، وبعد إصرار المرأة على أنها تريد تقديم وصفتها تمت الموافقة على سماع ما لديها بحذر، فشرحت وصفتها كالآتي: "يتم أخذ غشاء بطن حيوان من المسلخ، ويتم تسخينه في الماء، ثم يضغط الغشاء الساخن على بطن المريض، وبهذه الطريقة سيخرج البول منه ويرتاح". عندما سمع الطبيب عمر إردلب ذلك أخذ الأمر في الاعتبار، لكنه كان حذراً فبدلاً من تجربته مباشرة على أتاتورك أرسله إلى عثمان برلاس، وهو كبير الأطباء في مستشفى جراح باشا في إسطنبول، الذي جربه في علاج بعض المرضى الذين يعانون من تلف في الكبد، إلا أن هذه الطريقة لم تجد نفعاً، وأبلغوا تلك المرأة أن وصفتها غير مفيدة.

قصة أخرى غريبة حصلت في فترة مرض أتاتورك، كان هناك عضو محافظ في البرلمان من مملكة بريطانيا العظمى، زوجته امرأة تدعى غريس كوين، أرسلت كوين أيضاً رسالة إلى قصر دولمة بهجة، تقول فيها: "سيكون من الأفضل أن تتصلوا بالطبيب فيكتور إلوود ليخبركم كيفية التعامل مع حالة أتاتورك المرضية"، هذا الطبيب كان خبيراً بإجراء بعض التجارب على البشر أو الحيوانات الحية ويعالجها بالأنسجة التي يأخذها منها، لكن الغريب في هذه القصة أن كوين زوجة ذلك النائب كتبت في أسفل الرسالة ملاحظة تقول فيها: "عندما يتلقى أتاتورك هذه المعاملة التي سيصفها الدكتور فيكتور بعدها ستحقق تركيا أشياء عظيمة مع إنجلترا"، وليست هناك معلومات دقيقة عما إذا كان تم الاتصال بهذا الطبيب أو لا.

كيف دخل الطبيب الموالي للنازية إلى دولمة بهجة؟

بالعودة إلى مسألة الطبيب النازي الذي شارك في مراقبة حالة أتاتورك في أيامه الأخيرة البروفيسور إيبينغر، هو الاسم الذي كان حاضراً في علاج الملكة الرومانية ماري، والملك البلغاري بوريس، ورئيس الوزراء اليوناني ميتاكساس، كان إيبينغر طبيباً يهودياً، ومع ذلك اختاره هتلر خصيصاً وكان أحد أطبائه الخاصين، وشارك إيبينغر في تجارب بمعسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، وأجرى تجارب على الغجر وأقليات الروما، كما أجرى تجارب على الحيوانات الحية. وهنا يطرح السؤال نفسه، كيف يمكن لطبيب سيئ السمعة لهذه الدرجة أن يتمكن من الدخول بسهولة إلى قصر دولمة بهجة والإشراف على علاج أتاتورك، بل وقيامه بحقن جسد أتاتورك بعقار يحتوي على الزئبق؟

الأدهى من ذلك هو أن إيبينغر قبل أن يأتي للمشاركة في علاج أتاتورك بأشهر قليلة جداً كان يشارك في علاج الملكة الرومانية ماري حتى توفيت أثناء علاجه لها وتحديداً في 18 يوليو (تموز)، أي قبل ثلاثة أشهر فقط من مرض أتاتورك، علماً أن إيبينغر أيضاً شخّص حالة الملكة الرومانية بأنها تعاني من تلف في الكبد على رغم أنها لا تتعاطى أو تشرب الكحول.

إيبينغر أحضره إلى قصر دولمة بهجة كل من رئيس الوزراء آنذاك جلال بايار ووزير الداخلية شكرو كايا ووكيل وزارة الصحة عاصم عرار، قرروا إحضاره كونه حظي بثقة عدد من الزعماء لعلاجهم، لكن لا يوجد في (دفتر الواجب) سجل لأوقات دخوله وخروجه من وإلى الغرفة 71 (غرفة أتاتورك في قصر دولمة بهجة).

بعد وفاة الملكة الرومانية ماري تم تداول بعض الشكوك والشبهات حول سبب الوفاة، لكن ليس هناك دليل ملموس لإدانة إيبينغر أو غيره، لذلك تم اعتماد أن الوفاة طبيعية. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه حتى اليوم، لماذا يقوم كبار المسؤولين الأتراك باستدعاء طبيب نازي لديه سمعه غير سليمة بالإضافة إلى وجود شكوك ولو قليلة ومن دون أدلة بتورطه بوفاة الملكة الرومانية؟ بمعنى آخر أنه حتى لو كان إيبينغر بريئاً إلا أن وجود الشبهة يكفي لاستبعاده من علاج أهم شخصية في تركيا بذلك العصر، وربما لا يزال أتاتورك هو أهم شخصية في تركيا الحديثة إلى اليوم.

بعد وفاة أتاتورك بأعوام، وتحديداً عام 1941، عانى السياسي اليوناني أندرو ميتاكساس من مرض يهدد حياته، وتمت أيضاً الاستعانة بإيبينغر، الذي لم يستطع إنقاذ حياة ميتاكساس، وبعد عام أيضاً توفي الملك البلغاري بوريس بالمرض نفسه، وأيضاً كان إيبينغر أحد الأطباء المشرفين على علاجه، علماً أن ملف السيرة الذاتية لإيبينغر يحتوي على قيامه بحقن الماء المالح في عروق 90 غجرياً في معسكرات الاعتقال، مما تسبب في وفاة أغلبهم، والسبب الذي دفعه للقيام بهذه التجربة هو ما قاله هتلر إنه "ستكون هناك حرب عالمية، هل يستطيع جنودنا البقاء على قيد الحياة بشرب مياه البحر؟"، عندما سمع إيبينغر هذا التساؤل من هتلر نفذ هذه التجربة، حتى أن الناجين منهم وصفوا ذلك وذكروا اسم إيبينغر في محاكمة نورمبرغ.

هناك مقولة أخرى انتشرت بكثرة حول أتاتورك، تقول إن أتاتورك قال قبل وفاته: "سلموني للأطباء الأتراك"، يعني كان يريد أن يتم علاجه على يد أطباء أتراك حصراً، إلا أنه بالبحث والتقصي يبدو أن هذه المقولة غير صحيحة ولم ترد على لسان أتاتورك، بل بالعكس تماماً كان لديه الكثير من الأصدقاء الأجانب، وكانت تربطه صداقة بالطبيب الفرنسي فيسينجر، الذي شارك أيضاً بالإشراف على مرضه الأخير، وبعد إجراء عدة فحوصات قرر فيسينجر العودة إلى باريس، فطلب منه المسؤولون الأتراك البقاء لمدة أسبوع آخر فقال: "من الأفضل أن أعود".

لم تستمر غيبوبة أتاتورك حتى وفاته، بل كان يصحو في بعض الأحيان، علماً أنه كان يعاني أيضاً من مشكلات صحية قبل مرضه الأخير بأشهر عدة. كانت آخر القضايا العالقة في ذهنه هي قضية ولاية هاتاي الحدودية مع سوريا، ومسألة الحدود السورية - التركية، وكان يشعر أيضاً أنه بالفعل في خطر، وكان أيضاً يتوجس خفية من بعض الأطباء، حتى أنه كتب في رسالة لابنته بالتبني عفت إينان ما نصه: "مرضي يطول ويزداد سوءاً بسبب كثرة أخطاء الأطباء".

الكلمة الأخيرة

بذل الأطباء جهوداً مضنية، وتوقفت الدولة كلها تنتظر المعلومات الجديدة بشأن أتاتورك إلى أن صدر بيان وقع عليه تسعة أطباء كبار، جاء فيه: "في تمام الساعة 09:05 بتوقيت إسطنبول، 10 نوفمبر 1938، توفي مؤسس ورئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك في مقر إقامته بقصر دولمة بهجة في إسطنبول بعد معاناة طويلة مع المرض".

كان الخبر على رغم أنه متوقع إلا أنه جاء صادماً لكل الأوساط في تركيا. وفي اليوم التالي لوفاة أتاتورك عقد البرلمان جلسة استثنائية تم فيها انتخاب عصمت إينونو كرئيس جديد للبلاد، وذلك قبل تشييع أتاتورك.

بعد وفاته أصرت شقيقته "مقبولة" على أن تقام صلاة جنازة دينية في أحد المساجد التركية قبل أن ينقل إلى أنقرة، وتمت صلاة الجنازة بالفعل في تمام الساعة 08:10 من صباح يوم 19 نوفمبر، أي بعد 9 أيام من الوفاة، أقام صلاة الجنازة مدير معهد الدراسات الإسلامية في تركيا شرف الدين يالتكايا، ولم يُسمح بالتصوير، وحضر الصلاة أشخاص كانوا على مقربة منه، وبعض الجنرالات والمسؤولين الدينيين، والحافظ الرائد ياشار أوكور، وخدم القصر الذين خدموا مع أتاتورك طيلة 15 عاماً.

بعد إقامة صلاة الجنازة تم إخراج نعش أتاتورك من قصر دولمة بهجة، ووضع على مقصورة تجرها الخيول، ثم تم نقلها عن طريق البحر وبمرافقة السفن الحربية التركية من إسطنبول إلى مدينة إزميت (ليس المقصود إزمير الشهيرة، بل إزميت مدينة تركية صغيرة قريبة من إسطنبول)، ومن إزميت نُقل النعش على متن القطار إلى أنقرة.

وفي يوم 21 نوفمبر أقيمت مراسم الجنازة الرسمية لأتاتورك في العاصمة أنقرة، حضرها مسؤولون بارزون وقياديون من 17 دولة حول العالم، وبقي جثمانه في متحف الإثنوغرافيا في أنقرة حتى الـ10 من نوفمبر 1953، وهي الذكرى الـ15 لوفاته، عندما نُقلت رفاته إلى المثوى الأخير في منطقة أنيتكابير.

وفقاً لشهادة كل من كبير مستشاريه كيليتش علي، والمشرف العام على قصر دولمة بهجة حسن رضا سوياك، اللذين كانا مع أتاتورك في الدقائق الأخيرة من حياته، اتفق الاثنان على أنهما سمعا آخر كلمة قالها كانت: "السلام عليكم".

نقلا عن اندبندنت تركية

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات