ملخص
عُرف حي الزمالك الذي يتشكل من جزيرة نيلية منذ بداية القرن الـ20 بأنه أرقى أحياء القاهرة، تقطنه النخبة من الفنانين والمبدعين والأثرياء، وهو مقر عدد كبير من السفارات، مما حوَّله إلى حي كوزموبوليتي يضم جاليات وأطيافاً مختلفة، بخاصة من رعايا الدول الغربية. وتقع سفارة دولة يوغوسلافيا قبل تقسيمها في هذا الحي ومن ثم عاش فيه رعايا من صربيا. ومن هنا يأتي اهتمام كاتبين صربيين بالزمالك ضمن عملين صدرا أخيراً عن دار "العربي" في القاهرة. الأول "شاي في الزمالك" لبوريس ميليكوفيتش ترجمته هدى فضل عن الإنجليزية، والثاني "الزمالك" لديان تياغو ستانكوفيتش ترجمة جهاد صلاح، من دون ذكر عن أي لغة تُرجم.
يوصف الكتاب الأول "شاي في الزمالك" لبوريس ميليكوفيتش في أعلى الغلاف بأنه "الكتاب الحاصل على جائزة إيسيدورا سيكوليتش في الآداب عام 2002"، وفي أسفله يوصف بأنه "خواطر مترجمة"، وفي الغلاف الداخلي يوصف بأنه "رواية". أما الكتاب الثاني "الزمالك" لديان تياغو ستانكوفيتش، فجاء على غلافه الخارجي باسم "الزمالك" فقط، وفي الغلاف الداخلي أضيف العنوان الفرعي الآتي "قصة عن القسمة والنصيب، رواية من صربيا".
يتشارك الكتابان في رصد مجموعة من سمات ثقافة المجتمع المصري، وجاءت نظرة الكاتبين إلى هذه الثقافة بعين غربية لم تتعمق في معرفة الطبقات الثقافية المتعددة لهذا المجتمع، خصوصاً في رواية ستانكوفيتش الذي بدت أعراض الصدمة الحضارية واضحة على عمله الذي يتجاوز 300 صفحة من القطع المتوسط. الأخطاء الفجّة التي وقع فيها المؤلف حول الثقافة المصرية، دفعت الناشر، على ما يبدو إلى الإشارة أن "كل ما ورد في هذا الكتاب يعبر عن آراء الكاتب فقط ووجهة نظره كمستشرق حتى مع وجود بعض المعلومات غير الدقيقة، وقد خلصنا إلى أنه من المهم دائماً تقديم وجهة نظر الآخر لنعرف أكثر" (ص5).
صورة سلبية
ترسم هذه الرواية صورة لمصر على أنها مجتمع صحراوي يغطيه الغبار من كل جانب، وتزعم أنه لولا أحذية المارة في الشوارع لردم الغبار القاهرة. ويتصور المؤلف أن الشريعة الإسلامية تحتم دفن الميت في يوم موته، لذا تقوم الشرطة بدفن من تجدهم موتى في اليوم نفسه من دون التعرف إلى هويتهم امتثالاً للشريعة!.
ويرى أن اسم القاهرة "يعني باللغة العربية القاهر، أو على نحو أدق المرأة القاهرة، نظراً إلى تأنيث لفظ مدينة في اللغة العربية. وهذا الأمر لم يقُل به أحد من مؤرخي مصر حول تسمية القاهرة بهذا الاسم أو علاقته بالمرأة، ويُرجح حول سبب التسمية أنه عندما جاء الخليفة الفاطمي المعز لدين الله إلى مصر أطلق على مدينته الجديدة وعاصمة ملكه عام 362هـ اسم القاهرة تبركاً بالكوكب القاهر المعروف باسم كوكب المريخ الذي ظهر في سماء المدينة عندما دخلها.
ومن دلائل عدم الدقة قول الكاتب "تشتد حرارة القاهرة نهاراً حد الغليان، وفي الليل يسودها الظلام، كما تمتلئ جميع طرقها، سواء الممهَّدة أو الترابية، بالحفر والشقوق... محال الجزارة تحلق حولها أسراب من الذباب... فيها شبكات منظمة من المتسولين الجائلين... يجلس الرجال على المقاعد في الظل، وتختبئ النساء في المنازل، وتتلصص عيون تفوق الحصر من خلف مصاريع النوافذ...، تعتاد في القاهرة حبيبات الرمال الناعمة التي تستقر على أسنانك، والغبار في عينك، وأشعة الشمس الحارقة" (ص17 و18 و19).
روح استعمارية
تتعالى الرواية على الثقافة المصرية بروح استعمارية، فتعبر البطلة عن يأسها من إصلاح المجتمع ونقله إلى مصاف الدول المتقدمة، فتختار الانزواء وسط مجتمعات الأوروبيين... "اخترتُ الابتعاد من واقع المصريين، اضطررتُ إلى ذلك لأني لم أستطِع تحمل مشكلاتهم، أو ضرورة مساعدتهم أو تقديم بعض النصائح لهم على أقل تقدير، تلك النصائح التي لا يحتاجون إليها بل لا يرغبون في سماعها" (ص96). وتقدم الرواية صورة لنساء محبوسات في البيوت، يجبرن على الزواج وعلى قبول تعدد الزوجات. أما الشوارع، فتفتقر إلى شبكات صرف مياه الأمطار، مع العلم أن الأحداث تدور في حقبة زمنية حديثة، وليس في عصر المماليك مثلاً. يتشارك العملان في رصد ظاهرة أن المصريين يشربون الخمر سراً، فيقول ميليكوفتيش صاحب رواية "شاي في الزمالك" إن المصريين لا يريحهم أن يعرفوا بأنهم عرب وليس مصريين، لذا فهم يقومون بالشرب سراً في أحد البيوت المثيرة للريبة. يشربون العرَق والنبيذ أو خمر "الأوزو" اليوناني، "وكأن هناك خيطاً يمتد من زمن بطليموس وحتى القرن الـ21" (ص16).
مرح المصريين
هذه الصدمة الحضارية تبدو أقل حضوراً في خواطر ميليكوفيتس الذي بدا متوائماً مع هذا العالم، ليس معنياً برسم صورة سلبية أو إيجابية عن الزمالك بقدر ما هو مهموم برواية قصته في صورة ومضات وسرد غير متصل يركز فيه على حياته في مصر ومع الجاليات الأجنبية التي يتعامل معها، مع نقل بعض الحكايات عن أصدقائه المصريين، ومغامراته الغرامية في الحي. يسلط الضوء بصورة غير مباشرة على سمات المصريين مثل أنهم "غالباً ما يضحكون، ونحن نظن أنهم يضحكون بسبب ومن دون سبب" (ص9). وهي ظاهرة التقطها كثير من المؤرخين والرحالة، فمما يؤثر عن الشاعر الإغريقي ثيوكريتوس الذي عاش في الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد قوله "إنهم شعب ماكر، لاذع القول روحه مرحة". ونُقِل عن أحد المؤرخين قوله إن "أهل مصر يميلون إلى الفرح والمرح والخفة والغفلة عن العواقب"، وإن "أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب"، فيما وصفهم المقريزي بقوله إن من أخلاق أهل مصر "الإعراض عن النظر في العواقب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصف ميليكوفيتش العواصف الترابية في مصر المعروفة برياح الخماسين بقوله "وعاصفة من عواصف الخماسين تضرب البلد". لكن لا توجد فيها الحدة الموجودة في وصف ستانكوفيتش مؤلف رواية "الزمالك" الذي يضع عدسة مكبرة على العادات السلبية في مصر أو سوء الطقس في بعض أشهر السنة. فيقول في فقرة من عشرات الفقرات التي تتكرر عن الطبيعة الصحراوية والبدوية لمصر "بغض النظر عن الجهة التي تهب منها الرياح، تمتلئ القاهرة بالرياح الصحراوية المحملة بغبار كثيف، ينعكس على أسلوب حياة، يظل مقززاً، لهذا يرتدي البدو الأوشحة طوال الصيف والشتاء" (ص35).
الانبهار بالماضي
على عكس القاهرة، تظهر الإسكندرية في العملين بصورة إيجابية جداً، ليس بوصفها مدينة مصرية، وإنما مدينة بناها الإسكندر الأكبر على البحر المتوسط، فهي تنتمي إلى الغرب أكثر من انتمائها إلى الشرق. يحكي ستانكوفيتش عن كيف كانت الإسكندرية ذات يوم مدينة عالمية تستطيع سماع جميع لغات العالم في مينائها، مدينة تنهمر فيها الأمطار بغزارة. وهي الصورة ذاتها التي ينقلها ميليكوفيتس متحسراً على الإسكندرية الكوزموبوليتانية، قائلاً "اندثر سكان الإسكندرية المخلطين، ولم يبقَ سوى المصريين الصرف" (ص15). ويستشهد العملان بقصائد لقسطنطين كفافيس اليوناني الذي ولد وعاش ومات في الإسكندرية والذي يظهر في أعماله بوضوح الانجذاب إلى الإسكندرية الإغريقية، كجزء من الإمبراطورية اليونانية القديمة.
يشترك العملان كذلك في الولع بالآثار المصرية. فبطلة رواية ستانكوفيتش تعمل في محل "أنتيكات" يعمل صاحبه اليوغوسلافي في تهريب الآثار. تقول إن "علماء الآثار أينما يحفروا يعثرون على مقابر ومومياوات وحيوانات محنطة وحلي وتمائم وأغراض الحياة اليومية والاحتفالات الشعائرية" (ص22). كذلك تعمل الرواية بصورة ما على الفصل بين المصريين المعاصرين، والمصريين القدماء الذين تتناول إبداعهم بانبهار، مع رسم صورة سلبية للمصريين المعاصرين بوصفهم أبناء مجتمع غارق في التخلف والجهل. ويعكس كتاب "شاي في الزمالك" الانبهار نفسه، بخاصة في منطقة سقارة التي يقضي بطلها على مقربة منها أوقات راحته باعتبارها تضم إحدى عواصم مصر القديمة التي يرى أن حضارتها مستمرة من خلال الأقلية القبطية في مصر الحديثة!.
ومن الأمور اللافتة التي أشار إليها العملان انتشار أغاني أم كلثوم في الشوارع وفي المقاهي بوصفها أسطورة لن تتكرر، وعقد مقارنة بين حي إمبابة الفقير وحي الزمالك الأرستقراطي، والولع بما يخص الملوك والرؤساء المصريين، سواء بالتقاط صور معهم أو الأكل بمعالق كانت موجودة ذات يوم في قصور أسرة محمد علي.