Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يحمل التاريخ حقا حلولا لأزمات الحاضر؟

كتاب للفيلسوف رومان كرزناريك يتناول فيه إلهام من الماضي لمستقبل الإنسانية

الفيلسوف رومان كرزناريك بجوار غلاف كتابه (حساب رومان على منصة إكس)

ملخص

من الأزمات التي يقترح "تاريخ من أجل المستقبل" حلولاً لها أزمة "الدمار المروع الذي أحدثته الرأسمالية ممثلة في منصات من قبيل (غوغل) و(مايكروسوفت) و(أوبر) وأمثالها".

كم واحداً منا إذا سئل عن جدوى دراسة التاريخ، يمكن أن يأتي بإجابة غير الإجابة المكررة، أعني استخلاص الدروس والعبر، وكم واحداً منا يمكن أن يفلت من سطوة مقولة إن التاريخ يكرر نفسه، وإن دراسته والانكباب على دروسه هي الطريقة المثلى لمنع مآسيه في الأقل من التكرار؟ لا أحسب أن النجاة من هذه الثوابت يسيرة، لكن أيضاً، قد لا تكون هذه الثوابت خالية تماماً من الحكمة. وعلى رغم أن التاريخ لا يحتاج إلى مبررات لوجوده، فحسبه الفضول والرغبة في المعرفة حتى لو لم يتسن الانتفاع المباشر البراغماتي منها، فقد يكون لدى التاريخ فعلاً ما يمكن أن نتعلمه، وما قد يمثل لنا طوق نجاة. هذا ما يثبته الفيلسوف الاسترالي / البريطاني رومان كرزناريك في كتاب صدر له حديثاً بعنوان "تاريخ من أجل المستقبل: إلهام من الماضي لمستقبل الإنسانية".

تستهل إيليان غليزر استعراضها للكتاب في صحيفة "غارديان" في الـ10 من يوليو (تموز) الجاري بقولها إننا "الآن في حاجة، مثلما لم نكن قط من قبل إلى عبر التاريخ ودروسه"، مستشهدة على ذلك بنماذج عديدة لمشكلات لا نزال نكررها، أو لا تزال تتكرر علينا، على رغم أن آباءنا الأقربين أو أجدادنا القدامى توصلوا إلى حلول ناجعة لها. فلا تزال الأمهات يلزمن بيوتهن معزولات لرعاية أطفالهن، غافلات عن تجارب رعاية الأطفال الأهلية في السبعينيات من القرن الـ20... و(لا تزال) قيادة حزب العمال بـ"القواعد المالية" الصارمة مهملة نجاحات الاقتراض بهدف الاستثمار وفرض ضريبة 90 في المئة على أعلى الدخول، وغير هذا وذاك من الأمثلة التاريخية التي "تتيح لنا أن نرى أن الشرور المعاصرة من قبيل التقشف والتفاوت طارئة وليست محتومة: وأنه ليس لزاماً أن تجري الأمور على ما تجري عليه".

"تلهينا" نصيحة العيش في الحاضر المكررة فلا نرى المشكلة الحقيقية، وهي أننا لا نعيش في الماضي بالقدر الكافي. فديمومة "الآن" التي تسم حياة الإنترنت تعمل على تآكل ذاكرتنا الجماعية. ثمة طلب على الروايات والمسلسلات التلفزيونية التاريخية، لكنها في الغالب وسائل للهرب. لذلك يأتي كتاب "التاريخ من أجل الغد" في وقته تماماً. وسبق لنورمان كرزناريك أن أصدر كتباً من قبيل "الجد الصالح: كيف تفكر تفكيراً بعيد المدى في عالم قصير المدى" مركزاً فيه على معالجة الاحتباس الحراري، والانقسام الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي الجامح. وفي كتابه الحالي ينقب في التاريخ عن سوابق ونماذج تعرض حلولاً منسية.

ثمة روح ثورية تسري في الكتاب كله، ويظهر ذلك في توقفه أمام واقعة جرت في جامايكا في عام 1831 "حينما نفد صبر 20 ألف عبد من التدرجية المتعجرفة لدى النخب البيضاء فأضرموا النار في المزارع وسيطروا على الأرض: فأثبتت تلك الثورة أنها نقطة تحول حاسمة في تاريخ إلغاء العبودية".

 

 

لا يجدر بنا الوقوف هنا فقط أمام ثورة العبيد على العبودية، ولا يجب أن تلهينا عن حقيقة رؤية كرزناريك لكونها ثورة على التدرج. فلعل رسالة كبيرة من رسائل الكاتب في كتابه هي رفض التدرج حينما يتحتم الحسم، وسرعة التغيير، وتنتبه إيليان غليزر إلى أن الكاتب يخرج من ثورة جامايكا بحجة أوسع نطاقاً هي حجة أثر الجناح الراديكالي إذ يسرع النشطاء السياسيون إيقاع التغيير من خلال أزمة".

في حوار مع نيوستيتسمان سئل كرزناريك عن الزمان والمكان اللذين يحب أن يعيش فيهما عدا عصرنا هذا وزماننا فقال، "مدينة قرطبة في إسبانيا الإسلامية سنة ألف للميلاد. ففيما كنت أكتب كتاب (تاريخ للغد) اكتشفت أن تلك المدينة كانت تنعم بثقافة تسامح أتاحت للمسلمين واليهود والمسيحيين أن يحظوا بتعايش نسبي قد يجدر بنا أن نتعلم منه".

تكتب إيليان غليزر أنه "يحلو للساسة الشعبويين أن يربطوا مناهضة الهجرة بالتقاليد أكثر مما يربطونها بالعنصرية، وقولهم إن الدعوة إلى مزيد من التسامح مع الهجرة عدوان على استقرار المجتمعات". فيستند كرزناريك في تفنيد حجة التناقض بين التعددية الثقافية والتقاليد الراسخة إلى الأندلس في القرون الوسطى "إذ كان اليهود والمسلمون والمسيحيون يتعايشون جميعاً بشكل ممتاز (ولو أن باحثين يشككون في هذه الرؤية الوردية)".

وغير بعيد من الأندلس، يجد كرزناريك حلاً لأزمة الانهيار الحضاري عند ابن خلدون. "ففي عام 1400 فرض تيمور لتك المغولي الحصار على دمشق، وكان سمع بابن خلدون، فأمر بإنزاله بسلة مدلاة بالحبال من أعلى أسوار المدينة، وأن يؤتى به إلى خيمته ليسمع منه ما لديه من علم. أوضح له ابن خلدون أن الإمبراطوريات تنهار حين تفتقر إلى العصبية، أو التضامن الجمعي، وذلك ما يوافقه عليه الباحثان المعاصران لوم كيمب وبيتر تورتشين إذ يذهبان إلى أن تركيز الثروة والتفاوت السياسي هما أكثر ما يدفع إلى التفكك الاجتماعي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن الأزمات التي يقترح "تاريخ من أجل المستقبل" حلولاً لها أزمة "الدمار المروع الذي أحدثته الرأسمالية ممثلة في منصات من قبيل (غوغل) و(مايكروسوفت) و(أوبر) وأمثالها"، إذ يضع كرزناريك هذه الأزمات في مقابل "التراث التعاوني الذي ازدهر في منطقة إميليا رومانيا في إيطاليا إذ كانت جامعة بولونيا تدار على يد طلبتها طوال القرون الثلاثة الأولى في تاريخها، ويضعها أيضاً في مقابل المزارعين الأميركيين الذين أنشأوا تعاونيات الكهرباء خلال فترة الكساد الكبير بعون من قروض حكومية في ظل سياسة (الصفقة الجديدة) في نموذج شديد النجاح لتعاضد التغيير من أسفل ومن أعلى".

لا تقتصر رسائل الكتاب العامة على ضرورة التغيير السريع وليس التدرج، ولكنه يلح أيضاً على دور المجتمع المدني، أو الناس العاديين في المبادرة بالحلول عند تقاعس الحكومات.

تحت عنوان "كيف نحل مشكلة حروب المياه في العالم؟ محكمة إسبانية قديمة تطرح إجابة"، كتب كرزناريك (غارديان- الـ26 من يوليو الجاري) عن أمر يحدث في ظهيرة كل خميس، أمام الباب الغربي لكاتدرائية فالنسيا، "إذ يقف تسعة أشخاص في عباءات سود، على رأس أحدهم قلنسوة مخططة وفي يده حربة شعائرية، مجتمعين في لقاء أسبوعي معهود منذ مئات السنين. تلك هي (محكمة المياه)، ولعلها أقدم مؤسسة للعدالة في أوروبا".

كل واحد من أولئك التسعة ينتخب ديمقراطياً من المزارعين، فهو يمثلهم في المحكمة، بقدر ما يمثل قناة من قنوات المياه المستعملة في ري المزارع، ومنذ مئات السنين يجتمع أولئك "القضاة العرفيون" للفصل في شكاوى المزارعين فيغرمون من يجور منهم على النصيب المخصص لجاره. وفي ظل زيادة صراعات المياه في أرجاء العالم يخلص كرزناريك إلى أن لنا أملاً يمكن استخلاصه من محكمة المياه الفالنسية الموروثة هذه، ويستعين في استنتاجه هذا بإلينور أوستروم، الحاصلة على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2009 التي احتلت محكمة مياه فالنسيا نصيباً كبيراً من اهتمامها، إذ اعتبرتها نموذجاً مثالياً لإدارة الموارد المشاعة تنقض الرأي الشائع بأن الموارد لو تركت لأهواء البشر فإنهم سيستنزفونها.

لا يقترح كرزناريك إقامة هذه المحاكم، بل الحكومات، الموازية ولكنه يقترح مثلاً على حكومة حزب العمال وهي تحاول إصلاح خلل شركات المياه البريطانية بدلاً من تأميمها أن تنظر في "منح أصحاب المصلحة مقعداً في مجالس إدارات الشركات، فضلاً عن أن هذه المحكمة نموذج قابل للتطبيق على نطاق واسع، فقد تمثل محكمة المياه الفالنسية درساً لبلاد الشرق الأوسط الجافة. لقد اقترح عالم المياه الفلسطيني البارز عبدالرحمن التميمي قبل عقد من الزمن أنه "ينبغي استيراد وتعديل نموذج محكمة المياه... وليس ذلك فقط من أجل حل صراعات المزارعين، ولكن أيضاً لتقليل التوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين". ورأى أنه من دون هذه الآليات ما من فرصة لغرس الثقة الجذرية والحوار لإدارة ندرة المياه إدارة فعالة. وقال التميمي، "إن بوسعنا أن نتصارع على المياه أو أن نتعاون فيها، الأمر يرجع إلينا. فالخطوة الأولى هي أن يثق بعضنا في بعض. ولو أن الصراع الحالي أكد شيئاً فهو الحاجة إلى تعاون مائي طويل المدى".

تمثل محاكم المياه الفالنسية إذن نموذجاً لمنهج كرزناريك، فهو لا يعيد النظر في التاريخ ليقدم تفسيرات جديدة لألغازه القديمة أو ليعيد كتابة بعض فصوله في ضوء وثائق حديثة الاكتشاف، إنما يبحث بنظرة "أحد أشهر الفلاسفة في بريطانيا اليوم"، على حد تعبير لندن رفيو أوف بوكس، في الماضي البعيد من حلول لمشكلات راهنة، لافتاً النظر طول الوقت، بل محرضاً، إلى حتمية العمل الأهلي والمبادرة الشعبية بملء الفراغات التي تتركها الحكومات والحكام.

 

 

في حوار مع إحدى الإذاعات في الخامس من يوليو الجاري، أشارت آيلسا تشانغ إلى نطاق عريض من الأزمات الضخمة التي يواجهها العالم في الوقت الراهن قائلة إنه "لو أن في هذا جانباً إيجابياً، فهو أن الفلاسفة والمؤرخين رأوا دائماً في الأزمات دافعاً إلى التغيير كافياً لتحريك ركود المجتمع، لكن إلى أي مدى يجب أن تبلغ ضخامة الأزمة حتى تدفع إلى تغيير اجتماعي راديكالي؟". وأضافت أن ذلك السؤال هو الذي دفع رومان كرزناريك إلى تأليف "تاريخ من أجل الغد". فهل كانت وراء سعيه هذا أزمة بعينها، أو لحظة محددة هي التي ساقته إلى السعي إلى إجابة هذا السؤال الضخم؟

قال كرزناريك، "إن ما دفعني هو الإحباط الناجم من كل هذه الأزمات، من قبيل الجفاف والفيضانات المرتبطة بتغير المناخ، وتقاعس الحكومات في ما يبدو عن العمل... واستسلامها لنهج التغيير التدريجي في حين أن ما يلزمنا حقاً في التعامل مع هذه الأزمات هو التغيير الشامل السريع. فبدافع من ذلك الإحباط فكرت أن أنظر في التاريخ بحثاً عن اللحظات التي قامت فيها الحكومات بعمل راديكالي سريع، وعن المواقف التي حدث فيها ذلك. ووجدت بالفعل مواقف نعرفها، من قبيل الحروب أو الأوبئة، تقدمت فيها الحكومات ودفعت نفسها إلى إجراء تغير سريع، لكننا نعرف أن معظم الأزمات لا تتمخض عن تغيير، وإذن فهناك عوامل أخرى لازمة".

وهنا يأتي ما يسميه الكاتب بـ"حزمة الخلخلة". يقول كرزناريك إن "التاريخ يعلمنا أن مثل هذه التغيرات لا تحدث إلا عند اجتماع ثلاثة عناصر، هي أشبه بزوايا مثلث، وذلك ما أسميه حزمة الخلخلة. إحدى الزوايا هي الأزمة. فلا بد من أزمة، من قبيل انهيار مالي أو حرائق غابات ناجمة عن تغير المناخ أو الجفاف. والشيء الثاني اللازم هو حركات مخلخلة، فلا بد من خروج الناس إلى الشوارع، وضغطهم على الحكومات من أجل التغيير بما يضخم الأزمة. أما العنصر الثالث اللازم فهو الأفكار القوية القائمة على رؤية والملهمة بالتغيير. واشتهر عن الاقتصادي ميلتن فريدمن قوله إنه على رغم أن الأزمة فرصة للتغيير، لكن ما يحدث فعلاً، عند وقوع أزمة، هو أن كل شيء يعتمد على الأفكار المطروحة هنا وهناك".

يمضي كرزناريك في حواره هذا فيطبق "حزمة الخلخلة" على الأزمة التي انفرجت بهدم سور برلين، لكن المرء لا يملك إلا أن يتساءل عن أزمات أقرب، بل أزمات حاضرة. فلماذا لا يحدث تغيير إيجابي على رغم حرب أوكرانيا الجارية منذ أمد غير قليل، ولماذا لا يظهر نور آخر النفق على رغم إبادة الفلسطينيين منذ شهور، ولماذا لا يتحرك العالم إلى احترام البيئة على رغم أننا في أكثر أنحاء العالم نشهد طقساً لا يكاد يصلح للحياة؟ أليست هذه الأزمات كلها فرصاً للتغيير أم إنها كما تتساءل آيلسا تشانغ غير ضخمة بالقدر الكافي.

لا ينفي كرزناريك ضخامة هذه الأزمات الراهنة، ولا ينكر وجود أفكار هنا وهناك، لكن المشكلة في ما يبدو في غياب العنصر الثالث: نحن. يقول كرزناريك ضارباً المثال بأزمة المناخ "أعتقد أن ما نراه اليوم هو الحاجة إلى ظهور مزيد من حركات الخلخلة في مجال تغير المناخ، وفي المجال البيئي... في هولندا على سبيل المثال، حركة اسمها "ثورة الانقراض" وفيها علماء وأنصار للعمل المباشر خرجوا إلى الشوارع، وقطعوا الطرق، حتى اضطرت الحكومة إلى إصدار إعلان بأنها ستتوقف عن دعم الصناعات التي تعمل بالوقود الأحفوري. لذلك أعتقد أننا في حاجة إلى مزيد من هذا... وأعرف أن كثيراً من الناس يرون في حركات العمل المباشر، من قبيل تظاهرات المناخ التي تقطع الطرق، أعمالاً تخريبية، وأنا شخصياً أراها تخريبية، ولكنني أيضاً وجدت نفسي أنام في الشارع مع ابنتي أمام البرلمان في لندن... وسائقو السيارات يحتجون علينا بأبواق سيارتهم، لأنني أدركت أن هذه هي الطريقة المثلي لأكون "جداً صالحاً" (في إشارة إلى عنوان كتابه الرائج)، بمعنى أن أنضم إلى هذه الحركات على رغم أنني أحب أن أقضي وقتي في المكتبات أؤلف كتباً كالذي أصدرته للتو".

ويمضي كرزناريك فيقول، "أعتقد أن درس التاريخ الأعظم يمكن إيجازه إيجازاً جميلاً في ما قاله المؤرخ هوارد زن عن إنه لم يعد من الممكن أن نترك مشكلات زماننا الحاسمة لتنضج على نار هادئة من خلال التدرج. إننا نواجه مشكلات طارئة، ودرس التاريخ لنا هو أن الخلخلة تفلح بالفعل".

العنوان: History for Tomorrow: Inspiration from the Past for the Future of Humanity

تأليف: Roman Krznaric

الناشر: WH Allen

اقرأ المزيد

المزيد من كتب