Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دومينيك فرنانديز في الـ95 يدين العصر بعيني بطله الشاب

رواية "شاب عادي" تتمرد على باريس وحركاتها التحررية والتفلت الراهن

الروائي دومنيك فرنانديز عميد السن في الأكاديمية الفرنسية (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

لعل رواية "شاب عادي" لعميد السن في الأكاديمية الفرنسية دومينيك فرنانديز (مواليد 1929) من أفضل الروايات التي نشرت هذا العام في فرنسا، وهي تؤكد حدس بول موران ولويس أراغون اللذين وجها تحية لرواياته الأولى

على رغم تقدمه في السن وبلوغه 95 سنة، وتوقيعه عدداً كبيراً من المؤلفات التي يكاد مجموعها يساوي عدد أغصان الزيتون التي تزين لباسه الأكاديمي، ما زال الروائي وعميد السن في الأكاديمية الفرنسية دومينيك فرنانديز (مواليد 1929) في ذروة عطائه الأدبي. فروايته الـ33 المعنونة "شاب عادي" التي صدرت حديثاً في باريس عن دار غراسيه (2024) تستحق التوقف عندها.

لعل رواية "شاب عادي" من أفضل الروايات التي نشرت هذا العام في فرنسا، وهي تؤكد حدس بول موران ولويس أراغون اللذين وجها تحية لرواياته الأولى. غلافها كسابقاتها أصفر، كما لو أنها تركت لفترة على شرفة تحت الشمس، لتستعيد في رحلة عبر الزمان والمكان، حياة بطل عادي يبدع الراوي في سرد تفاصيلها، وفق أرقى تقاليد الكتابة الروائية الفرنسية. فدومينيك فرنانديز، فضلاً عن كونه رجل كل الأزمنة والأمكنة، هو قارئ مخلص لستندال، يجبر أصدقاءه على شرب القهوة في فنجان يحمل صورته. علماً أنه يستعيد في كتاباته سير أشخاص ترك كل واحد منهم إرثاً في مجاله الأدبي أو الفني مثل كارافاجيو ودوما وبازوليني وتشايكوفسكي وبوبورينو وكازانوفا وغوغول وتولستوي وغيرهم. وهو يتنقل بين الأمكنة التي عاشوا فيها في وقت واحد، معالجاً قضية الترحال بين مدن مختلفة، بحثاً عما يشبع شغف أبطاله بالفن والموسيقى والجمال والحب في أوروبا القرنين الـ18 والـ19، التي شهدت ولادة الحركات الأدبية الكبرى والروايات التي تستمد ملامحها من التاريخ الحقيقي، لتبدو كأنها لوحة جدارية من زمن الحب والفن. فنراه تارة على شرفة فندق في مدينة البندقية، أو في القطار العابر إلى سيبيريا، وتارة أخرى في عربة تجرها الأحصنة في ساحة موسكو الحمراء، وطوراً بين أعمدة تدمر أو في القصبة في الجزائر أو في أحياء روما ونابولي، وغيرها من الأماكن التي تتربع على عرش كتاباته، لذا منحته بعض البلدان التي كانت مدنها مسرح رواياته ورساموها وكتابها وموسيقيوها أبطال سردياته أوسمتها وميدالياتها الرفيعة.

دومينيك فرنانديز حامل وسام الاستحقاق الوطني الروماني من رتبة كومندور، ووسام الصليب الجنوبي الوطني البرازيلي وغيرها من الأوسمة والحائز على أهم الجوائز الأدبية، يشبه مارشالاً سوفياتياً مزروعاً صدره بالميداليات والأوسمة تحت قبة المعهد الفرنسي. ولعله كاتب لا يأخذ نفسه على محمل الجد، وهذا بالضبط العلامة الفارقة الدالة على جديته. هذا الروائي الذي لا مكان للتبغ أو للكحول في حياته، الذي يخصص 12 ساعة للكتابة وأربع ساعات للسباحة يومياً، يذهلنا بأسلوبه الذي يزداد تألقاً مع تقدمه في السن.

النظرة الحذرة

في روايته الجديدة الموسومة "شاب عادي"، يواصل فرنانديز بأسلوبه الحيوي وحبه الدائم للحياة، إلقاء نظرته الحذرة على العالم ومجتمعاته المجنونة. فيها يرسم صورة عن جيل شباب اليوم من خلال سيرة بطله أرتور، مستمتعاً بانتقاد كل ما يزعجه على مستوى السلوك وتخبط القيم الذي يسيطر على غرب أوروبا.

تبدأ الرواية الجديدة بالحديث عن وصول شاب يدعى أرتو إلى باريس، قادماً من مقاطعة أوفرني وسط فرنسا لمتابعة دراسته في مجال الحقوق. وأرتور شاب بريء، ساذج في الـ19 من عمره، يذكرنا ببطل رواية فولتير الفلسفية "كانديد". نشأ في مجتمع فرنسي ريفي تقليدي، لا يعرف شيئاً عن قواعد السلوك التي تتحكم بمفاصل الحياة الحديثة في العاصمة. فكل شيء في مدينة النور يدهشه ويخيفه في الوقت عينه، بدءاً بالحياة الباريسية الصاخبة وجوها الرومانسي المتشح ببعض الغموض، مروراً بالسخرية والكذب اللذين تحولا إلى أسلوب حياة، وصولاً إلى حركات التحرر من المحرمات الجنسية، كمجتمعات الميم التي تضم مثليين ومثليات ومزدوجي الميول الجنسية والمتحولين والناس الداعمين لهم، ومذهب الووكية الذي بدأ ينتشر في العاصمة الفرنسية في تجاوز لمطالبته التقليدية بالصحوة الفكرية وإنصاف الأقليات، ووصوله إلى حد المناداة بإقامة مشروع انقلابي جديد يهدم كل ما سارت عليه البشرية حتى الآن، وأقرته النقاشات الأخلاقية في منتديات الحوار العالمي وغيرها من المحظورات الأخرى.

يتقاسم أرتور سكنه الطالبي مع أستاذ شاب لامع  يدعى ستانيسلاس، يبلغ من العمر 24 سنة. وشكل بالنسبة إلى بطل الرواية لغزاً يصعب حله، ذلك أن أرتور لم يفهم أن رفيق سكنه، المثلي، يحاول استمالته وإغواءه. لكن هذا الأخير الحالم بحياة بورجوازية، سرعان ما يتراجع أمام القدر الهائل من البراءة التي تشع من عيني أرتور، الشاب الذي تربى على قيم الأمس، الذي يعيش وسط الجنون والغرابة اللذين يميزان عصره، ويخبرنا الراوي أنه نشأ في كنف عائلة مكونة من أب وأم اشتراكيين محافظين يعملان في حقل التدريس. لذا نراه ينظر بذهول وقلق إلى العلاقات العاصفة بين الناس وإلى ألوان الصبغات التي تلون رؤؤس الشابات الباريسيات، والأوشام الشاحبة التي تزين أكتافهن، وكل الانتقادات والاحتجاجات التي يرفعنها ضد العالم القديم. فباريس هي مدينة المتع وكل الملذات السهلة. ومع ذلك لا يبدو أن أرتور يفهم شيئاً مما يجري في المدينة النابضة التي انتقل إليها ولا يعيش أجواء مغامراتها وخضوع شبانها لإملاءات عصرهم. كأن دومينيك فرنانديز من خلال شخصية بطله، يريد أن يسلط الضوء على المجتمع الباريسي الراهن وتصرفات أفراده كما فعل قبله لويس دو روفروا، دوق سان سيمون أيام الملك لويس الـ14، الذي حظي على مدى أكثر من 30 عاماً بامتياز السكن في قصر فرساي، ومراقبة الدسائس التي حيكت بين جدرانه، مصوراً لنا لوحة تاريخية عملاقة عن تصرفات نبلاء البلاط الملكي.

عيوب الزمن

أرتور الذي يبدو إما مسلياً أو منزعجاً من عيوب زمانه، يرسم لنا صورة عن المجتمع الباريسي الذي أصبح كل شيء فيه بحسب دومينيك فرنانديز سهلاً ومتوقعاً، لا سيما على صعيد العلاقات العاطفية بين الشبان والشابات الذين يتعارفون، ثم ينفصلون. فليس ثمة بعد من معنى للمغامرة ولا للمجهول في العلاقات، التي أصبحت بسيطة وسهلة وخالية من المفاجآت والإثارة والذكريات، مثلها مثل الذهاب للتسوق في الأسواق المركزية والمجمعات المتعددة الأقسام التي تشترى فيها المواد الغذائية والمنزلية، ورسم لنا فرنانديز شخصية بطله على أنه شاب متعلق بقيم تربيته الأسرية. لكنه في مفارقة ظاهرة، يكتشف بسبب رفيق سكنه المثلي والمستقل، أن العالم خارج قريته مليء بالمفاجآت وأن أصدقاءه ليسوا  كلهم كصديق طفولته كيفن. لكن صرامة أرتور الأخلاقية هي التي تجعل ستانيسلاس يشكك في عيوب المجتمع الذي يعيش فيه. وها هو ذا أرتور في بحثه التقليدي عن زوجة شابة، يقع على فتيات ناشطات ملتزمات بحركات التحرر النسائية، عاملات مستقلات عن رفاق دربهن، مما يضعف صورته المثالية عن المرأة، على رغم أن سيلفيان، زميلة طفولته، اعترفت له بحبها على هامش زيارة خاطفة لها إلى العاصمة الفرنسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أنه يسائل نفسه، هو العالق بين عالمين، إن كان عليه الاكتفاء بحب رفيقة طفولته، في حين أن الحياة الباريسية تتيح له نسج عدد من العلاقات مع زميلاته في الكلية. لكنه بغية الدخول في هذه العلاقات، عليه أن يفقه أولاً قواعد اللعبة التي يجهلها. فتوبخه ناشطة نسوية أرعبته حين حاول التقرب منها، وأخرى نباتية ألقت عليه كماً من المواعظ، وثالثة ناشطة بيئية بشرته بقرب نهاية العالم. من جهته، وأمام موقف أرتور الصارم، ينقلب عالم ستانيسلاس القائم على الاختلاف الجنسي واستهلاكه السهل وعلاقاته الجنسية السريعة من خلال التطبيقات الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، التي تتعارض مع الرؤية الساذجة للشاب القادم من أوفيرني. فيبدأ بالتعبير تدريجاً عن شعوره بالاشمئزاز من التسهيلات التي يتيحها له العصر، فيقرر تغيير حياته بانعطاف مفاجئ. فمن من الشابين على حق؟ وما القاعدة الطبيعية للعلاقات الجنسية؟ أهي الغيرية أو المثلية؟ والمعروف أن دومينيك فرنانديز روائي مثلي اضطر إلى أن يعيش لفترة بصفته "غيرياً"، لذا نجده أكثر امتعاضاً وغضباً من أي وقت مضى.

في هذه الرواية التي يتداخل فيها الشخصي بالخيال، نكتشف أن أرتور حاول نشر رواية، لكن نكهتها الريفية البحتة وبساطتها الطبيعية جعلتاها غير مقبولة لدى الناشرين. ويشكل هذا الرفض فرصة ليقود فرنانديز هجوماً على الوسط الأدبي الباريسي الذي يفضل برأيه الشكل على المضمون، والربح الفوري والخضوع لسلطة اللحظة على الأعمال الجادة وقيم الثورة والتغيير. فيستغل الرواية لانتقاد نفاق من كانوا يعبدون التمرد في ثمانينيات القرن الماضي الذين أصبحوا اليوم حراساً للأخلاق. فدومينيك فرنانديز، كبطله، ضاق ذرعاً بهذا الواقع الباريسي. ولئن عاد أرتور في النهاية لمسقط رأسه والتقى بسيلفيان، التي ليست أكثر استعداداً منه للعيش في هذا العالم الجديد، فإن الروائي الذي لا يمكن اختزال أفكاره وتجربته الحياتية على عمقها في الآراء التي وردت في روايته، ما زال صامداً في باريس، يدافع بشراسة عن مواضيعه الدائمة الحضور في كل نتاجه، عنيت الدفاع عن الرومانسية وضرورة النضال ضد المجتمع.

نقرأ رواية "شاب عادي" كقصة حديثة، تصبح فيها الشخصية البريئة التي يفتتح بها السرد، الشخصية التي تمثل في النهاية الحداثة. فيها نعثر على كتابة تحلق على مقربة من الشعر، تتصدى لانحرافات الفكر الحالي، التي يستمتع فرنانديز بكتابتها بأسلوبه المشرق وروحه الذكية التي تتحدى روح العصر. دومينيك فرنانديز ليس كاتباً عادياً، إنه أسلوب كتابة. أظن أنه لا يزال اليوم أكثر شباباً وحرية وجرأة مما مضى. أمام كتبه نشعر بالعاطفة وننحني لأدبه المتوغل دائماً في الأعماق، ولو لم نكن على توافق تام مع خياراته كدفاعه عن الكاتب البيدوفيلي غبريال ماتزنيف ومواقفه من بعض المواضيع الراهنة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة