Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وودستوك من منظور جديد: ما الذي حل بحلم الهيبيين؟

هل مهرجان الحركة الهيبية الأسطوري هو فعلاً 'نموذج لمجتمع جديد' أو 'فوضى ويتوخى الربح ويشوبه العنف' مثلما حدث أثناء محاولة إعادة إقامته عام 1999؟

شابان محبان للموسيقى يستقلان سيارة للعودة إلى منزلهما من مهرجان وودستوك للموسيقى والفنون، في أغسطس (آب) 1969 (غيتي)

ملخص

في ستينيات القرن الماضي، وبعد أجيال من قمع المجتمع وتوقعات حياتية قاسية، وجد الشباب صوتهم الخاص من خلال الحركة الهيبية وأبدوا رد فعل على جيل الحرب الباردة، أي على آبائهم الذين أوصلوهم إلى حافة الإبادة النووية مع أزمة الصواريخ الكوبية وورطوا أميركا في حرب فيتنام.

عام 1969، احتضن جيل وودستوك المزين بالزهور في شعرهم، الحب ورقصوا عراة وتحملوا العوامل الجوية من خلال روح الجماعة التي تنشد السلام والحماية. أما في 1999، فوضعوا قبعات البيسبول على رؤوسهم إلى الخلف وهاجموا الأبراج التي تحمل مكبرات الصوت وأحرقوا صهاريج وقود الكيروسين ونهبوا وعاثوا في الأرض شغباً واغتصاباً.   

ما الذي حدث لحلم المراهقة ذلك؟ كيف تحولت يوتوبيا عصر الدلو التي كانت عبارة عن "ثلاثة أيام من السلام والموسيقى" على أرض مزرعة للأجبان والألبان في نيويورك منذ 55 عاماً هذا الأسبوع، بعد 30 عاماً إلى كابوس أشبه برواية سيد الذباب الكارثية، في فعالية وودستوك 99 سيئة السمعة؟. 

وُثقت الظروف المباشرة المحيطة بالحدثين توثيقاً جيداً. فالهيبيون الذين بلغ عددهم 460 ألفاً، وحطموا سياج مزرعة ماكس ياسغور في وودستوك 1969 وتسببوا بإعلان حال الطوارئ في مقاطعة سوليفان، تحملوا أسبوعاً من المطر والوحول ونقص الطعام وهي كلها عوامل كفيلة بتحفيز غريزة البقاء لدى الجماعة. وظلوا يتمايلون حتى ساعات متأخرة من الليل على أنغام موسيقى فرق تتماشى أنغامها تماماً مع دخان الحشيش- ومنها غرايتفول ديد وكروسبي وستيلز وناش ويونغ وكريدانس كليرووتر ريفايفل وجون بار- ويتبنى كثير منها رسائل مناهضة للحرب ومؤيدة للحب من على المسرح.

أما العدد المماثل من مرتادي حفلة 1999 المريعة التي وثقتها سلسلة "نتفليكس" الصادرة عام 2022 بعنوان حادثة القطار Trainwreck وسماها من حضرها "ستوك الربح" (بروفيت ستوك)، فنُظمت في ظل ظروف أشد إثارة للحنق، إذ وصلت حرارة الجو إلى 40 درجة مئوية، في قاعدة للقوات الجوية مبنية من الإسفلت ليست فيها أماكن مظللة كثيرة. وكان الباعة يستغلونهم ويبيعونهم الطعام والمياه بأثمان باهظة. فيما كانت مصادر المياه المجانية الضئيلة ملوثة بالفضلات البشرية. وكانت فرق النيو ميتال والروك العدوانية تهيمن على تشكيلة الموسيقيين، بدءاً من كورن وكيد روك ووصولاً إلى ليم بيزكيت، وهي فرق لعب بعضها أغاني اسمها الحرفي "قبضة الغضب" و"حطم أشياء".    

لكن نظراً إلى الفوضى والمشكلات التي عمت الحدثين بالتساوي، لا شك في أن هذا التحول الجذري المناهض للثقافة السائدة الذي يشبه بتطرفه تحول مواقف راسل براند السياسية، له أبعاد كثيرة. فما الذي جعل محور التمرد عام 1969 يدور حول الحرية في الحب والانسجام، فيما كان محوره عام 1999 الدماء والشهوة والدمار؟.

يمكن أن نعزو السبب الأكبر إلى اضطرابات النمو في ثقافة الشباب نفسها. ففي ستينيات القرن الماضي، وبعد أجيال من قمع المجتمع وتوقعات حياتية قاسية، وجد الشباب صوتهم الخاص من خلال الحركة الهيبية وأبدوا رد فعل على جيل الحرب الباردة، أي على آبائهم الذين أوصلوهم إلى حافة الإبادة النووية مع أزمة الصواريخ الكوبية وورطوا أميركا في حرب فيتنام غير الأخلاقية وغير الضرورية.  

 

ويقول جيمس رايلي، المؤرخ الثقافي في جامعة كامبريدج ومؤلف "التخيلات السيئة: نذير شؤم وعوالم جديدة ونهاية الستينيات"، "كان الجو العام الذي ساد في ظل وجود هذا الجيل الأصغر المتميز بتعليمه العالي وكثرة حركته وثرائه النسبي وإبداعه المتطور هو: 'لماذا علينا أن نُجلكم؟ فقد أخطأتم في كل شيء وأفسدتم كل شيء‘".  

ويقول دايمون باخ، المحاضر في مادة التاريخ في جامعة تكساس أي أند أم (Texas A&M) ومؤلف كتاب "الثقافة الأميركية المضادة: تاريخ الهيبيين والمنشقين الثقافيين"، "وجد الشباب أن الحكومة الأميركية والمؤسسات والثقافة السائدة مزعجة للغاية. لقد رفضوا المجتمع الثري، والحياة في الضواحي، والمعايير الجنسية المقيدة، والخيارات المهنية والحياة التقليدية. وبدلاً من ذلك، سعوا إلى الأصالة والعمل الهادف، وتعمقوا في التصوف الشرقي، ودافعوا عن الحرية الجنسية والعيش ضمن الجماعة".  

 

وبسبب نفورها من الحلم الأميركي الموحد باقتناء بيت مسيّج والتسابق المحموم في العمل بين التاسعة صباحاً والخامسة مساء، سعت الحركات الثقافية المضادة الناشئة في حي "هايت آشبوري" في سان فرانسيسكو وأماكن أخرى إلى إيجاد سبل مختلفة للعيش- إما من خلال المجتمعات العائلية المصغرة أو الجماعات المتنقلة أو المهرجانات. ويقول رايلي إن "المهرجانات اكتسبت زخماً خلال ستينيات القرن الماضي باعتبارها تجارب شبه موقتة في السبل البديلة تلك للعيش والوجود". ولذلك شكل وودستوك أهم تجربة وجودية للحركة الثقافية المضادة، في ظل أشد الظروف.  

وقد نجحت في الاختبار. فيما ارتفع منسوب الوحول وشحت المؤن، تشارك الناس الطعام في ما بينهم وبدأ الباعة في المساحة المخصصة لسوق بندي بازار بالعمل بنظام المقايضة بلا مال. ويعتقد رايلي بأن الفيلم الوثائقي الذي أخرجه مايكل وادليه في 1970 حول ووسدتوك كان شبه مثالي ورسم صورة وردية عن فعالية لم تخلُ من الفوضى والسعي إلى التربح وبعض العنف، لكنه يرى من ناحية أخرى تطبيقاً لمبادئ الهيبيين فيه.   

ويؤيد باخ الفكرة قائلاً "على رغم الفوضى التي عمت الفعالية، ظهرت تجمعات صغيرة ومستقلة وموقتة حول مساحات السباحة. مثل وودستوك بالنسبة إلى عدد كبير من الهيبيين ذروة تاريخ الثقافة المضادة. غرق الهيبيون طوال ثلاثة أيام في مجتمعهم المصغر النموذجي… واعتبر أشد المؤمنين بالحركة الهيبية وودستوك نموذجاً لمجتمع جديد".

مثلت وودستوك بالنسبة إلى عدد كبير من الهيبيين ذروة تاريخ الثقافة المضادة

دايمون باخ

 

لفترة قصيرة، لم تعارض المؤسسة الحاكمة وجود هذه الجماعة، وإن ظاهرياً في الأقل.

ويلفت رايلي إلى أن "ستينيات القرن الماضي تمثل جيباً صغيراً من التقدم اليساري أو الديمقراطي في أميركا بلا شك، محصوراً بين حقبات من سلطة اليمين الجمهوري"، مشيراً إلى التساهل في قوانين الرقابة والإجهاض والمثلية الجنسية من رأس الهرم في المملكة المتحدة والولايات المتحدة خلال ذلك العقد. "يجب أن ينظر الإنسان إلى تلك الحقبة على أنها تناغم بين واضعي سياسات متنورين نسبياً وثقافة شباب منفتح ومستعد للسير قدماً في هذا الإطار". 

لكن بعد وقوع جرائم عائلة مانسون ووجود نيكسون في البيت الأبيض، كُسرت روح الستينيات بسرعة. "ما يميز إدارة (نيكسون) هو أنها ألغت كثيراً من ذلك التقدم في الأمور"، كما يقول رايلي، ولم يمر وقت طويل قبل أن يصبح مصير تلك الحركة الشبابية الموحدة والمثالية انعدام الرضا والتشرذم والتناثر وتغيير الوجهة. وبحلول النسخة الثانية من وودستوك التي أقيمت في مزرعة ونستون في سوغرتيز عام 1994، كان الاتساق والانسجام في صلب حركة الثقافة المضادة قد وهن بسبب تفرعها عبر الروك البروغرسيف والهيفي ميتال والبانك والغوثك والروك المستقل والغرانج، وهي أنماط موسيقية شكلت مجموعة من الفرق المنقسمة استبدلت تلك الحركة المسيسة الأقوى التي كانت قوة لا يُستهان بها.      

ويرى رايلي أنه "عند التفكير في تسعينيات القرن الماضي، من الصعب جداً تحديد الثقافة المضادة. فهناك كثير من الاهتمامات المنفردة وشبه المنعزلة عن بعضها بعضاً. فلدينا هنا أتباع الميتال، وهنا محبو الروك وهناك الغوثك ولا أحد يتحدث إلى الآخر. لا يحبون فرق الفتيان (بوي باند) ولا يحبون موسيقى الرقص، ولديهم ثقافات متجذرة للغاية".   

وكذلك أصبحت المهرجانات وعروض المدرجات الكبيرة أكثر شيوعاً وليست كفيلة تشكيل روح جيل كامل، فيما بدأ الإحساس بإلفة الاستهلاك التي تكاد تصل إلى حد التهكم بالتسلل إلى عصر محطة "أم تي في" الموسيقية. لذلك، وعلى رغم كل ما وقع في وودستوك  1994 من ظروف مشابهة بالمهرجان الأصلي- الأمطار الغزيرة ومئات آلاف الأشخاص الذين قفزوا فوق حواجز المزرعة وفوضى الأمن والتنظيم ووجود فرق عدة شاركت أساساً في مهرجان عام 1969- بدا ذلك المهرجان محاولة بلا أي نكهة لإعادة إنتاج صيف الحب. وولدت مواقف وتصرفات جديدة خاصة بوودستوك: رُميت بعض الفرق مثل غرين داي وبريموس بالوحل، فيما قام جيسي جيمس دوربي، مغني فرقة جيكل خلال عرض الفرقة في وقت مبكر من يوم الجمعة، بإطلاق النار من بندقية في الهواء وقطع كرسي خشبي صغير من النصف بمنشار كهربائي فيما كانت النيران تستعر فيه.

 

ويرى رايلي أن روح وودستوك الحقيقية كانت بعيدة. ويقول "هناك مهرجان لولابالوزا وفعاليات مثل أوزفيست. ومهرجانات أخرى مثل بيرنينغ مان (الرجل المحترق) التي تزداد زخماً وهي تسير في اتجاه ما بقي من الثقافة المضادة من ستينيات العام الماضي. لا يحتاج ذلك الزخم إلى وودستوك فعلياً لأنه يشق طريقه في مكان آخر".   

وفي المقابل، ضعفت الحركة البديلة، كما أصبحت تُسمى الآن، من خلال اندفاع ريغان النيوليبرالي باتجاه رأسمالية الفردية المطلقة واستولت عليها شركات الإنتاج الموسيقي الكبرى نفسها التي كانت تدعم بيلي راي سايريس وذا باكستريت بويز. ويقول رايلي "إنك تعطي مالك إلى الأسياد نفسهم، وقد عانت فرق كثيرة في ذلك الوقت شبه تنافر إدراكي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"لا شك في أن نيرفانا عانت منه، وكانت بيرل جام تصارع هذه الأفكار كذلك، حالها حال سماشن بامكينز- فما معنى ذلك بالنسبة إلى موقع هذه الفرق وهل تكون النتيجة أن كل ما تفعله هو الانتقال بين سلسلة من الوضعيات الاستعراضية فقط؟. لو أراد المرء تحليل ما يراه في مهرجاني وودستوك (في 1969 و1999)، فسيجد أشخاصاً لا يعرفون فعلياً ما الذي عليهم فعله وكيف يمكن أن يتصرفوا باعتبارهم جيب ثقافة مضادة. يمكن أن تنظر إلى ما حدث في المهرجانين أيضاً على أنه تصرفات مريعة من قبل أشخاص يشعرون بأنه يحق لهم ما لا يحق لغيرهم".

وقام الهدوء السياسي النسبي في تلك الحقبة بدوره كذلك، إذ يعتبر رايلي أنهما "وقعا في نهاية التاريخ. (فتسعينيات القرن الماضي) تشكل فترة 10 أعوام بين انهيار جدار برلين والـ11 من سبتمبر (أيلول). أعتقد بأن دوغلاس كوبلاند يتحدث عن هذه الفترة باعتبارها عقداً سلبياً من الاسترخاء. لديك مؤشرات كبيرة على أن العالم تفادى نزاعاً ربما كان خطراً جداً وقد ربحت الرأسمالية ولا بأس. لكن من ناحية أخرى، لم ندخل بعد نطاق القرن الـ21 المجهول والأخطر بكثير. إنها لحظة راحة. ويصاحبها تساؤل عن معنى التمرد". 

 

في النهاية، تبين أن التمرد هو الفوضى التي تُرضي الذات. تحول مهرجان وودستوك 1999 إلى برميل بارود سعته 500 ألف شخص، مليء بمعجبين موسيقيين يشعرون بأنهم يستحقون تجربة لحظة خاصة بجيلهم من التخلي الكامل والمتعة وعندما وجدوا في المقابل استغلالاً مالياً، قابلوه بوحشية بدائية. وما زاد الموضوع سوءاً هو أن المنظم مايكل لانغ وفريقه اختارا أن يربطا عقيدة الحرية المطلقة التي يقترن بها المهرجان بأكثر أشكال الثقافة البديلة تطرفاً.  

وبرأي رايلي، فإن "وودستوك 1994 يبدو أقرب إلى محاولة لخلق نوع من الحوار مع وودستوك 1969، إذ يسجل المهرجانان مشاركة بعض الفنانين أنفسهم، ووجود بعض الأنماط الشبيهة. لكن مهرجان وودستوك 1999 يبدو كأنه مهرجان مختلف كلياً. فهو فعلياً موسيقى نيو ميتال يُضاف إليها بعض الفنانين الذين يتصدرون قوائم الموسيقى. كانت فرقة نيرفانا تتذمر من وجود أشخاص بين الجمهور في حفلاتها يرتدون قمصاناً عليها شعار فرقة غانز أن روزز (كانت الفرقتان على خلاف) أو يبدو عليهم أنهم رياضيون ذكوريون وغيرهم، كما لو أنه يمكن ضبط هذا الأمر. لكن مهرجان وودستوك 1999 شكل ما يشبه توسعاً لهذا النمط".

يكاد المرء لا يصدق بأن لانغ حاول بعدها تنظيم حفل وودستوك جديد لمناسبة الذكرى الـ50 للمهرجان عام 2019 بمشاركة ذا كيلرز وجاي زي ومايلي سايرس، وهي فعالية أُلغيت في ما بعد بسبب مشكلات في استخراج التراخيص اللازمة وتراجع ممولين واختيار مكان أصغر حجماً وانسحاب الفنانين. في النهاية، كان اسم وودستوك تحطم بصورة كبيرة. وهذا يدعو للأسف لأننا في زمن نجد فيه أن عالمنا الأشبه بوودستوك 99 بأمس الحاجة إلى مبادئ وقيم أقرب إلى وودستوك 69. 

© The Independent

المزيد من ثقافة