ملخص
قرر البريطانيون عام 1888 احتلال غزة لضمها إلى مصر الخاضعة لسلطتهم ففوجئ جيشهم بمقاومة شرسة خاضت فيها القوات البريطانية ثلاث معارك ضارية
حفر أهالي مدينة غزة الأنفاق تحت مدينتهم كما فعل سكان مدينة صور، لمواجهة حصار الإسكندر المقدوني لهما، وكانت هاتان المدينتان قد استعصتا على جحافل الإسكندر القادمة لاحتلال العالم القديم والأماكن المعمورة فيه. وبات من المعروف تاريخياً أن مدينتي غزة وصور الساحليتين هما الوحيدتان اللتان اضطر الإسكندر إلى حصارهما مدة أربعة أشهر بعدما رفضتا الاستسلام، وقد طال حصارهما قبل أن ينتقم الإسكندر بتدميرهما بعدما جرب كل الطرق لدفع السكان إلى الاستسلام لمشيئته، كما فعل سكان سائر المدن التي مر عليها عام 332 قبل الميلاد. ولم يدخل جيش الإسكندر إلى مدينة غزة المسورة براً والمحمية بحراً، إلا بعدما حفر جنوده أنفاقاً تحت أسوارها للتغلب على الأنفاق التي حفرها سكانها لتعزيز مقاومتهم.
وبعد المد الإسكندروني حاصرها الرومان عاماً كاملاً قبل أن يدخلوها ويخربوها عام 96 قبل الميلاد. وإبان الحكم الإسلامي منذ عام 635، تمردت المدينة على الخليفة معاوية بن أبي سفيان خمس مرات، وقاوم أهل غزة الصليبيين عام 1100 قبل أن يحرقوها ويخربوها عام 1112. وخلال الحملة الفرنسية عام 1798 غزا بونابرت فلسطين وهاجم غزة وأقام فيها، لكنه لم يمكث فيها طويلاً بسبب هزائم جيشه في بر الشام. وكما تجاربها السابقة كانت المدينة عصية على السلطنة العثمانية خلال حملة السلطان الفاتح مع بداية الحكم العثماني عام 1516، ودفع سكانها ثمن مقاومتهم بمجزرة راح ضحيتها الآلاف عام 1831. ويتفق المؤرخون على أن من يخضع غزة يخضع سواها من المدن ومن يستولي على الملك فيها يمكنه الاستيلاء على ساحل وبر الشام.
يصف كاتب مذكرة داخلية في الجيش البريطاني يوم الـ20 من أبريل (نيسان) 1917، وكان حينها الانتدابان الفرنسي والبريطاني على أهبة الاستعداد للسيطرة على مناطق السلطنة العثمانية، بأن سكان جنوب فلسطين من "الخليل حتى أقصى الجنوب، بما فيها غزة، هم الأكثر عدائية للأجانب". وكان البريطانيون عام 1888 قد قرروا احتلال غزة لضمها إلى مصر الخاضعة لسلطتهم، ففوجئ جيشهم بمقاومة شرسة خاضت فيها القوات البريطانية ثلاث معارك ضارية. وفي معركة 1917 خسر الجيش البريطاني ما يقارب 4 آلاف جندي بريطاني وأسترالي وهندي في مقابل نصفهم من الجنود الأتراك وعناصر المقاومة المحلية المؤلفة من سكان غزة. ثم أعاد البريطانيون المحاولة بعد أشهر من تلك المعركة فقتل منهم 6 آلاف جندي وكانت الخنادق التي تُظهر مجموعة من المراسلات البريطانية نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العدد الفصلي لشتاء عام 2024، بينت أن عملية إجلاء عشرات الجرحى من الجيش البريطاني من طريق البحر تطلبت مراسلات عدة مع دول التحالف وتدخلات من البحرية الإسبانية. ثم جاءت معركة الجنرال ألنبي بخطة للالتفاف على المدينة من خاصرتها الضعيفة أي من جهة بئر السبع، شارك فيها جيش مكون من 88 ألف جندي من فرق عدة، وقد استُخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة، بما فيها الغازات السامة. وفي بعض شهادات الضباط البريطانيين يكتب أحدهم "دخلنا غزة في الـ8 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1917 واندحر العثمانيون. وبعد العذابات في صحراء سيناء وقسوة الحر والرمال كان وصولنا إلى حدائق غزة بمثابة الوصول إلى الجنة".
المقاومة بعد وعد بلفور
بعد "وعد بلفور" الذي أعقبه الانتداب البريطاني ظهرت في مدينة غزة ائتلافات الجمعيات المسيحية-الإسلامية بدءاً من 1918. وقد شكلت هذه الجمعيات لجان حراسة على السواحل تمتد من غزة حتى عكا لمنع دخول المهاجرين اليهود القادمين عبر البحر، وكان على رأس هذه اللجان الكشافة الفلسطينية والشبيبة العربية، التي نظمت التحركات السياسية الاحتجاجية والمؤتمرات الفلسطينية، ثم شاركت المدينة في "هبّة البُراق" عام 1929، والتي هوجمت فيها المستعمرات في محاذاة غزة. وما ميز "هبة البراق"، التي اندلعت في الأسبوع الأخير من أغسطس (آب) 1929، عما سبقها من احتجاجات فلسطينية على تهويد القدس، كونها أول اضطراب عام شمل معظم المدن الرئيسة في فلسطين، وامتدت الاحتجاجات إلى عدد من القرى العربية والمستعمرات اليهودية، فاضطرت السلطات البريطانية إلى استخدام طائراتها وسياراتها المصفحة والاستعانة بالوحدات العسكرية المتمركزة في القواعد البريطانية خارج فلسطين لإخمادها. وعام 1942، أعلن رئيس البلدية آنذاك، سعيد الشوَّا، إضرابات احتجاجية ضد سياسات البريطانيين أدت إلى اعتقاله.
بعد صدور قرار التقسيم في الـ29 من نوفمبر 1947 وإعلان وإنهاء "الانتداب" عام 1948، تشكلت في المدينة لجان من السكان رافضة القرار، ضمت ممثلين عن العائلات التقليدية الغزاوية وممثلين عن الأحياء من مخاتير وأعيان. كما برزت مجموعة مسلحة صغيرة في المدينة سُميت "الفرقة المحمدية" في حي الزيتون، وكان عدد عناصرها 400 مسلح بأسلحة خفيفة وبعضها تمت صناعته محلياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع بداية عام 1948 وتكريس دولة إسرائيل التي أعلنت استقلالها بعد طرد عدد كبير من الفلسطينيين من قراهم ومدنهم في ما سمي لاحقاً "النكبة"، وصل هؤلاء المطرودون والهاربون من الفلسطينيين إلى مدينة غزة، وقد زاد عددهم على 200 ألف لاجئ نزحوا من نحو 49 بلدة وقرية في جنوب فلسطين والساحل. وما بين عامي 1947- 1949 احتلت مجموعات إسرائيلية مدينة بئر السبع، وهُجر سكانها في اتجاه الخليل وغزة. وفي نوفمبر 1948، جرى إبعاد سكان بلدتي أسدود والمجدل الواقعتين على حدود قطاع غزة إلى داخل القطاع، مثلما جرى تهجير الآلاف من منطقة النقب في اتجاه القطاع. في خمسينيات القرن الـ20 بدأت مجموعة كبيرة من المهجرين بالعودة تسللاً لاسترداد الأملاك من بلداتها وقراها، مما أدى إلى نشوء ظاهرة العائدين إلى قراهم، التي سمتها السلطات الصهيونية بظاهرة "المتسللين".
يقول المؤرخ هارون هاشم رشيد إن غزة كانت منذ اللحظات الأولى للنزوح الفلسطيني بؤرة لتأجيج الاحتجاج الوطني الفلسطيني، الذي قاده النازحون إليها. وساعدت القبائل البدوية من بئر السبع والنقب هذه المقاومة على الإغارة بالإسناد والمرابطة من أجل العودة إلى قراهم التي طردوا منها.
بعد العدوان الثلاثي عام 1956 واحتلال قطاع غزة بدأت تتشكل صورة المقاومة في القطاع خصوصاً بعد مجزرتي خان يونس ورفح في ذلك العام، وراح ضحيتهما مئات المدنيين الفلسطينيين من أهل غزة ومن اللاجئين إليها.
مع نهاية الستينيات خلال الفترة الناصرية، نظمت زيارات تضامنية إلى المدينة فزارها جواهر لال نهرو وتشي غيفارا وأنديرا غاندي ومالكوم إكس وآخرون. كما قدم إلى غزة عدد من الفنانين العرب وأدباء عالميون مثل سيمون دوبفوار وجان بول سارتر، وكذلك كثير من المناضلين والثوار العرب الجزائريين والمصريين والتونسيين والعراقيين وغيرهم. و"أدت هذه المركزية لغزة وقطاعها دوراً في ولادة سياق اجتماعي وسياسي خصب للمقاومة، وانكشاف الطبقة المتوسطة والنخب المدينية على التجارب الثورية العالمية"، كما جاء في تحقيق مجلة الدراسات الفلسطينية.
الأنفاق وسائط حربية في الأراضي الرملية
بعد احتلال عام 1967 بدأ تشكيل الخلايا السرية في غزة وتنظيم القوات وتدريبها بمشاركة بقايا "جيش التحرير الفلسطيني"، وفي ذلك الحين وقعت عملية "مدرسة حي الزيتون" التي أسفرت عن قتل جنود من القوة الإسرائيلية بلغ عددهم 15 جندياً وتدمير عرباتهم، واغتيال مسؤول الاستخبارات الإسرائيلية في القطاع أبو حاييم وتعليق رأسه في إحدى المزارع، وضرب دوريات الاستعمار ونقاطه العسكرية، وتم زرع الألغام ضد الدبابات الإسرائيلية، ونصبت الكمائن في قرية بيت لاهيا. وبعيد احتلال قطاع غزة في يونيو (حزيران) 1967 قام أرييل شارون، وكان آنذاك قائد المنطقة الجنوبية، بحملة دموية لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة في القطاع، وطرح مشروعاً لنقل 12 ألف لاجئ من مخيمات القطاع إلى محطات لجوء أُخرى في صحراء سيناء.
بعد اتفاق كامب ديفيد عام 1978، قُيدت حرية التنقل لأهالي قطاع غزة باتجاه مصر، كما قُيدت إقامتهم فيها. فتكرست معاناة الغزيين منذ السبعينيات وصارت أكثر قسوة مما عليه الحال في الضفة الغربية وفي بعض التجمعات الفلسطينية الأخرى، فقد منع أبناء قطاع غزة من التنقل والعيش في الضفة الغربية، ومورس القمع المستمر ضدهم على الحواجز الإسرائيلية.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، عاد قطاع غزة إلى الواجهة مرة أُخرى كقاعدة مقاومة، فانتشرت ظاهرة "حرب السكاكين" التي أدى تنظيم "الجهاد الإسلامي" وخلايا انبثقت من حركة "فتح" دوراً رئيساً فيها. وفي تحقيق للباحث الفلسطيني أباهر السقا يقول إن هذه التجربة أطلقت مقولة لدى اليهود: "اذهب لتموت في غزة"، ومهدت لولادة الانتفاضة الفلسطينية الأولى من مخيم جباليا (1987 - 1993)، احتجاجاً على قتل أربعة عمال فلسطينيين من غزة صدمهم مستوطن، وهي الحادثة التي أظهرت ولادة حركة "حماس"، مما أدى إلى تبدلات عميقة في طرق النضال والخطاب السياسي الذي بدأ يأخذ طابعاً دينياً.
تطورت المقاومة في قطاع غزة عبر "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية" وفصائل أُخرى طورت الصواريخ والأسلحة والقذائف والأنفاق ومضادات الدروع، مما أدى إلى تعرض قطاع غزة إلى رد إسرائيلي أكبر.
سلسلة حروب
ففي العقد ونصف العقد الأخيرين شنت تل أبيب حرب 2008-2009 على قطاع غزة راح ضحيتها أكثر من 1400 فلسطيني وتدمير أكثر من 1000 منزل، وتلتها حرب 2012 التي راح ضحيتها أكثر من 180 شخصاً، ثم حرب 2014 التي راح ضحيتها أكثر من 2300 فلسطيني وتدمير مئات البيوت والمنشآت الاقتصادية والبنى التحتية، بعد ذلك جاءت حرب 2019 التي سقط فيها أكثر من 34 شخصاً وعشرات البيوت المهدمة، ثم حرب 2021 التي راح ضحيتها أكثر من 230 شخصاً، وبعدها حرب 2022 راح ضحيتها 45 فلسطينياً. وخلال هذه الحروب استحدثت فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة أدوات جديدة وطورت الأسلحة والصواريخ والمضادات الأرضية والعبوات، وارتفع عدد الاشتباكات مع القوات الإسرائيلية في أحياء الشجاعية.
يسرد الغزيون قصصاً عن تقليد حفر الأنفاق الذي يعود إلى فترات زمنية بعيدة لأن التربة الرملية تساعد على ذلك. كما يسرد السكان قصصاً عن بعض العائلات التي كانت تهرب بضائع وأسلحة فأثرت ثراءً كبيراً من هذه الأنفاق، قبل أن تصبح صناعة الأنفاق ممارسة اعتيادية لسكان المناطق الجنوبية لقطاع غزة في ما بعد من على ضفتي رفح المصرية، كما جاء في تحقيق الباحث الفلسطيني أباهر السقا بعنوان "غزة: التاريخ الاجتماعي تحت الاستعمار البريطاني" صادر عن مؤسسة الدراسات لفلسطينية عام 2018.
وجاء في تحقيق "اندبندنت عربية" بعنوان "حروب الأنفاق تاريخ طويل" نشر في الـ22 من نوفمبر 2023 بأن "تدمير مجمعات الأنفاق الممتدة تحت قطاع غزة كان أحد الأهداف الرئيسة في الحروب البرية السابقة التي خاضها الجيش الإسرائيلي على القطاع بين عامي 2008 و2014. ويشاع أن هناك أكثر من 300 ميل من الأنفاق قالت إسرائيل إنها دمرت 60 ميلاً منها عام 2021 خلال حملة قصف استمرت 11 يوماً.
ويقول رئيس دراسات الحرب الحضرية في معهد الحرب الحديثة للأكاديمية العسكرية في الولايات المتحدة التابعة لوزارتي الجيش والدفاع جوت سبنسر، في تحليله على موقع الأكاديمية العسكرية الأميركية للحروب الحديثة، إن هناك وحدات متخصصة في الجيش الإسرائيلي مثل وحدة "ياهالوم" التابعة لفيلق الهندسة القتالية، وهي وحدة "كوماندوز" من النخبة يتخصص جنودها في العثور على الأنفاق وتطهيرها وتدميرها.
ومن المهم الإشارة إلى سمتين نموذجيتين لأنفاق "حماس"، أولاهما أنها جميعها ضيقة جداً، ويرجع ذلك لحد كبير إلى الجوانب الخرسانية الجاهزة التي تفضلها "حماس" لبنائها، ويبلغ متوسط ارتفاع نفق "حماس" مترين فقط وعرضه متراً واحداً مما يجعل الدخول إليه والتحرك والقتال فيه صعباً للغاية. وثانيتهما أنه بسبب التقدم الذي أحرزته إسرائيل في كشف الأنفاق وتدميرها، فقد حفرت "حماس" أنفاقها بصورة أعمق، عام 2020 عثرت إسرائيل على نفق تابع لـ "حماس" ينحدر بعمق 230 قدماً تحت سطح الأرض، وهو أعمق نفق عُثر عليه حتى تلك النقطة.