Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الزعامات وفلسفة التاريخ

محكمة التاريخ محايدة ويقظة وواعية في عدل والتزام ومؤمنة بأن الحقيقة هي الأبقى دائماً

لا تزال الحملة الفرنسية على أهميتها مختلفا على آثارها في التاريخ المعاصر   (مواقع التواصل)

ملخص

الزعامات التاريخية على مسار البشرية كلها لافتات للتطور وعلامات لحركة الزمن ولكن حركة الجماهير هي المعيار دائماً لفهم الفلسفة الحقيقية للتاريخ البشري بما له وما عليه.

تختلف طريقة المؤرخين عند صياغة الأحداث ومتابعة المسار الذي مضت عليه الأمور وفقاً للانتماءات السياسية والعقائد الفكرية، ذلك أن الكتابة المحايدة والعادلة والموضوعية عن تاريخ الأشياء وتطورات الأحداث هي جوهر الفلسفة الحقيقية لما يجب أن تكون عليه كتابة التاريخ، بالتالي قراءته.

 نجد مثلاً أن عبدالرحمن الرافعي في مصر عندما كتب تاريخ المرحلة التي عاشها كان متأثراً بعدائه لحزب الوفد وانتمائه للحزب الوطني، كما أن كتابة التاريخ في مصر خضعت خلال العقود الأخيرة لعنصري المعاصرة وطبيعة الحكم، فتغيرت الألوان السياسية بل الآراء والأفكار وفقاً للأهواء والمشارب والانتماءات والميول.

 وأتذكر دائماً مقالة بعنوان "دهاء التاريخ" للفيلسوف العربي الراحل الدكتور فؤاد زكريا الذي كتبها لمناسبة المئوية الثانية للحملة الفرنسية، واختلف معه بعضهم وتحمس له آخرون ولكنه ظل على العهد به مؤمناً بما يقول مدافعاً عمّا يكتب.

وأنا أسوق هذه المقدمة لكي أذكّر الجميع بأن كتابة التاريخ المعاصر لكثير من دول العالم خضعت لما يمكن تسميته "تأثير أفكار الدولة الكفاحية" كما كان يسميها أستاذنا العظيم الدكتور حامد ربيع، رحمه الله.

وكلما هبطت شخصياً في العاصمة البريطانية وجدت أن "طريق كرومول" يكاد يكون هو الأطول حتى قلب العاصمة، على رغم أن كرومول ثار على الملكية وأصبح محل استهجان لدى قطاعات واسعة من الشعب البريطاني في وقته.

ولكن لم يفكر أحد حتى بعد انتهاء عصر كرومول أن يغيّر اسم الطريق مثلما فعلنا في مصر وغيرنا اسم "شارع الملك فؤاد" إلى "شارع 26 يوليو" و"شارع سليمان باشا" إلى "شارع طلعت حرب"، وغيرها من الأسماء التي ارتبطت بمراحل تاريخية معينة، ولكننا رأينا في غمرة الحماسة الثورية أن تغيير الأسماء يعني تغيير التاريخ برمته وهو أمر غير صحيح، فاحترام أصحاب الأسماء هو احترام للتاريخ وليس لأشخاصهم، وقلما نجد لهذه الظاهرة وجوداً في الدول المتقدمة والشعوب الواعية، ولكننا نراها مكررة في معظم دول العالم النامي.

وأنا أرى أن حرمة التاريخ يجب أن تظل محل رعاية واهتمام وأنها لا يمكن أبداً أن تصبح مادة للتصفيق السياسي والتأثير الفكري، والقياس معروف على حالات مماثلة في دول العالم المختلفة، وأريد أن أقول هنا إن فلسفة التاريخ أعمق من غيرها من الفلسفات، وبعضهم يتحدث عن أن التاريخ يكرر نفسه وذلك قد يكون صحيحاً ولكن ليس بالمطلق، فقد تتكرر الأحداث وتتشابه الشخوص، ولكن تبقى حركة التاريخ مختلفة من عصر إلى عصر.

ولقد حاولت إسرائيل، على سبيل المثال، طمس الهوية الفلسطينية ولكنها الآن وبعد أكثر من ثمانية عقود لم تتمكن من ذلك، ولا يزال الاسم العربي التاريخي للمدن والمواقع مرتبطاً بها على رغم كل عمليات التهويد التي مارستها إسرائيل وأعوانها على امتداد العقود الأخيرة.

وهنا لا بد من أن نشير إلى غياب العدالة أحياناً عند تقويم الزعامات وتقدير بعض القيادات، إذ يبدو الأمر وكأن هناك حالاً من انحياز بعضهم على حساب البعض الآخر، فما أكثر من أقيمت لهم الميادين ورفعت على رؤوسهم أكاليل الغار وهم لا يستحقون شيئاً من ذلك، وما أكثر من طمست أسماؤهم واختفت أعمالهم كما شهدنا من محاولات في بعض مراحل التاريخ الفرعوني.

ولكن الحق يظهر في النهاية والحقيقة لا تختفي بالكامل، بل تحتاج دائماً إلى من يكشف عنها ويضيء الطريق لظهورها، ونلاحظ دائماً أن هناك تغييرات تجاوز بعضها الحدود، فأحال المساجد إلى كنائس وأحال الكنائس إلى مساجد، ولنا في "أيا صوفيا" دليل يا أولي الألباب، فنحن نحترم الحقيقة التاريخية ولا نرحب بالعبث في القيمة الموروثة للأسماء والأحداث والمواقف.

 وما أكثر ما جرى من تزييف للمواقف لمصلحة جماعات بشرية أو زعامات وافدة أو قيادات جديدة، ولأن الحياة هي "حلف الأحياء" في مواجهة من عبروا أو من سيعبرون، لذلك فإن من يملك مقاليد الأمر هو القادر على ترك البصمات وتوزيع الاتهامات أيضاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كان التاريخ لا ينصف الأموات، بل لا ينصف الأحياء أحياناً، فإن علينا أن نتعلم الدرس وأن نعي أنه يمكن إخفاء بعض الحقائق لفترة من الزمن أو ادعاء البطولة لفترة أخرى ولكن الحق والحقيقة يظلان باقيان بتأثيرهما القوي في كل الأطراف.

وهل نسينا أن قائد ثورة الفلاحين في الجيش المصري البطل أحمد عرابي بعدما عاد من منفاه في سرنديب كان بعض الجهلاء يبصقون ناحيته ويعتبرونه سبب الاحتلال ودخول الإنجليز إلى مصر، بل إن شاعراً كبيراً بحجم أحمد شوقي هجاه بقصيدة مؤلمة نتيجة نقص المعرفة وعدم الدقة في التقييم التاريخي، فما أكثر المظاليم في حواري الماضي وما أكثر المهرجين في ميادين التاريخ أيضاً.

 إنني أطالب هنا بكتابة عادلة للتاريخ مع موضوعية كاملة في تناوله وسرد أحداثه مع ضرورة توخي الدقة والحرص على الصدق الكامل حتى يرث أبناؤنا وأحفادنا حقائق واضحة وتاريخاً وطنياً صحيحاً، وأنا مدرك حالياً أن عدداً من الدول العربية ومنها مصر والسعودية وغيرهما تسعى جميعاً إلى إعادة كتابة التاريخ بصورة دقيقة ترد الاعتبار لمن يستحق وتسحب الميزة ممن لا يستحق، فالتاريخ لا يرحم ولا يغفو ولا ينام، وأمتنا العربية حافل تاريخها بالأمجاد سواء كان ذلك في ظل الحضارة العربية الإسلامية أو حتى أثناء الحضارات التي سبقتها في المنطقة كلها.

 لذلك فنحن أحق من غيرنا في استرداد حقوقنا، بل آثارنا بعد سنوات طويلة من البطش والاغتصاب الفكري والمادي، ولا بد لنا من أن نعي جميعاً أنه لا يصح إلا الصحيح، وأنه يمكن خداع كل الناس بعض الوقت أو خداع بعض الناس كل الوقت، ولكن لا يمكن أبداً خداع كل الناس كل الوقت!.

تلك مسلّمة تاريخية وعاها آباؤنا وأجدادنا وها نحن نحتفل بها ونقدر دورها، بل إن هناك ما يفوق ذلك من محاولة رد الاعتبار لملوك رحلوا وحكام عبروا نحاول جميعاً استرداد آثارهم ممن قاموا بسرقتها في عصور الاستعمار والظلام، فمصر تسعى إلى استرداد رأس نفرتيتي وحجر رشيد وغيرها من أيقونات التاريخ، كما تفاخر السعودية بمدائن صالح ويباهي الأردن بالبتراء، وفي كل بلد عربي وأفريقي وإسلامي آثار باقية وشواهد تاريخية تدعم وجهة نظر التاريخ وتعزز مقولته ضد من حاولوا طمس هويته وتزييف مسيرته.

 تلك هي رؤيتنا لأحكام التاريخ العادلة مهما كانت خافية وإذا كانوا قالوا من قبل إن الرحمة قبل العدل، فإن هذه الحكمة لا تتسق مع استقراء التاريخ والبحث في زواياه والتفتيش في مدخلاته ومخرجاته، فما أكثر من يعون دروس التاريخ وآدابه وينتصرون للحقيقة دائماً مع اعتبار أن الحياة ليست فقط حقيقة ولكنها أيضاً طريقة، وسنظل نرقب دائماً مسيرة الحياة وحركة التاريخ، خصوصاً أننا كعرب نملك تاريخاً طويلاً مجيداً وماضياً تليداً نعتز به دوماً ونفاخر، ولكننا لا نبالغ على حساب الحقيقة ولا نقبل تزييف الأحداث ولا نسمح بتشويه المواقف.

 فتحية لمن سبقونا في هذا المجال واحتراماً وتقديراً لكل من يبادرون معنا في هذا الميدان. إن محكمة التاريخ محايدة ويقظة وواعية في عدل والتزام ومؤمنة بأن الحقيقة هي الأبقى دائماً، كما أن الزعامات التاريخية على مسار البشرية كلها هي لافتات للتطور وعلامات لحركة الزمن ولكن حركة الجماهير هي المعيار دائماً لفهم الفلسفة الحقيقية للتاريخ البشري بما له وما عليه. فما أدهى التاريخ وما أخطر كلمته في النهاية!.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء