ملخص
"الوضع كارثي" هكذا يصف منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة عمران ريزا المرحلة التي يمر بها لبنان، وتسود مخاوف من استمرار الحرب لفترة طويلة، وعدم توافر مصادر كافية للتمويل، واحتمالية خضوع البلاد لحصار شامل.
على أبواب الشتاء تسابق الجهود الإغاثية الوقت درءاً لوقوع لبنان في المحظور، وليس من قبيل المبالغة الحديث عن "جوع داخل مراكز الإيواء" يطرق أبواب الهاربين من موت محتوم، وقلق متزايد لناحية استبعاد العودة القريبة إلى الديار بفعل التدمير الممنهج للتجمعات السكنية والمدن الكبرى.
أمام هذا الواقع المأسوي تستمر المحاولات المبذولة من قبل منظمات الأمم المتحدة والجمعيات الأهلية، إضافة إلى المساعدات العينية التي تقدمها الدول العربية والصديقة للبنان في محاولة لتخفيف وطأة "أكبر أزمة نزوح قسري في تاريخ لبنان"، فيما تزداد مخاوف "السقوط" بفعل عدم تأمين الموارد المالية الكافية لمواجهة حرب طويلة الأجل.
الأمم المتحدة تحذر
في مكتبه داخل مبنى الأسكوا وسط بيروت، ينكب المنسق المقيم للأمم المتحدة في لبنان عمران ريزا، منسق الشؤون الإنسانية وفريقه، على تنظيم بذل جهد منسق للعمل الإغاثي في لبنان ترعاه الأمم المتحدة، وفي لقاء خاص بـ"اندبندنت عربية" وصف ريزا الأزمة التي يتعرض لها لبنان حالياً بـ"الكارثية"، معتبراً إياها "إحدى أسوأ الكوارث التي شهدها اللبنانيون منذ جيل"، وأشار إلى أن "الأزمة بدأت في الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ومعها بدأ نزوح المواطنين، لكنها تدهورت بصورة دراماتيكية منذ ثلاثة أسابيع، وتحديداً منذ الـ23 من سبتمبر (أيلول) الماضي"، مشيراً إلى أنه "في بداية الحرب كنا نتحدث عن 110 آلاف نازح، أما اليوم فارتفع الرقم إلى أكثر من 800 ألف نازح في الداخل، و400 ألف شخص تقريباً عبروا الحدود، لذا يمكن الحديث عن أكثر من مليون شخص تأثروا مباشرة بسبب هذا الصراع".
لا يخفي ريزا وجود بعض أوجه الشبه بين ما يجري في لبنان، وتجربة المدنيين في قطاع غزة، منطلقاً من شهادات النازحين الخائفين، وقال "عندما نتحدث مع الناس الذين تأثروا والمدنيين الذين تركوا منازلهم وقراهم، وعدد منهم نزح أكثر من مرة بهدف البحث عن الأمان، حيث يذكرهم الدمار تماماً بما يحصل في غزة خلال العام الذي مر".
مأزق التمويل
يواجه العمل الإغاثي في لبنان "أزمة تمويل" مما يؤثر بصورة أكيدة في تقديم المساعدة الإنسانية وتحديد الأولويات، على مستوى الأفراد أو المؤسسات الذين يعانون بسبب الأزمة المالية والاقتصادية المحلية والعالمية، وأقر عمران ريزا بعدم وجود تمويل كافٍ، مشدداً على "ضرورة وضع الأولويات، والتأكد من الوصول إلى من هم بحاجة قصوى أولاً".
وتحدث عن وجود "فريق إنساني منتشر على مستوى البلاد، وتنسيق على المستويين الرسمي وغير الرسمي، وعلى مستوى الحكومة والأمم المتحدة، والجمعيات غير الحكومية"، مشدداً على أهمية "العمل معاً" ومناقشة الأولويات وآلية تحديدها ووضع الإستراتيجيات المشتركة، كما يؤكد على أن "بعض التمويل يأتي من خلال الحكومة، والبعض الآخر يأتي عبر المجتمع الدولي للأمم المتحدة والبعض من شركائنا"، متمسكاً بمبادئ الحوكمة على مستوى الشفافية والمساءلة والرقابة، "لأنه كانت هناك بالطبع مخاوف سابقة في هذا الإطار، كما علينا التأكد من وجود الأنظمة المناسبة التي يُعمل وفقها، والتي تتضمن من أين يأتي التمويل؟ كيف تتم خصخصته؟ ولمن يذهب؟".
وقارن ريزا بين حرب 2006 والحرب الحالية، إذ برز "إسهام فعّال من الشركاء المحليين"، والمنظمات غير الحكومية "التي يُعتمد عليها كثيراً منذ أن اشتدت المعارك والقصف في الجنوب قرب الخط الأزرق"، مشدداً على أنه "خلال الحرب السابقة لم تكن هناك جمعيات إنسانية، أو منظمات غير حكومية تهتم بالأمور الإغاثية في لبنان، وكذلك لم تكن كل وكالات الأمم المتحدة موجودة، وفعلياً بات الفريق الإنساني في لبنان أكبر منذ الأزمة السورية التي تأثر فيها لبنان منذ عام 2012".
ضمانات لعدم استهداف العمل الإغاثي
خلال سبتمبر الماضي تعرضت الفرق الصحية والقوافل الطبية للقصف في مختلف المحافظات اللبنانية، وفي هذا السياق يفرض السؤال عن الضمانات نفسه على طاولة البحث.
وفي هذا السياق، ندد ريزا باستهداف القوافل الإنسانية وسيارات الإسعاف والدفاع المدني، بما يخالف القانون الدولي الإنساني، مشيراً إلى "رفع المسألة إلى كل الأطراف المعنية بهذا الصراع والأطراف الدوليين المؤثرين"، و"التأكيد على الوصول الآمن إلى مناطق النزاع، بهدف حماية العاملين في المجال الإنساني والسكان المدنيين والعاملين على الخطوط الأمامية والصحافيين في خضم الحرب".
كما تطرق ريزا إلى معاناة الفئات الهشة مثل الأطفال والنساء وذوي الإعاقة، و"مَن هم أكثر ضعفاً خلال الأزمات، وأكثر عرضةً للخطر في حالات النزوح القسري، وفي مراكز الإيواء الجماعية"، مشدداً على الآثار السلبية المباشرة لهذه الحرب في الأطفال، الذين تأثر تعليم 1.2 مليون منهم بهذه الحرب، إذ تحولت 60 في المئة من المدارس الرسمية إلى مراكز إيواء. وتتم متابعة الموضوع مع وزارة التعليم في لبنان والشركاء الآخرين المعنيين بملف التعليم لضمان عدم خسارة العام الدراسي الحالي".
أما بالنسبة إلى الأشخاص من ذوي الإعاقة، "هناك جهود للتأكد من أنهم غير متروكين في هذه الأزمة من خلال برامج الأمم المتحدة"، حسب ريزا الذي تحدث عن "العمل باستمرار لتأمين إمدادات خاصة بهم، على مستوى المساعدات المتعلقة بالغذاء أو الإيواء والحماية الأمنية، وكل ما يتعلق بالذين لديهم احتياجات خاصة".
اللاجئون السوريون وأطر الحماية
أما في ما يتعلق بالسوريين الذين غادروا لبنان خلال الأسابيع القليلة الماضية فقال ريزا "عبر 400 ألف شخص الحدود نحو سوريا، ما بين 70 و80 في المئة منهم سوريون والبقية لبنانيون"، متطرقاً إلى متابعة الوكالات الأممية في سوريا هذا الملف عن كثب، وبالتحديد مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة التي توجد بقوة في سوريا"، وزاد "يحاول العاملون في المفوضية أن يوجدوا بصورة أساسية على المعابر الأربعة بين لبنان وسوريا، ليقيّموا الوضع بصورة أولية، ثم يساعدوا الناس في الداخل السوري، وكذلك هناك مساعٍ في وكالات الأمم المتحدة المختلفة لحشد الدعم والموارد لدعم هؤلاء السوريين في بلدهم الذي يعاني أساساً أزمة اقتصادية حادة تدفع أعداداً كبيرة إلى البحث عن الهجرة"، من هذا المنطلق لفت ريزا إلى "الحاجة إلى تعزيز الدعم لمساعدة السوريين هناك وبخاصة حتى تكون عودتهم مستدامة، وكذلك الأمر مساعدة اللبنانيين هناك الذين نزحوا إلى سوريا أخيراً، ناهيك عن بعض اللبنانيين الذين غادروا إلى العراق أو الأردن، وإلى تركيا أو قبرص".
ماذا عن المستقبل؟
من جهة أخرى ذكر ريزا أن "الهدف الأساس الذي نسعى إليه جميعاً هو وقف إطلاق النار، عبر حل سياسي ودبلوماسي مستدام، لأنه لا يوجد حل عسكري أو حل إنساني، بل الحل يجب أن يكون سياسياً"، مستدركاً "لكننا نحضّر أنفسنا وإمكاناتنا لاحتمالية التصعيد"، وأوضح "نحن الآن نسعى إلى ضمان وجود تمويل لثلاثة أشهر من أجل توفير المساعدات العاجلة والطارئة، وفي الواقع ستكون لدينا حاجات كبيرة، وهائلة بخاصة لناحية إعادة الإعمار بعد الحرب وعودة الناس إلى مناطقهم وإعادة تأسيس حياتهم من البداية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما في ما يتعلق بإمكانية فرض الحصار التام على لبنان، فأجاب ريزا أنه "لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل في هذا الشأن، ولكن نأمل أن نكون قادرين على إيصال المساعدات الطارئة باستمرار، وتنقل الأشخاص بين الداخل والخارج، كما نأمل أن تقوم الدول المعنية والمجتمع الدولي باستخدام نفوذهم على كافة الأطراف المعنية في هذه الحرب لضمان مواصلة وكالات الأمم المتحدة عملها، ومساعدة الناس وعدم معاقبة المدنيين في كل ما يحصل".
جهود أهلية مستمرة
وشهدت الحرب الحالية بروز جهود أهلية لمساعدة الهاربين من الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب والبقاع وبيروت، ورصدت "اندبندنت عربية" إسهامات المبادرات غير الحكومية في تخفيف وطأة المعاناة ضمن مراكز الإيواء في مناطق الشمال لا سيما طرابلس، والضنية وعكار والكورة والعاصمة بيروت، فيما تستمر معاناة القاطنين في قرى الجنوب، حيث يشكو الصامدون ضمن مدينة صور من تراجع عدد البقالات والمتاجر التي تفتح أبوابها، ويؤكد أحدهم أن "شعار المرحلة عسكري وهو جهز نفسك"، فيما يعتبر أن "عدم التنظيم سمة المرحلة"، إذ لا تشمل مساعدات اتحاد بلديات المنطقة جميع المقيمين، فيما تركز الجمعيات الأهلية على فتح الطرقات وإعادة ربط التيار الكهربائي ورفع الأنقاض.
ويشكل شمال لبنان منطقة آمنة للنازحين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، فاستقبلت بلدة بخعون في قضاء الضنية عشرات العائلات اللبنانية، وصرح الناشط ساري شاكر أنه "عند بدء أزمة النزوح، بدأ أبناء البلدة استقبال الهاربين ضمن بيوتهم الخاوية، ولكن مع بلوغ مرحلة الإشباع انتقلنا إلى تجهيز مراكز إيواء ضمن مبنى المدرسة المهنية وأحد الفنادق، إذ يقدر عدد الضيوف بـ 2100 مواطن أي حوالى 300 عائلة"، مشيراً إلى بدء التجهيز من خلال تبرعات أبناء البلدة المقيمين والمغتربين، إذ قُدمت فرش ومخدات وحرامات وتأمنت مياه ساخنة، وجرى ترميم الأماكن قبل الحصول على مساعدات من طريق الهيئة العليا للإغاثة، ووجبات طعام من قبل منظمتي كاريتاس والصليب الأحمر اللبناني، ومعدات نظافة وبعض الأدوية من قبل وكالات أممية، ولفت شاكر إلى "ظلم يلحق بالقاطنين ضمن شقق ومنازل، إذ يتركز الدعم على المقيمين ضمن مراكز إيواء"، مطالباً بمزيد من الدعم الحكومي لأنه "لا يمكن إلزام الأفراد بتقديم تبرعات مستمرة".
أما في عكار (شمال) فأنشأت "دارة طرابلس الخيرية" مركز إيواء في منطقة الجومة، لاستقبال 86 أسرة مؤلفة من 450 شخصاً، تؤمن لهم الإقامة وخدمات المطبخ والفرش وآليات التنظيف والتعقيم، وتشير منسقة الدارة لارا رفاعي، إلى تقديم الدعم لمطابخ في منطقتي الكرنتينا، ورأس النبع ببيروت، كما قدمت الحفاضات والحليب والدواء بالتنسيق مع الدفاع المدني لتوزيعها على مراكز الإيواء في الشمال كاشفة عن إطلاق "مبادرة الدعم النفسي" لتخفيف وطأة الحرب على الهاربين من منازلهم والأطفال بمشاركة 15 معالجاً نفسياً.
وأمام توسع دائرة النزوح وعمليات التدمير الممنهج من النبطية إلى صور وبعلبك، تطالب رفاعي بالتحرك السريع وتقديم يد العون والدعم العيني للمبادرات الإغاثية والإنسانية، مؤكدة أن "الجمعيات تحاول سد الفراغ الذي تتركه الدولة، ونتخوف من توجه الأوضاع نحو الأسوأ وبلوغ مرحلة عدم القدرة على مواجهتها".
من جهته يشير الناشط إبراهيم درباس إلى انطلاق مبادرة "أهالي المدينة" التي بدأت ببضعة أفراد وصولاً إلى 500 متطوع على الأرض لمساعدة الأهالي والربط بين المتبرع والضيف، إذ تجهّز الفرق مراكز الإيواء في الكورة والميناء (شمال لبنان) والحفاظ على نظافتها وتأمين اللوازم المختلفة للأهالي في أربعة مراكز، وفريق الدعم النفسي وتنظيم الأنشطة الترفيهية والتعليمية للأطفال وتوزيع الملابس، وصولاً إلى "الاحتفال بالمواليد الجدد وتأمين الضيافة".
يتكرر هذا الطابع التعاوني مع مجموعة كبيرة من المبادرات على غرار ما تبذله مجموعة من الشبان تحت تسمية "لبنان نبض واحد"، ويلفت الناشط مالك حموضة إلى أن الحملة انطلقت عبر مواقع التواصل وتفاعل معها عدد كبير من المتابعين، الذين حولوا مبالغ مالية، ومن ثم اشترى فريق العمل المواد الأساسية والملابس والفرش والأغطية، ووزعها على حصص متنوعة ستصل إلى 60 عائلة نازحة تقطن في منازل.