تسرد رواية "كلهم يريدون العودة إلى الديار" للكاتبة النرويجية هيلغا فلاتلاند معاناة ثلاثة جنود من النرويج شاركوا في الحرب الأفغانية التي لا علاقة لهم بها، والآثار التي تركها موتهم في حياة أهلهم والأسئلة التي طرحوها حول أسباب هذه الحرب وأهدافها.
في روايتها "كلهم يريدون العودة إلى الديار" الصادرة حديثاً في باريس في ترجمة فرنسية لدومينيك كريستنسن (منشورات دو لوب، 2024)، تروي الكاتبة النرويجية هيلغا فلاتلاند قصة قرية إسكندنافية فجعت بموت ثلاثة من شبانها، كانوا في عداد الكتيبة النرويجية الخاصة التي دخلت أفغانستان تحت راية قوات التحالف الدولي، لإرساء الأمن في البلاد، والمنشأة بقرار من مجلس الأمن بعد الإطاحة بحكومة "طالبان" ودخول الولايات المتحدة الأميركية الأراضي الأفغانية في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001. كان الغرض من إنشاء هذه القوات تعقب الإرهابيين والحد من الحرب الأهلية والتفلت الأمني المنتشر بقوة منذ قيام حركة "طالبان" واستسلام الجيش الوطني الأفغاني وإعلان الإمارة الإسلامية.
لا تتوقف الرواية عند الفوضى القائمة في الجسد الأفغاني آنذاك وانقسام البلاد إلى جماعات وفرق متصارعة وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى، بقدر ما تتوقف أمام الألم الناجم عن فاجعة سقوط هؤلاء الجنود الشبان، الذين يجيئون من خلفيات ثقافية متنوعة، ومن عدد من الدول الأعضاء التي لا علاقة لها بالصراعات الإثنية وصراع الفصائل الأفغانية على السلطة. فتصور حال أهلهم الذين باتوا بعد فاجعة فقد أبنائهم بالكاد يتكلمون، يندفعون جميعاً بلا هوادة، ينزلقون على سطح الريف النرويجي باتجاه البلدة التي انطلق منها تارجي وتريغفي وكريستيان ذات يوم، ليموتوا في بلد بعيد من بلدان آسيا الوسطى.
في هذه الرواية نتعرف على جولي ووالديها وحبيبها ماتس، وسيغورد وعائلته، الغارقين في ألم لا نهاية له بسبب الفاجعة التي بدت وكأنها جمدت قريتهم الواقعة في شمال النرويج.
تصف لنا الرواية هذه القرية الوادعة ومزارعها وأشجار صنوبرها التي تنبعث منها في فصل الصيف رائحة الأرض "التي قلبت حديثاً"، وفي فصل الشتاء، منحدراتها النابضة بالحياة بفضل محطات التزلج وأماكن الإقامة المطلة على هذه المحطات المغطاة بالثلج الناصع البياض، والتي تحولت بسبب مصرع الشبان الثلاثة بانفجار قنبلة يدوية الصنع في أفغانستان إلى منحدرات صامتة يلفها الحزن.
بيئة هادئة
نحن إذاً في منطقة ريفية يعرف فيها الجميع بعضهم. شهداؤها هم تارجي، شقيق جولي وأصغر إخوتها وأخواتها وتريغفي، صديق وحبيب سيغورد، وكريستيان. وقد وصل خبر استشهادهم باتصال هاتفي تلقته والدة تارجي في الـ14 من يونيو (حزيران) سنة 2007، انقض عليها انقضاض الصاعقة. دمر هذا الاتصال الهاتفي الذاكرة والزمان والعقل والأجساد على ما يقول سيغورد في الرواية: "يعود تريغفي محمولاً في نعش، وأنا لا أتذكر شيئاً"، "لا أتذكر اليوم، ولا حتى الساعات التي تلت وصول جثمانه. جل ما أتذكره أني كنت أبيضاً من الداخل، وكل شيء من حولي كان فارغاً".
تخبرنا الرواية كذلك أن والد تارجي مزارع يكرس كامل وقته للعمل في مزرعته التي كان يخطط لإعطائها لابنه. غير أنه بعد موت الابن بات في عزلة كأنه قطع كل صلة بأرضه وبنفسه. تقول ابنته جولي التي تحاول الإثبات لوالدها أنها قادرة على تولي المزرعة بدلاً من شقيقها إن "تارجي في الأرض، لكن والدي لا يعمل فيها... إنه يرفض كل ما له علاقة بالمزرعة"، وكأن الحزن يثقل كاهل كل شيء، يتغلغل في الأرض ويلوث المزرعة وحقولها وحيواناتها. فجولي نفسها مفجوعة بفقدان شقيقها وصديقيها كريستيان وتريغفي. غيابهم حفر في داخلها فجوة عميقة بقعها جرح لا يلتئم في قرية توقفت فيها الحياة. كل شيء في البيت والمزرعة يذكرها بتارجي: شجرة القيقب في الفناء، ورائحة الإسطبل، وشجرة الكرز المثقلة بالثمار الصغيرة الحمراء اللامعة، وأمها الجالسة دوماً في الحديقة، ووالدها المنتظر في الإسطبل، وتارجي العابر بالممرات، وصوره المعلقة على الجدران في كل مكان. إنه ليس هنا. لكنه في كل مكان. أمامها وخلفها، في رأسها وفي عمودها الفقري. موت تارجي وتريغفي وكريستيان يلاحق جولي وكل أهل القرية وسكانها، مما يجعل العيش فيها مستحيلاً. لقد غير موت الشبان الثلاثة حال القرية، على رغم أنها تبدو لناظرها كما كانت من قبل. فإن كل شيء فيها لم يعد كما كان. ولئن أراد الجميع العودة إلى الديار، فإن "الديار" قد اختطفها الموت بعد أن هشم أجساد أبنائها. الحداد يغمر الجميع ويلفهم في صمت قسري. ذلك أن الألم العميق لا يواجه بالكلمات والتعابير. ولعله يعطي شكلاً لرواية هيلغا فلاتلاند الواقعة في تسعة فصول، كرس كل فصل منها لشخصية من الشخوص، لتعبر بصيغة المتكلم، في حوار قائم بين الذات وذاتها، عن ألمها الدفين ونفسها المتجرحة. فلجولي الجان والأشباح، ولسيغورد الآمال المحبطة والرغبة المدمرة، ولماتس عدم الفهم والإحباط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تدعو أحاديث النفس هذه في بوليفونيتها القارئ إلى التعاطف مع الراوي، بحيث يصبح رفيق آلامه العميقة والمدمرة في الوقت عينه. ولأنها أحاديث لا تفصح عن كل شيء، فإنها تبقى دون الألم. فجولي تعترف أن كل شيء بداخلها قد تغير منذ رحيل تارجي، وسيغورد يكتشف في وحدته كم كان تريغفي، على رغم موته، متجذراً فيه، قابعاً في قلبه وعقله لا يريد الرحيل. بدوره يدرك ماتس، حبيب جولي، أنه قد أصبح ضحية موت شقيق حبيبته. ذلك أن قرارها الاهتمام بالمزرعة يعني فيما يعنيه تركه أوسلو واستقراره في الريف. هكذا شقلب الموت إذا حياة أهل القرية الهانئة التي اصطبغت بين ليلة وضحاها بالدموع وباستحضار ماضٍ بات ظلاً في بناء سردي نجحت الروائية في جعله يكشف عن الكلوم البالغة التي أصابت الجميع.
تمر كل شخصية من شخصيات الرواية المأزومة بمراحل مختلفة من المشاعر كالحزن والغضب والاستسلام وإعادة تكوين الذات المرتبطة بالأماكن وبالآخرين. فالرواية بلا شك نفسية، بنتها فلاتلاند بأسلوبها الدقيق وكتابتها الحساسة ذات الإيقاعات الخافتة التي رسمت بوضوح تطور الشخصيات ومشاعرهم القوية في كلمات استبطنت بعمق الدواخل البشرية مركزة على الهواجس والمعضلات الروحية والميتافيزيقية والوجودية.
تخرجنا رواية "كلهم يريدون العودة إلى الديار" من حيز الروايات التقليدية الشائعة، لتدخلنا إلى أذهان وقلوب أبطالها وتدفقات وعيهم المتداخلة والمتأرجحة بين العودة أو الاستقرار الدائم في البلدة، طارحة مسألة الموت والترابية والاحتجاب عن البصر والروابط بين الأحياء والأموات والعلاقات العائلية والعاطفية والصراع السيكولوجي الذي يظهر في صورة تفجع وضيق وقلق.
هيلغا فلاتلاند من مواليد أوسلو سنة 1984. سبق لها أن وقعت 6 روايات. نالت عنها جائزة جمعية بائعي الكتب وأصحاب المكتبات النرويجيين. ترجمت روايتها الأولى "عائلة حديثة" إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية والبولندية وبيعت حقوق ترجمتها لتسع لغات أخرى.