ملخص
إن ما يشار إليه الآن باسم "الحروب الثقافية" إنما ينطوي في الواقع على أجندات يمينية متطرفة سابقة، انتقلت لتصبح أكثر قبولاً في الخطاب السياسي الأوسع، وتحول التركيز العام لدى الناس نحو هذه القضايا، بحيث باتت تطغى على المناقشات الأخرى ومحاولات معالجة التحديات المجتمعية الملحة، والقضايا الحاسمة.
في التاسع من يونيو (حزيران) الماضي، وقف جوردان بارديلا الشاب البالغ من العمر 28 سنة وقائد حزب "التجمع الوطني" Rassemblement National (RN) اليميني المتطرف في فرنسا، أمام حشد مفعم بالحماسة والبهجة والثقة. كان بارديلا الذي تعود جذور عائلته إلى إيطاليا (هاجرت عائلة والدته إلى فرنسا في ستينيات القرن الـ20)، يلقي خطاباً حماسياً أمام جمهور من المؤيدين الشباب الذين رفعوا الأعلام وأطلقوا الهتافات، مؤكداً فيه التزام حزبه ضبط الحدود الفرنسية وإغلاقها. وفي أعقاب انتخابات "الاتحاد الأوروبي" الناجحة التي حصد فيها حزبه أكثر من 31.4 في المئة من أصوات الناخبين وحصل على 30 مقعداً في البرلمان الأوروبي، اعتبر بارديلا النتيجة بمثابة "أمل جديد" لمستقبل فرنسا.
هذه النتيجة دفعت بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اتخاذ خطوة جريئة. فعلى رغم أن ولايته كان لا يزال أمامها ثلاث سنوات، إلا أنه قرر بشكل غير متوقع الدعوة إلى انتخابات مبكرة، معولاً على رؤية بديلة. وأعرب عن أمله في أن يتحد الفرنسيون من "أصحاب النيات الحسنة، رجالاً ونساء، للوقوف صفاً واحداً ضد التطرف عندما يحين الوقت".
هذه الخطوة التكتيكية أثبتت في ما يبدو فعاليتها، بحيث هزم حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في فرنسا في نهاية المطاف على يد ائتلاف يساري تم تشكيله على وجه السرعة. إلا أنه لا يمكن إنكار أن قيادة جوردان بارديلا اضطلعت بدور مهم في تعزيز مكانة الحزب اليميني وزيادة شعبيته. ففي غضون أيام قليلة، ظهر كشخصية بارزة تجسد النفوذ المتنامي لأقصى اليمين بين جيل الشباب في فرنسا، مستحوذاً على عقول اليافعين وقلوبهم. في المقابل، وبينما سجل حزب "البديل من أجل ألمانيا" Alternative für Deutschland (AfD) المناهض للهجرة "نجاحاً تاريخياً" بفوزه الأول في برلمان ولاية ألمانية منذ الحرب العالمية الثانية، بات من الواضح أن أوروبا تشهد موجة جديدة من المشاعر القومية، يغذيها بصورة رئيسة جيل الشباب.
حظي حزب "البديل من أجل ألمانيا" بدعم قوي خصوصاً بين الناخبين الأصغر سناً. وأظهرت تقارير أولية أن الحزب حل في المرتبة الأولى في "ولاية تورينغيا" حيث حصل على نسبة 37 في المئة من الأصوات بين الشباب الذين تتفاوت أعمارهم ما بين 18 و24 سنة، وهو ما يمثل زيادة بنحو 20 نقطة عن أدائه في انتخابات الولاية في عام 2019. وكان كتاب للمؤرخ إنزو ترافيرسو - صدر في عام 2018 بعنوان "الوجوه الجديدة للفاشية"The New Faces of Fascism - قد سلط الضوء على التركيبة السكانية المتغيرة داخل الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا، ويبدو أن ملاحظاته الأولية هي في محلها اليوم، بحيث ينحاز جيل الشباب بصورة متزايدة نحو اليمين المتطرف، الذي يسعى إلى إخفاء جذوره الأيديولوجية المتشددة وراء مظهر أكثر قبولاً.
يجسد جوردان بارديلا هذا الجانب باعتباره سياسياً شاباً يروج لخطاب يتبنى النقاء العرقي وكره الأجانب، ويركز على القومية المتطرفة بشعار "فرنسا أولاً"، وهو خطاب يلقى صدى لدى جيل شاب يشعر بخيبة الأمل والإهمال. ويتساءل المؤرخ إنزو ترافيرسو عما إذا كان هذا الاتجاه يشير إلى ظهور شكل جديد من أشكال الفاشية، أو ربما حركة إرهابية ذات طموحات للسيطرة على أوروبا. وأمام التطورات الأخيرة، يبدو أن هذا التقييم يكتسب مزيداً من الصدقية.
مؤشرات هذا التطرف كانت واضحة بين شباب أوروبا لأكثر من عقد من الزمن. وكانت أبحاثي المتعلقة بحزب النازيين الجدد المحظور الآن في اليونان والمسمى "الفجر الذهبي" Golden Dawn، بمثابة تلميح أولي إلى هذا التحول. فقد دفعت الصعوبات الاقتصادية والتهميش الاجتماعي، إلى جانب تراجع الثقة المتزايد بالأحزاب السياسية السائدة، بعدد كبير من الناخبين اليونانيين الشباب إلى التوجه نحو أقصى اليمين وتبني أفكاره المتطرفة.
ففي خضم الاضطرابات التي أحدثها الخوف من "خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي" (غريغست) Grexit في عام 2015 ـ هذا الخروج الذي لم يتحقق قط لكنه ترك البلاد في حال من التوتر العميق- ظهر حزب "الفجر الذهبي" اليميني المتطرف كقوة قومية متصاعدة.
كنت خلال عامي 2020 و2021 أجريت نقاشات مع عدد من الشباب الذين تفاوتت أعمارهم ما بين 18 و40 سنة، أحده هؤلاء يدعى ليفتيريس* الذي انبهر بالحماسة القومية لزعيم "الفجر الذهبي" نيكولاوس ميخالوياكوس. وكما غيره من الشبان الآخرين الذين قابلتهم، كان يرى في حزب "الفجر الذهبي" القوة الوحيدة القادرة على إنقاذ اليونان مما سماه "الانحلال الأخلاقي". وكانت الجدية التي عبر بها هؤلاء الشباب عن تلك الأفكار مثيرة للذهول، لكنها كانت أيضاً مقلقة للغاية لأي باحث يدرس صعود النازية في ألمانيا.
الأفراد الذين تحدثت معهم بدوا منجذبين إلى تركيز حزب "الفجر الذهبي" على الذكورة وقيم الفخر الوطني التي تركت انطباعاً ملحوظاً لديهم. وأظهروا في المقابل القليل من الاهتمام بعلاقات هذا الحزب بالنازيين الجدد أو بالأنشطة الإجرامية لأعضائه، بما فيها ربطهم بمقتل اثنين من الناشطين اليساريين الشباب. لا بل إن البعض منهم رفض تصديق تلك الأحداث واصفاً إياها بأنها من قبيل نظريات المؤامرة، على رغم إدانة هذا الحزب المتطرف في عام 2020 بإدارة منظمة إجرامية، مما أدى إلى سجن سبعة من قيادييه.
وبحلول عام 2023، ظهر فصيل فرعي من حزب "الفجر الذهبي" تحت اسم مستعار جديد. ولدهشة كثيرين، حصل الحزب المسمى "سبارتانز" Spartans، الذي قدم مرشحين له قبل أسبوعين فقط من موعد الانتخابات العامة في يونيو (حزيران)، على ما يكفي من الأصوات للفوز بـ12 مقعداً في البرلمان اليوناني.
مؤيدو الحزب كانوا في معظمهم من الذكور، بحيث صوت أكثر من 16 في المئة من اليونانيين الذين تتفاوت أعمارهم ما بين 16 و44 سنة لمصلحة الحزب. وقد انبهر كثر بأيديولوجيته القومية المتطرفة ومفهوم العنصرية البيضاء، ووجدوا لديه إجابات على مشكلات لم تستطع الأحزاب الأخرى معالجتها.
جرى حظر الحزب في نهاية المطاف بعدما كشف عن أن النائب السابق إلياس كاسيدياريس واصل إدارة عملياته من السجن، في محاولة لإحياء جماعة إجرامية من النازيين الجدد داخل السياسة اليونانية. ومع ذلك، فإن العوامل الأساسية التي تغذي هذا الانجذاب نحو اليمين المتطرف لا تزال قائمة في كل مكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في ألمانيا، فكان التأييد لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف بين الناخبين الشباب، في حدود خمسة في المئة فقط في عام 2019. إلا أن هذه النسبة قفزت في انتخابات "الاتحاد الأوروبي"، إلى مستوى 16 في المئة، على رغم تورط أعضاء فيه بأنشطة النازيين الجدد. ومن المعروف أن بيورن هوكي الزعيم في "ولاية توريغيا" عن حزب "البديل من أجل ألمانيا"، عبر مراراً عن آرائه المتطرفة، واستخدم بصورة متكررة الخطاب النازي. وفي عام 2024، أدين مرتين لاستخدامه شعاراً نازياً محظوراً خلال فعاليات حملته الانتخابية.
وهذه السنة، جاء مشهد عدد قليل من الجنود السابقين وهم يتجمعون على شواطئ نورماندي للاحتفال بالذكرى الـ80 لـ"يوم النصر" D-Day (ذكرى إنزال قوات الحلفاء على شاطئ نورماندي الذي أسهم في وضع حد لـ"الحرب العالمية الثانية")، بمثابة تذكير مؤثر بمدى التلاشي التدريجي للذاكرة الحية عن النضال ضد الفاشية، بحيث نشأ مكانه اتجاه جديد يتمثل في شباب يحملون شهادات جامعية في كثير من الأحيان، ويعتنقون بصورة متزايدة أيديولوجيات ومعتقدات كان أجدادهم قد ناضلوا ضدها وضحوا بحياتهم من أجل القضاء عليها.
كذلك أيد ما يقارب 40 في المئة من الناخبين الذين تتفاوت أعمارهم ما بين 18 و24 سنة في فرنسا، و20 في المئة من الفئة نفسها في إسبانيا، أحزاباً من أقصى اليمين. وتشهد البرتغال أيضاً صعوداً للمشاعر اليمينية المتطرفة، إذ اكتسب حزب "تشيغا" (كفى) Chega قوة جذب بين الناخبين الشباب، ليصبح ثالث أكبر حزب في البلاد.
كذلك يدل صعود حزب "إصلاح المملكة المتحدة" Reform UK على مدى تأثير الأفكار اليمينية المتطرفة بصورة متزايدة في تكوين الخطاب السياسي السائد. وتسري تكهنات حول ما إذا كان هذا الحزب الشعبوي يمكن أن يعيد تشكيل مستقبل التيار المحافظ في بريطانيا. يبقى أن نرى ما إذا كان من المهم- كما ذكرت صحيفة "ذا تايمز" في يونيو (حزيران) الماضي- أن نحو 10 في المئة من مرشحي هذا الحزب التي يتزعمه نايجل فاراج في إنجلترا، كانوا ضمن لائحة الأصدقاء على حساب "فيسبوك" التابع لغاري رايكس، المنظم السابق لـ"الحزب الوطني البريطاني" British National Party (BNP) (وهو حزب يميني متطرف مناهض للهجرة ومشكك بـ"الاتحاد الأوروبي"، ومؤيد لتفوق العرق الأبيض).
رايكس أسس منظمة "الاتحاد البريطاني الجديد" New British Union على غرار "اتحاد الفاشيين البريطاني" British Union of Fascists التي قاده أوزوالد موزلي، مع حشد من مجموعة شباب ذكور عرفوا بـ"القمصان السود" Blackshirts. وتشير البروفيسورة باولا سوريدج من مركز أبحاث "المملكة المتحدة في أوروبا متغيرة" UK in a Changing Europe، إلى أن الذكور الأصغر سناً، لا سيما منهم أولئك الذين تبلغ أعمارهم 25 سنة أو أقل، هم أكثر ميلاً إلى التفكير في التصويت لحزب "إصلاح المملكة المتحدة"، مقارنة بالذين هم في الأربعينيات والخمسينيات من العمر.
قد يكون عامل الجذب هذا للشباب مرتبطاً بمهارة الأحزاب اليمينية المتطرفة في استخدام الصور البيانية اللافتة وتصميم محتوى مؤثر. على سبيل المثال، قام حزب "البديل من أجل ألمانيا" بمهارة، باستهداف الناخبين الشباب على تطبيق "تيك توك" برسائل واضحة مشحونة عاطفياً حول فقدان الهوية. أما السياسي الفرنسي بارديلا الذي لديه أكثر من مليون متابع لحسابه على "تيك توك"، فتجاهل عمداً الصور أو اللغة المتطرفة العلنية. وبدلاً من أن تركز مقاطع الفيديو عبر "تيك توك" على المناقشات السياسية، فإنها تسعى إلى بث أجواء أو مشاعر عاطفية مؤثرة تلقى صدى لدى المشاهدين، بما يمكن الأحزاب من تحديد "رسالتها" بصورة فعالة.
تجلى تأثير هذا التحول نحو اليمين في السلوك الواثق لرئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني التي استضافت "مجموعة الـسبع" G7 في منطقة بوليا جنوب البلاد في وقت سابق من هذه السنة. وقد حقق حزبها- "إخوان إيطاليا" Brothers of Italy اليميني المتطرف- انتصاراً ملحوظاً في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، وخلافاً لكثير من نظرائها في أوروبا الغربية، فقد خرجت ميلوني من التصويت متمكنة وأكثر ثقة بنفسها، باعتبار أنها تلقت مصادقة على موقفها السياسي.
وتشير أوساط بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، إلى أن رئيسة الوزراء الإيطالية تتصور نفسها الآن شخصية محورية في السياسة الأوروبية، وترى أنها ستكون زعيمة يمين الوسط في المستقبل. وعلى رغم أن هذه التأكيدات قد تكون جريئة ومقلقة، فإنه يجب عدم إلقاء اللوم في ذلك على الناخبين الشباب الذين دعموها، لأن المسؤولية الحقيقية تقع على عاتق المؤسسة السياسية التي تنتمي إلى يمين الوسط، والتي تبنت بدافع الخوف واليأس أفكاراً تتناقض مع مبادئها الخاصة للمحافظة الليبرالية، مما جعل وجهات النظر المتطرفة تبدو عن غير قصد، أكثر قبولاً وطبيعية في نظر الجيل الجديد.
يذكر هنا أن اليمين المتطرف دأب خلال أعوام عدة، على استخدام تكتيكات التخويف لنشر نظريات المؤامرة الضارة، مثل "الاستبدال" المفترض للسكان البيض بالمسلمين، أو إنكار مشكلة تغير المناخ. وفي محاولة لمنع الناخبين من الانجراف نحو أحزاب اليمين المتطرف، بدأت بعض مجموعات يمين الوسط تبني هذا الخطاب وترديده، مما أدى فعلياً إلى محو الحدود الأيديولوجية والفروق.
إن ما يشار إليه الآن باسم "الحروب الثقافية" إنما ينطوي في الواقع على أجندات يمينية متطرفة سابقة، انتقلت لتصبح أكثر قبولاً في الخطاب السياسي الأوسع، وتحول التركيز العام لدى الناس نحو هذه القضايا، بحيث باتت تطغى على المناقشات الأخرى ومحاولات معالجة التحديات المجتمعية الملحة، والقضايا الحاسمة.
ويبدو الآن أن زعماء اليمين المتطرف في مختلف أنحاء أوروبا، يستعدون لممارسة نفوذ كبير على السياسة العامة، بعدما حصلوا على أكثر من 20 في المئة من مقاعد البرلمان الأوروبي. وقد تجسدت الأجواء التي عقبت انتخابات الاتحاد الأوروبي في يونيو بوضوح في التجمعات الاحتفالية في دول مثل ألمانيا، وفرنسا وإيطاليا. ولاحظ أحد زملائي في ألمانيا أن المزاج الراهن في أوروبا يحمل أوجه شبه مزعجة بما كان عليه الوضع في ثلاثينيات القرن الـ20.
وعلى رغم أن هذه المقارنة قد تبدو مبالغاً فيها، فإن صعود اليمين المتطرف اليوم يعكس جوانب مثيرة للقلق من فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، مع تركيزه على مسألة الهجرة، والقضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي، وغيرها من المناقشات المجتمعية المثيرة للانقسام. وفيما أن الائتلافات السياسية تمنع هذه الأحزاب (المتطرفة) من الوصول إلى السلطة المطلقة في هذه المرحلة، فإن الدعم المتزايد لها على المستوى الشعبي، يكشف عن مدى قرب عودة اليمين المتطرف و"فجره الذهبي" بالنسبة إلى الشباب الذين ينجذبون إلى زعماء يروجون لرؤية جديدة مرعبة لـ"الأمل".
*تم تغيير الاسم حفاظاً على الخصوصية
جورجيوس ساماراس هو أستاذ مساعد للسياسة العامة في جامعة "كينغز كوليدج لندن"، ومؤلف كتاب "فتح بوابات الكراهية: تحقيق في التطرف عبر الإنترنت في الفجر الذهبي" Opening the Floodgates of Hate: An Investigation into Golden Dawn’s Online Extremism
© The Independent