Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطبيعة تدين البشر: السلالة الأشد ضراوة عالميا

يسرد كتاب "العيش على الأرض" ضرورات واجبة على الإنسان في حقبة تحوله قوة جيولوجية لا مفر منها

سميث وقف سميث كثيراً أمام القطيعة القائمة بين الإنسان والأرض في الوقت الراهن (مواقع التواصل)

في مقالة للساحر الكولومبي الراحل غابرييل غارثيا ماركيز، قال في الريف قولاً لعله أذكى ما قرأت وأبعثه على الحزن أيضاً، إذ قال إن الريف هو "ذلك المكان الرهيب الذي تمشي فيه الدجاجات نيئة".

دعكم من الذكاء لأنني أحسبه غنياً عن الإيضاح، خلافاً للحزن الذي قد يلزمه تبرير، وتبريره أن ماركيز يكشف عن جيل من بني آدم لا يقابل الدجاجة إلا طعاماً نيئاً أو مطبوخاً، فإن رآها تتحرك بكامل ريشها ونصيبها من الحياة لا يراها إلا طعاماً ونيئاً أيضاً، لا طائراً حياً.

ترد المقولة في مقالة بديعة ترجمها صالح علماني في كتاب عنوانه الانتهازي هو "كيف تكتب رواية؟" على رغم أن أكثر مقالاته تتناول اهتمامات ماركيز الواسعة، والمقالة التي تمثل عبارة ماركيز عنوانها تتناول تجربة أجرتها بعض المدارس بهدف غمر التلاميذ في حياة الريف وصلاً لما انقطع بينهم وبين الطبيعة والريف، وما يسميه ماركيز بـ "همجية التخلف الجميلة والمحزنة".

هذه القطيعة بين الإنسان الراهن والطبيعة هي موضوع كتاب صدر حديثاً عن "فارر شتراوس أند غيرو" للكاتب وأستاذ فلسفة العلوم بجامعة سيدني الأسترالية بيتر غودفري سميث بعنوان "العيش على الأرض: الغابات والشعاب المرجانية والوعي وصنع العالم".

بين فصول السنة

يكتب جوشوا روذمان عن الكتاب في صحيفة "ذا نيويوركر" التي نشرته في الثالث من سبتمبر (أيلول) الجاري، فيخصص قرابة ثلث مقالته الطويلة لحياته هو على مقربة من خليج في جزيرة لونغ آيلاند يسبح فيه على مدار العام، ففي الشتاء يكون الماء متجمداً لكنه يستطيع السباحة في نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) "حين يكون الماء شفافاً، وتكون السباحة في الأيام الهادئة أشبه بالخوض في زجاج سائل، فتكون الصخور والأصداف واضحة تماماً في القاع، وفي الصمت يبدو وكأنما لا شيء يعيش في الماء". وفي الربيع يمكنه أن يسبح إلى مسافات أبعد، وسواء كان الماء عكراً أم صافياً فلا يقطع صوت الأمواج إلا طنين الحشرات، وتدور أسراب السمك الوليد من حوله وتنمو الأعشاب البحرية حادة، فيجد في جسمه خدوشاً حينما يخرج من الماء.

وخلال الصيف يمتلئ الماء بالحياة فثمة على سطحه "غشاء حيوي أنشأته كائنات مجهرية وأسماك ضخمة وطيور تصطادها وأسماك تقفز في الهواء لتصطاد بدورها الحشرات، وأخيراً يأتي يوم تكون فيه السباحة غير مريحة، وعادة في أواخر أغسطس (آب) حينما يبلغ النشاط الحيوي المحموم ذروته وتكثر الحركة ويكثر ما يقضم كتفي وظهري، وأدرك في هذه اللحظة أنني اكتفيت".

 

 

ويمضي جوشوا فيقول "في الخريف والشتاء يبدو وكأنني مصدر الحياة الوحيد في الماء، ثم تكون السباحة في الربيع وأوائل الصيف أمراً طبيعياً، وعندما تأتي نهاية السباحة يكون ذلك لأنني تخلفت عن الركب، ولقد انقلبت على الحياة وعزلت نفسي عن الطبيعة، وأتساءل ما الذي يكشف عنه عني كوني لا أسبح إلى أن يموت الخليج؟".

لعل ما يكشف عنه ذلك عن جوشوا أنه وإنسان هذا الزمان لم يعودا يطمئنان كثيراً للاقتراب من الدجاج في حاله غير المقلية، وأن الانزعاج الذي ينأى بنا عن الطبيعة فور أن تدب فيها الحياة قد يكون شبيهاً بما يشعر به مجرم عائد لمسرح جريمته، أو مثل ما يشعر به ابن عاق ترغمه الأيام على الرجوع لمسقط رأسه بعد طول جحود.

وفي معرض تساؤله عن علاقة الإنسان بالطبيعة يتساءل غودفري سميث عن موقع البشر من الحياة نفسها، وعلى رغم قول العلماء كثيراً إن تاريخ الحياة على الأرض لو قورن بعام واحد فإن وجود سلالتنا فيه يماثل الدقائق الـ 30 الأخيرة في هذا العام، يكتب غودفري سميث أننا "لو بقينا متشبثين بسلالتنا فقط فنحن على مقربة من النهاية ونسارع بالخروج قبل أن نكمل ارتداء ثيابنا، أما لو افترضنا أننا جزء من الحياة ككل فالأرض عمرها 4 مليارات سنة، والحياة موجودة منذ 3.7 مليار سنة، في حين أن عمر الكون 14 مليار سنة، وهذا يعني أننا هنا منذ قرابة ربع المدة، فلسنا من وجهة النظر هذه بطلبة الصف الأول ولكننا طلبة مخضرمون".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويكتب جوشوا روذمان أن كثيراً يفصلنا عن الحياة التي وجدت قبل ملايين السنين، فنحن نمشي ونعوم ونثرثر ونولم ونخطط وننهب ونغير بيئتنا تغييرات جذرية وكارثية في بعض الأحيان، ولكن حتى من هذه الأوجه يذهب غودفري سميث إلى أن المشتركات كبيرة بيننا وبين غيرنا من الكائنات الحية، فبعض نسخ الأفعال التي تميز حياتنا يمكن أن نجدها حتى في الكائنات وحيدة الخلية، إذ إن بوسع أنواع كثيرة من البكتيريا أن تعوم متتبعة مسارات الموارد الكيماوية المرغوبة، ويمكنها "إرسال الإشارات إلى بعضها بعضاً، ولو كيماوياً وليس بحركة جسدية"، وبعضها قادر حتى على أداء مآثر هندسية، فالبكتيريا الزرقاء مثلاً تنتج ببطء هياكل ضخمة تشبه القباب تسمى "ستروماتوليت" كمنتج ثانوي لعملية التمثيل الغذائي الخاصة بها، ويمكن أن يصل ارتفاع القبة المصنوعة من الرمل أو المعادن إلى خمسة أمتار".

وتأخذ بيكا روثفيلد على غودفري سميث في استعراضها لكتابه في صحيفة "غارديان" الذي نشرته في الـ16 من أغسطس الماضي كثرة الاستطرادات الجميلة التي ترجعها لافتتانه بالطبيعة وفضوله الجارف، وكلاهما في نظرها "نعمة أكيدة ونقمة أيضاً"، أما النعمة فتكمن في أن "عدوى ابتهاجه بالعالم الطبيعي" تنتقل بسهولة إلى القارئ فيظل مأخوذاً بما يفيض به الكتاب من أمور جديدة عليه ومثيرة للاهتمام، من قبيل أن بعض السرطانات البحرية تحمل شقائق النعمان في مخالبها لتستعملها استعمال الأسلحة الدفاعية، فتبدو أشبه بفتيات التشجيع في مباريات كرة السلة الأميركية، أو أن بعض الطيور تحاكي أصوات سلالات أخرى من الطيور فينطلي تقليدها أحياناً حتى على من تحاكيهم، وهنا تأتي النقمة "لأنه يسهل أن يتيه القارئ في الاستطرادات" التي تعترف روثفيلد بأنها لا تفضي إلى الملل، "بل إنها في الواقع آسرة حد أنها تستحق كتباً مستقلة، لكنها تحجب عن القارئ الخط المركزي للكتاب"، فماذا يكون بالضبط الخط المركزي للكتاب؟ لتكتب روثفيلد أن التفاصيل الثانوية المغرية تطغى أحياناً على الرؤية الأساس المغرية للكتاب التي تتعلق تحديداً بأن "تاريخ الحياة ليس محض سلسلة من مخلوقات جديدة تظهر على المسرح، لأن الوافدين الجدد يغيرون المسرح نفسه".

واجبات أخلاقية فريدة

يقدم الكتاب "الكائنات الحية بوصفها أسباباً للتطور لا محض نتاج له" بمعنى أن الكتاب يتعامل معنا نحن وغيرنا من الكائنات الحية، ابتداء بالشعاب المرجانية ووصولاً إلى الطيور "لا بوصفنا نتائج سلبية لبيئاتنا بل بوصفنا مهندسين نشطين لعالمنا".

"يبدأ غودفري سميث بتذكيرنا بأننا ندين بكوكب الأرض مثلما نعرفه لإحسان البكتيريا الزرقاء التي أطلقت الأوكسجين في الغلاف الجوي قبل قرابة 3 مليارات سنة، ففي أول الأمر كان مستوى الأوكسجين الذي أطلقته تلك الكائنات المجهرية أدنى من أن يدعم حياة معقدة، ولكن الزيادات المتقطعة تواصلت إلى أن بلغنا البيئة الكيماوية التي تسمح بوجود حياة كحياتنا نحن ذوي العضلات والأدمغة".

 

 

غيرت الكائنات الكثيرة التي ازدهرت في تلك الوفرة الأوكسجينية من أفق كوكب الأرض على كل نحو ممكن، فالأنهار على سبيل المثال تعتمد على الحياة النباتية، حيث إن "الأشجار وغيرها من النباتات، وبخاصة ذات الأنظمة الجذرية، تثبت ضفاف المجرى المائي وتدعمها فتخلق مسارات محددة، لأن المياه التي تجري في أراض بلا حياة وفيرة تنزع إلى تنتشر على هيئة صفائح وضفائر عديمة الانتظام، ومع ظهور حيوانات أكثر تطوراً حدثت تغيرات أكثر دراماتيكية، وكانت أول الحيوانات نشوءاً هي الكائنات البحرية، لكن مع ترسخ الحياة البرية شيئاً فشيئاً وقع انفجار يطلق عليه علماء البيولوجيا 'بناء الموطن' ويعنون به التغيير الذي يدخله الكائن الحي على بيئته ويسميه غودفري سميث الهندسة، وفي حين أن المهندسين البحريين نادرون نسبياً فمهندسو البيئة البريون كثر ويمضي بنا كتاب 'العيش على الأرض' في جولة سريعة لأمثلتهم الأشد غرابة، ومن بينهم الطيور التي تبني أعشاشاً محكمة وملونة لتجذب الأليف".

وفي نهاية المطاف، بحسب ما يكتب غودفري سميث، يظهر من المهندسين من يغيرون البيئة عمداً، فقد "ظهر أولئك المهندسون قبل قرابة 300 ألف عام وكان لهم دور في تطوير بنيانهم المادي نفسه، فعلى مدار الأجيال شحذوا شكل أيديهم باتخاذهم الآلات وبدلوا من تصميم أمعائهم بطهوهم الطعام، وسيبتكر أولئك المهندسون أيضاً ما لم يكن له نظير سابق وهو الثقافة التي يعرفها غودفري سميث بتأسيس وتطوير سبل سلوك تنتقل من جيل إلى جيل، وتنتقل عرضياً عبر الجيل الواحد، لا من خلال الجينات وإنما من خلال المراقبة والمحاكاة والتعلم والقيادة، وأحياناً من خلال التعليم المقصود".

"وفي نهاية المطاف يصبح أولئك المهندسون هم المسيطرون، فيضبطون أجسام الكائنات الأخرى ويعدلونها ويبدلونها تبديلاً، فيعملون على تربية حيوانات مروضة حتى تتجاوز كتلتها الحيوية الكتلة الحيوية لجميع الثدييات والطيور البرية مجتمعة، ويعرّضون جميع الكائنات التي جاءوا بها إلى الوجود لعذاب لا يطاق، فيحبسونها في أقفاص صغيرة ويرغمونها على التناسل مراراً، ويملأون العالم بالملوثات فيدمرون النظم البيئية الدقيقة التي تعتمد عليها أشكال الحياة الأخرى، ولا يعفون أنفسهم من ذلك فهم في سعيهم إلى مزيد من الرفاهية ابتكروا من التكنولوجيا ما رفع درجات حرارة الغلاف الجوي بشكل غير مسبوق، وما هؤلاء المهندسون بالطبع إلا نحن، السلالة الأشد ضراوة في العالم".

ويفرض هذا على المهندسين الأقوياء واجبات أخلاقية فريدة، والقسم الأخير من "العيش على الأرض" يركز على الضرورات الواجبة علينا في عصر الـ "أنثروبوسين"، أي حقبة تحول البشر إلى قوة جيولوجية لا مهرب منها، وفي هذا القسم يطرح غودفري سميث نقاطاً مقنعة حول أهوال التربية الحيوانية التصنيعية والتدمير المستمر للبيئات الطبيعية للكائنات، ولكن هذه المواضيع بحسب ما تكتب روثفيلد "أكبر من أن تعتصر في كذا و60 صفحة".

الانتخاب الطبيعي

يكتب فيليب بول في استعراضه للكتاب المنشور في "غارديان" في الـ 10 من أغسطس الماضي، أن "تشارلز دارون عندما انطلق في رحلته التأسيسية على متن السفينة بيغل عام 1831 لم يكن دوره الأساس دور عالم طبيعية بقدر ما كان دور عالم جيولوجيا، ووضع نظريته القائلة بالتطور من خلال الانتخاب الطبيعي مستعيناً بعين حساسة لتفاعلات الكائنات الحية مع العالم الجيولوجي، مدركاً أن الحياة على الأرض قد تغير البيئة التي تشكلها".

وفي كتاب "الحياة على الأرض" يتناول الفيلسوف بيتر غودفري سميث هذه القيمة فيركز على "كائنات تغير البيئة مثلما لا يغيرها سواها، وهذه الكائنات هي نحن، فمن خلال درسه للعقول والثقافات والأخلاقيات أو انعدامها في التعامل تجاه بقية السلالات، يسعى غودفري سميث إلى دمجنا في ما أطلق عليه داروين 'النظام الكبير الواحد' ويبحث عن رؤية للكيفية التي يمكن بها أن ننسج مجتمعات متزايدة النزعة إلى التكنولوجيا في تلك السلسلة الوجودية العظيمة، أي أنه يسعى إلى أن نكون جزءاً من العالم الذي تكون فيه الدجاجة طائراً، فلا نخفي حقيقتها عن أعيننا عامدين عبر طبقات متراكبة ومعقدة من الأقنعة التي من المدهش فعلاً أنها تنطلي علينا، فنصدق أنها الحقيقة الوحيدة لهذا الكائن.

 

 

ويؤكد فيليب بول أن غودفري سميث "يطرح كتابه هذا باعتباره خاتمة لثلاثية بدأت بكتابه 'عقول أخرى' الذي ركز على الأخطبوط، واستمرت في كتابه 'عديدات الخلايا' الذي بحث تطور التعقيد الإدراكي والتجارب الذاتية لدى الحيوانات، وشأن كثير من علماء الأحياء يؤمن الكاتب أن "التجربة الواعية أو المحسوسة منتشرة بين الحيوانات"، ولذلك فهو من المناصرين الحماسيين لحقوق الحيوانات، وتركيزه على ما تفعله الحيوانات في بيئاتها يرتبط في الغالب بأسئلة عن العقل والوكالة، فلسنا وفقاً لهذه الرؤية آلات أو مطايا للجينات، لكننا تدفعنا أهداف وأغراض مستقلة".

ومن الثيمات الثابتة في كتب غودفري سميث الثلاثة أن العقول والأهداف تتشكل وتتأثر بالظروف التي تعيش فيها، وأن الأفعال تنبع من وجهات نظر، من زاوية معينة لدى الحيوان تجاه الأشياء، وخير سبيل لفهم السلوك لا يكون بوصفه استجابة لحافز خارجي، وإنما يكون بمحاولة النفاذ إلى عقل الحيوان، وهذا موقف ينسبه غودفري سميث إلى عالم البيولوجيا الألماني الإستوني جاكوب فون أوكسكول الذي صاغ نظرية للبيئة باعتبارها كل ما يتسنى للكائن الحي الوصول إليه من خلال الإدراك والفعل، أو هي ما يمكننا القول إنه مجموع ما يجده الكائن الحي ذا معنى، مضيفاً أن "الغائب عن الصورة هو الآخرون، فما من كائن يتحرك في فقاعة إدراكية معزولة، ولكنه يوجد في علاقاته بكائنات أخرى".

لكن كيف ندرك وجودنا في ضوء ذلك؟ وكيف نضع نصب أعيننا طوال الوقت أننا جزء من شبكة لا تضم أمثالنا وحدنا، وإخواننا في سلالتنا الضيقة المغلقة علينا؟ وكيف نؤمن أننا لسنا المهندسين الوحيدين لعالمنا؟ يكتب فيليب بول أن "غودفري سميث كرس كثيراً من الجهد للتنقيب عن الأصول والتماثلات المشتركة بين السلالات"، وأن له تأملات كثيرة في أخلاقيات التفاعل بين الإنسان والطبيعة، وله آراء شديدة الجموح في هذا الصدد لا تصل إلى الترحيب بانقراض البشر من أجل مصلحة الكوكب، لكنها لا تبتعد كثيراً من ذلك.

ويصر في النهاية مثلما يكتب فيليب بول على "التماهي مع الطبيعة بدلاً من الوقوف خارجها وقوف الأوصياء"، ويصر على "الامتنان والشعور بالقرابة" مع العملية التي جلبت جنسنا البشري إلى العالم.

العنوان:  Living on Earth: Forests, Corals, Consciousness, and the Making of the World

تأليف: Peter Godfrey-Smith

الناشر:  Farrar, Straus & Giroux

اقرأ المزيد

المزيد من كتب