Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 تاريخ آخر للنسوية المصرية كتبته ملاهي القاهرة الليلية 

باحث أميركي يروي سيرة المغنيات والراقصات الشهيرات وأدوارهن داخل النسيج الاجتماعي

الكتاب بالأصل الأميركي والترجمة العربية (دار كتب خان)

ملخص

 يسرد الكاتب الأميركي رفائيل كورماك في كتابه "منتصف الليل في القاهرة، نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة" الذي ترجمه إلى العربية علاء الدين محمود وصدر حديثاً عن "دار الكتب خان"، تاريخاً مجهولاً للنسوية المصرية أُهمل، قام في الملاهي الليلية والكباريهات في القاهرة. ويبدو أن من المستحيل سرد تاريخ للثقافة المصرية في العشرينيات من دون التطرق إلى العالم الليلي للنساء .

 ينتمي كتاب "منتصف الليل في القاهرة، نجمات مصر في العشرينيات الصاخبة" الصادر حديثاً عن دار كتب خان، إلى دراسات التاريخ الاجتماعي، التي تفسح المجال أمام دراسات الهامش سعياً لتقديم ما يمكن اعتباره بمثابة " تاريخ بديل ". يعتمد الكتاب النقد الثقافي لتعزيز فرص الاستفادة من الدراسات البينية التي تجمع بين علوم التاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا والدراسات النسوية في كثير من الأحيان، للخروج باستنتاجات جديدة حول تاريخ مصر، بين نهاية القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20 في الفترة التي يسميها المؤرخون "عصر النهضة ".

 الكتاب الذي ترجمه علاء الدين محمود، من تأليف رفائيل كورماك، وهو باحث زائر في جامعة كولومبيا حصل على درجة الدكتوراه في المسرح المصري من جامعة إدنبره، وحرر كتبا ومئات المقالات باللغة العربية، وساعدته معرفته العميقة بهذه اللغة، في الوصول إلى مصادر جديدة غير مطروقة، لتناول المشهد التعددي الذي عرفته القاهرة، وهي تواجه تحديات العلاقة مع الغرب، ما بين الرغبة في تقليده أو الإصرار على مقاومة وجوده كمحتل.

خلال الفترة التي يبحثها الكتاب أشاع وجود الأجانب في مصر مساحة من التفاعل الاجتماعي الحر، لم تكن متاحة من قبل، وقد بدأت النخب الأرستقراطية التي كانت آخذة في النمو، تسعى لتبني مشروع للتحديث على النمط الغربي، وميزت بين أهداف الاحتلال الإنجليزي، والأفكار التي تقود مشاريع التحديث، بعد أن أصبح التقدم هاجساً رئيساً يشغل الجميع، وتحول إلى سؤال يتحمل أجوبة متعددة ومتضاربة أحياناً.

أهم ما يميز هذا الكتاب نجاحه في ابتكار مدخل جديد لمعالجة تحدي التغيير، فقد تتبع سيرة المغنيات والراقصات الشهيرات، وأدوارهن داخل النسيج الاجتماعي الغني الذي اتسم دائماً بالحيوية والقدرة على القفز فوق التناقضات، واعتمد إلى حد كبير عليهن كرواة لذلك التاريخ بعيونهن.

 مكاسب التعددية

يوضح الكتاب كيف أن التعددية الديموغرافية التي عرفتها القاهرة بدءاً من منتصف القرن الـ19، على أمل أن تكون مصر قطعة من أوروبا، ساعدت في جعل القاهرة ساحة للتناقضات. فبينما يحصل الأجانب والمغتربون على فرص أفضل للعيش وينعمون بوظائف مريحة وحياة مدللة، فإن غالبية السكان الأصليين عانت شظف العيش وكافحت مع عالم الرذيلة والإجرام المتنامي، وكانت تقاوم الغرق في ذلك العالم السفلي الناتج من ازدهار حي الأزبكية الذي تحول إلى فضاء درامي، يعج بالصخب والعنف، وفضاء مفتوح لحياة ليلية ماجنة.

داخل ذلك المشهد الذي يطمح إلى إعادة بنائه، يكشف الكتاب كيفية تحول المغنيات والراقصات إلى نجمات حقيقيات بل إلى أساطير، لعبن أدواراً متعددة تجمع بين الفني والاجتماعي والسياسي. فقد كانت مصر على أبواب لحظة تغيير كبرى تمثلت في ثورة جماهيرية كاسحة هي ثورة 1919 التي حققت لمصر استقلالاً صورياً، لكنها أبرزت بقوة، ميلاد طبقة وسطى فاعلة كانت تهيئ البلاد لما يسميه جلال أمين "عصر الجماهير الغفيرة". قدمت مصر خلال تلك الثورة ما يعتقد المؤلف أنه أمر غير ملموس، لكنه حيوي، وهو الفرصة التي جعلت من كل هؤلاء النجمات يجدن مساحة للاستماع إلى أصواتهن والانتباه إلى ما يحملن من قضايا . يلفت الكتاب إلى أن هناك حركة نسائية ولدت داخل هذا المشهد، وتوسعت بفضل الدور الذي لعبته الصحف والمجلات والحركات النقابية، بحيث أصبحت النساء جزءاً لا يتجزأ من حركة التغيير، بعد أن دخلت المرأة تدريجاً إلى سوق العمل، وأصبح لها وجود فاعل في الفضاء العام .

يرى المؤلف أن هناك تاريخاً آخر للنسوية المصرية أهمل، كان يكتب في الملاهي الليلية والكباريهات داخل القاهرة والمدن الكبرى الأخرى مثل الإسكندرية والمنصورة. وعلى رغم شيوع بعض التفاصيل حول هذا التاريخ فإنه يعانى بحسب رؤية كورماك، من التهميش بسبب طغيان الأحكام الأخلاقية التي حوصر بها، وكانت غالبية الدراسات التي تناولته تجسد كافة الصور النمطية التي يملكها الغرب إزاء المجتمعات الشرقية، إذ الهوس باللذة والجنس والممارسات الإروسية.

يؤكد كورماك أن من المستحيل سرد تاريخ للثقافة المصرية في العشرينيات من دون التطرق إلى العالم الليلي للنساء في القاهرة، فقد نشأت حركة نسائية موازية في طبقة النساء المشبوهات. ويتقصى طبيعة تلك الحركة وأدوارها من خلال مصادر بحث ثانوية، تجسد إنتاج هذا الهامش وحضوره. ويعتمد بطريقة فريدة على المجلات الترفيهية الفنية الشهيرة، ويلجأ إلى المذكرات الشخصية لبعض النجمات، مثل مريم سماط ومنيرة المهدية وبديعة مصابني ونجيب الريحاني وروز اليوسف، أو فاطمة اليوسف، وما روته أم كلثوم وبهيجة حافظ وعزيزة أمير. وبفضل تلك المصادر يعيد رواية ما جرى، معتبراً أن النساء قدمن منظوراً عن هذا العالم لم يستطع الرجال تقديمه، بل غالباً ما يظهر الرجال فيه بصورة سيئة.

لا يقتصر الكتاب على قصص النساء، بل يحكى عن عدد من الفنانين الرجال المهمين في ذاك العصر، مثل نجيب الريحانى وعزيز عيد ويوسف وهبي.

 حساسية المدينة

يتوقف القارئ أمام حساسية يبديها المؤلف تجاه تعامله مع مدينة مثل القاهرة، فهو يؤكد أن لـ"هذه المدينة تاريخاً حسياً يحضر تماماً في كافة التفاصيل، مما يجعلها واحدة من أكثر المدن إثارة في العالم". ويعتقد أن هناك تواريخ وقصصاً كثيرة تتوارى خلف المركز التاريخي للمدينة، ويفضل ألا يقرأ كتابه لغرض التكريس لنوع من النوستالجيا التي تشير إلى عصر ذهبي مفقود، كما لو أن القاهرة كانت ملعباً كوزموبولتيانياً يفيض بالسحر، بل على العكس، لم تكن الأمور تجري بتلك البساطة أو كما يقول، "كانت الأمور مختلفة لكنها لم تكن مثالية".

 وبسبب خلفيته كباحث في تاريخ المسرح، فإن كورماك يقسم كتابه بطريقة مبتكرة، راسما المشهد التمهيدي الأقرب إلى الإرشادات التي يقدمها كل مؤلف مسرحي للقراء، ثم ينطلق إلى تقديم عرض مكون من ثلاثة فصول. والأول له طابع تاريخي يكشف عن التحولات الرئيسة بين القرن الـ19 والقرن الـ20، متتبعاً أنماط التسلية الجماهيرية داخل التجمعات السكنية والفضاءات العامة، قبل سنوات من ظهور المسارح ودار الأوبرا الملكية التي أسسها الخديو إسماعيل.

ويلاحظ أن قبل ظهور المسرح على الطرز الغربية كان هناك إنتاج مسرحي متفرد، يعتمد على إنتاجات عروض مسرح الدمى، مثل الأراجوز وخيال الظل، وقد احتفظت تلك العروض التي قدمها "المحبظاتية" بأنماط الكوميديا الشعبية وفنون الارتجال، وعرفت مقاهي القاهرة رواة السير الشعبية، مثل السيرة الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة.

 لكن ظهور القاهرة الخديوية بعمارتها ذات النزعة الغربية، أوجد فضاءات جغرافية للترفيه، تركزت حول حي الأزبكية، بعد بناء دار الأوبرا وظهور المسارح التي تولى الشوام تنميتها ونجحوا في خلق حركة مسرحية عربية ناشئة، قادها يعقوب صنوع وتلاميذه ممن جاءوا بعده، ونجحوا في القيام بعملية تعريب واسعة لكلاسيكيات المسرح العالمي، واستطاعوا تكييف تلك النصوص تكييفاً خفيفاً، لإرضاء الأذواق المحلية. وكانت تضاف بعض الرقصات والأغنيات الخفيفة كفواصل بين المشاهد، مما ساعد في ازدهار صناعة الموسيقى والغناء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يشدد الكتاب على أن عالم المسرح في بداياته كان عالماً ذكورياً بامتياز، وشاعت داخل المسارح ممارسات الفصل بين الجنسين، حتى الربع الأول من القرن الـ20. وعلى رغم ذلك احتفظ التاريخ بأسماء نساء رائدات أبرزهن مريم سماط التي نشرت "الأهرام" مذكراتها كأول ممثلة عربية. ويبحث الفصل الثاني في سير بعض النساء الفاعلات وعلى رأسهن منيرة المهدية وبديعة مصابني وأم كلثوم وتحية كاريوكا، كرائدات كن الأكثر أهمية في صناعة الترفيه التي شهدت تحولاً مهماً جعلها أكثر شعبية وجماهيرية، بعد أن عرفت القاهرة صناعة تسجيل الأسطوانات. ومما يؤكد المؤلف أن غالبية النساء الاستثنائيات من أمثال هؤلاء، سواء في مصر أو العالم، انتهت حياتهن إلى التدهور والفقر والضياع، بقوة مأسوية تبدو أحياناً لا مفر منها. وكأنها رسالة لكل امرأة راغبة في التمرد ، تقول "تمردي الآن لكن العقوبة في انتظارك".

 يركز الفصل الثالث والأخير بوضوح على سنوات الأربعينيات التي جعلت شارع عماد الدين في وسط المدينة، هو الشارع الأهم، إلى أن وصل الضباط الأحرار إلى الحكم في يوليو 1952 فتغير كل شيء .

 تقيم مكتبة كتب خان ناشرة الكتاب حفلاً مساء الأربعاء المقبل لمناقشة الكتاب، بمشاركة المؤلف والمترجم، وتقدم فرقة الورشة المسرحية فاصلاً غنائياً يتضمن برنامجاً تم إعداده من تراث الغناء والمسرح المصري، خلال الفترة التي يبحثها الكتاب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة