ملخص
على الصين أن تنتبه إلى عدم الاكتفاء بخطاب تحريضي ضد الغرب في أفريقيا، خصوصاً مع حالة التنافس العالمي على الموارد، لكن ربما يكون من المطلوب بإلحاح تطوير نموذج تعاوني صيني - أفريقي يأخذ في الاعتبار استقرار الدول الأفريقية على أسس الحكم الرشيد
شكّلت نتائج النسخة التاسعة من مؤتمر العلاقات الصينية - الأفريقية (الفوكاك) دعماً كبيراً لاتجاهات بكين الاستراتيجية لخلق علاقات عضوية بالقارة الأفريقية، أو كما وصفها الرئيس الصيني شي ارتقت هذه العلاقات إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية، أي مجتمع المصير المشترك في العصر الجديد طبقاً لمنطوق شي.
وبالتأكيد هذا المنظور المهم يحتاج إلى رصد الحالة الراهنة للعلاقات الصينية- الأفريقية، كذلك يتطلب استكشاف مستوى التحديث والتطور في المصالح الاستراتيجية الصينية في أفريقيا. وأخيراً يكون من المهم التعرف إلى الموقف الأفريقي من الصين على المستويين الرسمي وغير الرسمي، بما يعني اكتشاف حالة الوعي الأفريقي بالمصالح الصينية، ومدى خضوعه لنقاش عام أفريقي، بما يسهم أن تكون هذه العلاقات المصيرية كما وصفها الرئيس الصيني بعيدة من المفهوم الاستعماري بنسختيه الصلبة، أي الاستعمار العسكري المباشر، والناعمة أي استغلال الموارد الطبيعية عبر آليات الشركات العابرة للجنسية.
الاستثمار الصيني في أفريقيا
بشأن حالة التفاعلات الراهنة بين الصين وأفريقيا يمكن رصد عدد من المؤشرات، منها أن نمو حجم التبادل التجاري الذي شهد توسعاً في حجم ونوعية التجارة، فوفقاً لمؤشر التجارة الصيني - الأفريقي الذي صدر للمرة الأولى في عام 2023، ارتفعت قيمة واردات وصادرات الصين من وإلى أفريقيا من أقل من 100 مليار يوان (نحو 14 مليار دولار أميركي) في عام 2000 إلى 1.88 تريليون يوان (نحو 263 مليار دولار أميركي) في عام 2022، بزيادة تراكمية نحو 20 مرة.
أما في عام 2023 فقد بلغ حجم التجارة بين الصين وأفريقيا 282.1 مليار دولار أميركي بزيادة سنوية قدرها 1.5 في المئة، كما زادت واردات الصين 130 في المئة و32 في المئة و14 في المئة و7 في المئة على التوالي على أساس سنوي، فيما ارتفعت الصادرات الصينية من السيارات الكهربائية وبطاريات الليثيوم والمنتجات الكهروضوئية إلى القارة السمراء 291 في المئة و109 في المئة و57 في المئة على التوالي على أساس سنوي.
في هذا السياق تمتعت منتجات 27 دولة أفريقية الأقل نمواً بالإعفاء من التعريفات الجمركية المفروضة على دخول البضائع للصين. وبشكل موازٍ وقعت بكين اتفاقات ثنائية لتعزيز وحماية الاستثمار مع 34 دولة أفريقية، وكذلك اتفاقات لتجنب الازدواج الضريبي مع 21 دولة أفريقية.
وإلى جانب القطاع التجاري هناك المجال الاستثماري، إذ وصل حجم الاستثمار الصيني في أفريقيا إلى40 مليار دولار، ملبية في قطاع منه حاجات المجتمعات المحلية الأكثر فقراً، منها 47 مشروعاً في إطار "مشروع الحد من الفقر والمنفعة الزراعية"، ودرّبت بكين ما يقارب 9000 موهبة زراعية، وشجّعت أكثر من 300 تكنولوجيا متقدمة وقابلة للتطبيق، مما استفاد منه أكثر من مليون مزارع صغير في أفريقيا، كما أدت التكنولوجيا الصينية إلى زيادة دخل الآلاف من السكان المحليين.
وقد عزز الرز الهجين الصيني إنتاج الرز في عديد من البلدان الأفريقية من متوسط 2 طن للهكتار الواحد إلى 7.5 طن، وسمحت "القناة الخضراء" التي أنشأتها الصين لتصدير المنتجات الزراعية الأفريقية إلى الصين لعدد كبير من المنتجات الزراعية الأفريقية العالية الجودة بدخول السوق الصينية. وفي إطار مشروع "100 مؤسسة، 1000 قرية"، إذ نفذت الشركات الصينية في أفريقيا 320 مشروعاً للمسؤولية الاجتماعية، استفاد منها أكثر من 10 آلاف قرية ومجتمع.
استعمار رقمي
وطبقاً للمؤشرات السالفة الذكر يكون من الواضح أن آليات التعاون الصيني مع القارة الأفريقية هي آليات مغايرة لتلك التي تنتهجها الإدارات الغربية، خصوصاً الأميركية، إذ إن حجم الاستثمارات الصينية والتبادل التجاري هو مضاعف بما لا يقارن بنظيره الأميركي، كما أن الاهتمام ببلورة شراكات بالفئات الضعيفة يغاير المناهج الأميركية في التركيز على طبقات رجال الأعمال. أما النتائج المباشرة لنسخة مؤتمر الفوكاك التاسعة فهي 50 مليار دولار من جانب الصين لأفريقيا بعضها قروض وبعضها استثمارات وقسمها الأخير هو مساعدات، وربما يكون الأهم من هذا الرقم الضخم هو استهداف خلق الوظائف للأفارقة بمقدار مليون فرصة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والسؤال المطروح هنا ما مستهدفات الاستراتيجية الصينية في خلق المصير المشترك بين بكين وأفريقيا؟ ربما يكون غنياً عن البيان أن الصين كانت فاعلاً في كتلة عدم الانحياز، التي تبلورت عام 1955 في مؤتمر باندونغ، وهي الكتلة التي عاشت تحت مظلة صراع قطبي عالمي بين موسكو وواشنطن، واستطاعت فيه دول الجنوب الحفاظ النسبي على مصالحها، خصوصاً في أميركا اللاتينية وأفريقيا. وطبقاً لهذا المسار فإن كتلة الشرق، أي الصين وروسيا، قد خلقا الآليات الموازية للآليات الغربية، بما يساوي التخلص من الهيمنة الغربية نحو عالم متعدد الأقطاب، وقد يكون التجلّي الأساس لهذا الاتجاه هو تجمع البريكس.
وبطبيعة الحال فإن الانعكاس الإيجابي المباشر على الاقتصاد الصيني في هذه المرحلة سيكون دفعة جديدة وضخمة للأمام، فكما أسهم البترول الأفريقي مصدراً للطاقة منذ التسعينيات مدخلاً من مدخلات ارتفاع مستوى النمو الاقتصادي الصيني لمستويات قياسية، فإن كنز البيانات الأفريقية للأفراد هو كنز الصين الجديد في ضوء العجز التصنيعي الأفريقي، وكذلك ضعف القدرات التكنولوجية للدول الأفريقية.
وفي هذا السياق لدى الصين برنامج DSR الذي هو مبادرة سياسية صينية أطلقت في عام 2015، تعكس الجانب الآخر لمبادرة الحزام والطريق الصينية عبر مشروعات رقمية تتضمن استثمارات للصين في عدد من الدول بالاعتماد على مشروعات الشبكات والألياف الضوئية والمدن الذكية ودعم التكنولوجيا الرقمية، إذ يعتبر طريق الحرير الرقمي جزءاً من ركائز السياسة الخارجية الصينية للدول الواقعة على طول مبادرة الحزام والطريق في تحقيق قدرة تنافسية في عدة مجالات كجزء من دعم مشروعات الحزام والطريق.
وفي هذا السياق تقوم شركة هواوي الصينية بدور رئيس في الدول الأفريقية في بناء مشروعات شبكات الإنترنت والهاتف المحمول، بخاصة شبكات الجيل الخامس، وذلك مع نمو سوق الهواتف النقالة، خصوصاً في بلدان الصحراء الأفريقية بنسبة 47 في المئة، كما تستهدف بكين بناء 700 مركز بيانات في الدول الأفريقية، في ما يمكن أن يطلق عليه استعماراً رقمياً.
وطبقاً للمعطيات السابقة فقد دشنت الصين وجنوب أفريقيا بصورة مشتركة أول شبكة تجارية مستقلة لشبكات الجيل الخامس في أفريقيا، وفي عام 2021 افتتحت الصين مركزاً للابتكار في مدينة جوهانسبورغ بهدف نقل المعرفة والمهارات الرقمية، وهو الأمر الذي سيترتب عليه الحصول على ثروات البيانات المحركة للأسواق حالياً.
هل تتبادل المنافع؟
على المستوى الأفريقي ربما يكون التساؤل المشروع هو في شأن مدى انتباه بكين لفكرة أن تكون المنافع الأفريقية، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي هي منافع متبادلة وعادلة، أي على أسس المناصفة لا النهب الاستعماري، وعلى ذلك من المهم انتباه بكين إلى عدم الاكتفاء بخطاب تحريضي ضد الغرب في أفريقيا، خصوصاً مع حالة التنافس العالمي على الموارد، لكن ربما يكون من المطلوب بإلحاح تطوير نموذج تعاوني صيني- أفريقي يأخذ في الاعتبار استقرار الدول الأفريقية على أسس الحكم الرشيد تحت أي عنوان مطلوب التفكير فيه مقابل عناوين الديمقراطية الغربية التي لم تكن إلا واجهة للاستغلال، وفقدت صدقيتها في أكثر من محك أفريقي.
وما نعنيه هنا هو إمكانية تداول دوري للسلطة على نحو سلمي بآليات مناسبة لحالة الانقسام الاجتماعي الأفريقي، وكذلك إمكانية فاعلية للمكون المدني في أنظمة الحكم مقابل المكون العسكري الذي يبدو مؤثراً لحد كبير في أفريقيا، فضلاً عن ضرورات التنمية الاقتصادية المتوازنة التي تتيح فرصة لتطبيق العدالة الاجتماعية باعتبارها شرطاً ضرورياً لاستقرار المجتمعات، وقد يكون مطلوباً أيضاً تقييم مدى التزام الشركات الصينية بالشفافية والابتعاد من الممارسات الفاسدة لرشى النخب الحاكمة وضمان ولائها لبكين.
وإذا كانت الصين راهناً تبدو غير مهتمة ربما بهذه السياقات المشار إليها سالفاً فإن التفكير فيها والاهتمام بها تقع مسؤوليته على النخب الأفريقية غير الرسمية والمستقلة، من حيث التفكير، وإنتاج معادلات تطوير التعاون الصيني- الأفريقي ليتضمن الدفع نحو آليات الحكم الرشيد في أفريقيا، الذي نعتبره شرطاً لازماً لاستقرار العلاقات الصينية- الأفريقية نحو بلورة المصير ليس المشترك فقط، لكن العادل أيضاً للأفارقة كشعوب.