ملخص
في حديث يغلب عليه طابع سيرته الذاتية، يتناول رئيس الوزراء البريطاني السابق محطات عائلية طبعت حياته وخياراته
في حوارٍ شخصي صريح على نحو غير متوقّع، كشف رئيس الوزراء البريطاني السابق السير توني بلير عن أن الدافع الذي حفّز طموحه السياسي ورغبته في تولّي السلطة، جاء نتيجة صدمةٍ مبكّرة تمثّلت بإصابة والده بجلطةٍ في الدماغ، ووفاة والدته.
وتأمل بلير في حديثه مع جوردي غريغ رئيس تحرير "اندبندنت"، في طريقة تأثير تلك التجارب المؤلمة عليه، موضحاً أن طموحه للوصول إلى السلطة تولّد مباشرةً بعدها، خصوصاً أنه كان في العاشرة من عمره فقط عندما أصيب والده بالمرض، وفي الثانية والعشرين عندما توفّيت والدته.
ويقول الزعيم السابق لحزب "العمّال" البريطاني في وقت نُشر فيه كتابه الجديد بعنوان "عن القيادة" On Leadership: "بمجرّد أن فهمت تأثير السلطة وما يمكن أن تفعله، انجذبتُ إليها".
وفيما أراد بلير لكتابه أن يكون بمثابة دليلٍ على طريقة استخدام السلطة بشكلٍ فعّال، فقد كشف فيه أيضاً عن نجاحاته وإخفاقاته الشخصية خلال عقدٍ من الزمن أمضاه في مقرّ رئاسة الوزراء في "داونينغ ستريت"، وعلى مدى الأعوام السبعة عشر التي تلت تلك المرحلة، عندما أنشأ "معهد توني بلير" Tony Blair Institute، المؤسّسة التي أصبحت اليوم منظّمةً دولية تضمّ ألف موظّف، وتقدّم المشورة للحكومات في أكثر من 40 دولة. ويؤكّد رئيس الوزراء البريطاني السابق أن "السلطة يجب أن تكون نابعةً من التزام حقيقي بالمعتقدات والمبادئ، لكنها تظل أيضاً مغريةً بطبيعتها. والتحدّي يكمن في السعي وراءها من دون التضحية بتلك المبادئ، مع الاعتراف بأن الرغبة في توجيه الدفة [القيادة] تشتمل استخدام النفوذ كحلقة من حلقات هذا الدور".
ويوضح رئيس الوزراء البريطاني السابق أن دوافعه في مرحلة شبابه حفّزتها رغبةٌ لديه في "تغيير العالم، وترجمة المبادئ إلى أفعال، واكتساب الاحترام والتقدير، والشعور بهذه القوة التي يمكن أن ترسم وجه عالمي [الشخصي] وعالم الآخرين"، على حدّ تعبيره.
وكان وقع وفاة والدته عندما كانت في سنّ الثانية والخمسين، وإصابة والده بسكتة دماغية شديدة في سنّ الأربعين، كبيراً "وعميقاً" على بلير. ويقول في وصف ذلك: "أدركتُ هشاشة كلّ شيءٍ من حولي. فظروف حياتنا تغيّرت بشكلٍ كبير، وفقدنا مصدر دخلنا الرئيسي. واستغرق الأمر ثلاثة أعوام قبل أن يتمكّن والدي من التحدّث مرّةً أخرى. وخلفت هذه الأحداث أثراً بالغاً فيّ ومذذاك يلاحقني طيفها، وهي صنعت [صنعتني] ما أنا عليه".
ويضيف: "أتذكّر أنه عندما جاءت والدتي في ذلك الصباح، شعرتُ على الفور - انطلاقاً من حدس الطفل - بأن هناك شيئاً ما لم يكن على ما يرام. فوالدي كان قد عاد من مناسبة في وقتٍ متأخّر من الليلة السابقة، ثمّ أخبرتني والدتي بأنه في المستشفى وبأنه كان مريضاً وحالته خطرة".
ويقول بلير: "خشينا أن يفارق الحياة، لكنه نجا. في الوقت الراهن صار علاج السكتة الدماغية بطرقٍ مختلفة تماماً وبشكلٍ أفضل بكثير. إن التعرّض لسكتةٍ دماغية في سنّ الأربعين، يُعدّ أمراً صعباً تحديداً. فوالدي كان على وشك الترشّح للفوز بمقعدٍ محسوب على حزب "المحافظين" في شمال شرقي إنجلترا، وكان التواصل بالنسبة إليه أمراً بالغ الأهمية، خصوصاً أنه كان بدأ في العمل في المحاماة. لقد تغيّر مسار حياته رأساً على عقب، وكان عليه أن يتعلّم النطق من جديد، وهي مسألةٌ صعبة للغاية".
ويستذكر السير توني أحد الأيام عندما حضر إلى مدرسته وصلّى مع أحد المعلّمين قائلاً: "لم أمضِ الكثير من الوقت في سبر أغوار خوالج نفسي ومشاعري، لكن مثل تلك الأحداث تجعلك بالتأكيد تدرك أنه إذا كنتَ تريد تحقيق شيءٍ ما في الحياة، فأنت بحاجة لاغتنام اللحظة وبذل الجهد".
هذا المنظور شاركه مع أولاده كما أوضح قائلاً: "كنتُ أنصحهم بأن يكدوا في العمل ويبذلوا كل المساعي للفوز بفرص النجاح [الموازنة بين العمل وبلوغ المآرب الخاصة]. لكن إذا رجحوا كفة حياتهم الخاصة على كفة العمل [ثم عملوا بجدّ في ما بعد]، فمن المرجّح أن يفشلوا. دعَوتُهم إلى إعطاء الأولوية للعمل الجاد. لكنهم بالطبع تجاهلوا نصيحتي، كما هي الحال مع أغلب ما قلته لهم، لكنني ما زلتُ أعتقد أنها كانت في محلها".
ويعطي السير توني أحد الأمثلة على العلاقة الوثيقة بينه وبين أولاده، بإشارته إلى النصيحة الصريحة للغاية التي قدّمها له ابنه يُوان في شأن التحدّث أمام مؤتمرٍ للعملات المشفّرة. ويقول في هذا الإطار: "عندما سألتُه عمّا يمكن أن أتكلّم، اقترح يُوان بشكلٍ مباشر بعدما قدّم لي بعض الملاحظات، مفادها أن ’أخبرهم فقط بأنني مريض، وبأنك غير مستعد للتحدّث في هذا الموضوع".
ويستدرك السير توني بسخرية: "لكنني على أي حال حضرت وخاطبتهم للأسف".
التحدّيات التي واجهها السير توني في هذا الموضوع التقني، عكست وجهة نظره التي تقول بوجود نوعين مختلفين من الذهنيات: الفنّية من جهة، والعلمية من جهةٍ أخرى. ويصنّف رئيس الوزراء السابق نفسه في المعسكر الفنّي، كما أثبت ذلك أداؤه الضعيف بشكلٍ لافت في الجانب العلمي في المدرسة.
ويضيف: "أنا بالتأكيد في الجانب الفنّي. فقد أصيب مدرّس الفيزياء بالذهول من أدائي السيّئ في المادة التي فشلتُ فيها فشلاً ذريعاً. وبينما أبذل جهداً لمطالعة العلوم لتحسين فهمي لها، أعلم أن عقلي يواجه صعوبةً في استيعاب المفاهيم العلمية". ويشكّل ذلك تناقضاً واضحاً مع مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة، التي كانت تفتخر بخلفيتها العلمية.
أحد المواضيع الرئيسية التي يركّز عليها توني بلير في كتابه الجديد هو مفهوم التعلّم أثناء القيادة، الذي يستمد من خلال تجربةٍ "مهينة" حدثت معه في وقتٍ مبكّر مع أعمال عدوانية معادية للمجتمع والجريمة، وهما من القضايا المركزية التي تصدى لها خلال فترة تولّيه مهام منصبه.
ويروي حادثةً حصلت معه عندما كان عائداً في وقتٍ متأخّر من إحدى الليالي من مترو الأنفاق، قائلاً: "كان هناك رجلٌ في الشارع يتبوّل على باب منزل أحد الأشخاص. وعندما واجهتُه، لوّح لي بسكّين مهدّداً، ما حدا بي إلى التراجع. لكن كما تعلم فإنه حتى الجرائم البسيطة كهذه، يمكن أن تولّد لديك شعوراً دائماً بالغضب والمهانة. كنتُ دائماً صارماً ومتشدّداً في مقاربة الجريمة، وأرى من المهم حقّاً أن يكون ضمان سلامة الناس في صدارة مسؤوليّات الحكومات وواجباتها".
زواج رئيس الوزراء السابق من شيري بلير كان من الأمور الثابتة في حياته البالغة، وهو ما وصفه بأنه "قيادة مشتركة" داخل الأسرة. وعندما سُئل عن السبب في عدم وجود إشارات كثيرة إلى النساء في كتابه الجديد، ردّ مازحاً بأن هذه المسألة قد تؤدي إلى بعض التوتر في المنزل. لكنه يقول مدافعاً إن "أكثر من نصف الأشخاص الذين قام بتوظيفهم كانوا من الإناث". ويعرب عن فخره بزيادة عدد أعضاء البرلمان ومجلس الوزراء الإناث خلال فترة ولايته. ويعتبر نفسه محظوظاً لأنه تمتّع بـ "زواج مخلص".
ويتابع: "أنا لا أرغب على الإطلاق في إلقاء محاضرات على الناس بشأن حياتهم الشخصية. أعتبر نفسي محظوظاً بما لدَي، وأعتقد أن مفتاح أي علاقةٍ ناجحة هو احترام الشخص الآخر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإيمان المسيحي لبلير أثار الجدل أحياناً أثناء فترة ولايته رئيساً للوزراء في المملكة المتّحدة، ولا سيما عندما سأله الصحافي جيريمي باكسمان (المقدّم السابق لبرنامج "نيوزنايت" على قناة "بي بي سي 2") عمّا إذا كان قد صلّى مع الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش. وقد قاطع الناطق الصحافي باسمه أليستر كامبل مقابلةً كان يجريها معه أحد المحاورين بقوله: "نحن لا نتطرّق إلى المسائل المرتبطة بالذات الإلهية والدين". وفي حين أن الكتاب الجديد للسير توني يحتوي على نحو اثنتي عشرة إشارةً توراتية، يصرّ على أنها أدرجت "عن طريق الخطأ" وليس عمداً.
ويشير إلى أن "هذا يشكّل مثالاً مثيراً للاهتمام للقيادة، تماماً كالطريقة التي قاد بها موسى الناس إلى أرض الميعاد. فطوال الرحلة، كانت هناك شكاوى مستمرّة من قبيل، ’لماذا أخرجتنا من مصر؟ ربّما كان من الأفضل لنا أن نبقى هناك تحت [نير] العبودية‘".
غالباً ما يتأمّل السير توني بالدعم والتمكين اللذين قدّماه له والداه، واللذين شكّلا فهمه للقيادة الحقيقية والقوّة والطموح. ويرى في هذا الإطار أنه "يجب أن تكون القيادة مرتبطةً بتحقيق هدفٍ ما أو مهمّة، وإلا، فإنك تكون مجرّد شخص يتولّى منصباً، ومجرّد فردٍ موقّت، وليس قائداً. بالنسبة إليّ، كان الأمر واضحاً: تحديث بريطانيا والسعي إلى إحداث تأثيرٍ إيجابي على مستوى العالم. أعتقد أنه يُفترض بأي شخص ألا يخوض غمار السياسة ما لم يكن ملتزماً إحداث تغييرٍ حقيقي".
اليوم، يعمل السير توني بلير في إطار مؤسّسته مع حكوماتٍ ديمقراطية ومع قادةٍ ديكتاتوريّين على حدٍّ سواء. ويعلّل ذلك بالقول إن "المسألة تعتمد على توجيه دفة القيادة قدماً في الاتّجاه الصحيح. وإذا كانت تسير في الاتجاه الخاطئ، فلن أريد أن أكون جزءاً من ذلك. يتعيّن عليها أن تسعى إلى الإصلاحات التي تجعلها أكثر انفتاحاً وفاعلية. أنا على استعداد للعمل معها، حتى لو كانت لديّ خلافاتٌ جوهرية مع نظامها".
وفي معرض مراجعته لفترة تولّيه منصبه، يعتبر السير توني أن مساره كان غير عادي لأن منصبه السياسي الأول والوحيد كان رئيساً للوزراء. ويقول: "يتناول كتابي الدروس التي كنت أتمنّى أن أعرفها في البداية ـ لأنه كان من الممكن أن تجعل عملية التعلّم أسرع بكثير".
في سنّ الحادية والسبعين، ما زال رئيس الوزراء البريطاني السابق يتمتّع بسحرٍ ووضوح، وبكاريزما تميّزه عن معظم السياسيّين، وهي صفات دفعت بجورج أوزبورن - عندما كان وزيراً للخزانة - إلى إطلاق لقب "السيّد" The Master عليه. لكن على رغم ذلك، فإنه يقرّ بأهمية الانتقاد وحماية إرث الفرد، كما يعكس ذلك عنوان اثنين من فصول كتابه الأخيرة "كيف تتعامل مع النقد" How to Handle Criticism و"حماية إرثك" Protect Your Legacy، معتبراً أنه يجب على جميع القادة السابقين القيام بالأمرين معاً بشكل فعّال. ويتبنّى موقفاً صارماً بشكلٍ خاص من الذين يوجّهون انتقادات لاذعة، وينصح بالتعامل مع مثل هؤلاء كما لو كانوا أشخاصاً يعانون من اضطراباتٍ نفسية، مع تقبّل حقيقة أنه لا مفر منهم [التعامل معهم]. وعند قبول هذا الواقع يمكن التوصل إلى سبيل يحول دون تحديده من تكون [أي من دون أسر المرء في قالب نمطي]"، على حدّ تعبيره.
أخيراً، وبينما ينأى السير توني بلير بنفسه عن مشكلات الماضي والتجارب السلبية، فإنه يأمل في أن ينظر التاريخ إليه بعين الرضا. وفي ما يتّصل بالندم، فهو يفضّل الاحتفاظ به لنفسه قائلاً: "لطالما اعتقدتُ أن هذا أمر يجب أن أتركه لنفسي، وأن على الآخرين أن يكتشفوه".
© The Independent