Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قبل أن تنقرض الأرض

كتاب حديث الصدور يحذرنا من أنه في غضون عقود قليلة سوف تنهار الحياة ما لم نعد التفكير في علاقتنا بما تحت أقدامنا

التحدي الذي يواجهنا لا يقتصر ببساطة على إصلاح تربة الأرض، وإنما إعادة إحيائها قبل أن تضيع إلى الأبد (أ ف ب)

ملخص

نحن مدينون لهذه الأرض بكثير من السمات المميزة للحياة، منها غلافها الجوي الذي يسمح بالتنفس وسماؤها الزرقاء والتنوع المعدني وكيمياء المحيطات... فماذا فعلنا بها؟

نبهنا الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري يوماً إلى ضرورة أن نخفف الوطء لأن التراب الذي تطؤه أقدامنا هو بعض أجساد أسلافنا، ودعتنا إلى مثل ذلك ناسكة الشعر الأميركي إيميلي ديكنسن حين قالت إن تراب الأرض ليس إلا "أميرات وأمراء" راحلين. لكن الشاعرين العظيمين لم يحذرانا من أن قسوة خطانا قد لا تلقى من الأرض يوماً إلا الرد المستحق، صلابة بصلابة وقسوة بقسوة، ولم ينبهانا إلى يوم ربما لا نجد فيه التراب تحت أقدامنا.

لكن التحذير يأتينا الآن من غير هذين الشاعرين، إذ يحذرنا كتاب حديث الصدور من أنه في غضون عقود قليلة للغاية سوف تنهار الحياة الأرضية، ما لم نُعِد التفكير في علاقتنا بما تحت أقدامنا. ويأتي التحذير في كتاب للصحافي العلمي فيريس جبر صدر في قرابة 300 صفحة بعنوان "تكوّن الأرض: كيف جاء كوكبنا إلى الحياة".

داخل قشرة الأرض

جاء في مقدمة حوار إذاعة أميركا الوطنية مع الكاتب، أن تأمل فيريس جبر لكوكب الأرض بوصفه كوكباً حياً، وليس فقط مستضيفاً للحياة، حدث قبل قرابة 10 أعوام "عندما علم أن غابات الأمازون المطيرة لا تتلقى فقط الأمطار التي تمثل جزءاً من اسمها، بل تساعد في توليد تلك الأمطار من خلال إطلاقها قصاصات بيولوجية في الغلاف الجوي تكون بمثابة نثر بذور للسحب. فبدأ جبر البحث في سبل أخرى تعمل من خلالها الحياة على تغيير بيئتها، مما أثمر في النهاية كتابه الجديد".

كتب بيل كابوسير في "فنتازي ليتريتشر" أن كتاب جبر عمل ممتاز من أعمال الصحافة العلمية تناول موضوعاً شائعاً إلى حد ما في العلم الموجه للقارئ العام وهو تاريخ كوكبنا، "لكن ما يتناوله من منظور فريد نسبياً هو أن الكائنات الحية تمثل ’قوة جيولوجية هائلة‘ شكلت الكوكب حتى صار كما نعرفه الآن، وتشكلت به في الآن ذاته".

"يقسم جبر الكتاب إلى ثلاثة أقسام هي الصخر والماء والهواء ليماثل مجالات كوكب الأرض الأساسية، أي الغلاف الصخري والغلاف المائي والغلاف الجوي، بحسب ترتيب الوفرة النسبية لهذه العناصر. وينتقل كل قسم من طرق تأثير الميكروبات في عنصر معين من عناصر الأرض إلى طرق تأثيرها في أشكال الحياة الأكبر من قبيل النباتات والحيوانات، وأخيراً كيف قمنا نحن البشر بتغيير كوكب الأرض أيضاً (وليس إلى الأفضل في الغالب)".

 

 

في فصل من كتابه يتناول تفصيلياً كيفية تأثير الميكروبات في تكوين الأرض، ويكتب جبر عن "بوابة في منتصف أميركا الشمالية إلى أعماق باطن الأرض الصخري"، وليست تلك البوابة إلا منجم ذهب عملاقاً تحول عام 2006 إلى أكبر مختبر تحت الأرض في الولايات المتحدة، وهو منشأة "سانفورد" للأبحاث دون الأرضية.

يكتب جبر أنه مع كل زيارة يقوم بها العلماء إلى أعماق الأرض عبر تلك البوابة "يصادفون ميكروبات غامضة لم تنجح زراعتها قط في مختبر، فضلاً عن أنواع لم تتم تسميتها بعد"، ويردف أن جهود أولئك العلماء المتخصصين في علم جديد يسمى علم الميكروبات الجيولوجي [geomicrobiology] "أظهرت أن باطن الأرض، خلافاً للافتراضات المستقرة منذ أمد بعيد، ليس قاحلاً، بل إن معظم ميكروبات الأرض، أو ما قد يصل إلى 90 في المئة منها، تعيش في أعماق الأرض. وتختلف هذه الميكروبات دون الأرضية اختلافاً بيّناً عن مثيلاتها على سطح الكوكب. فهي عتيقة وبطيئة وتتكاثر على فترات متباعدة، ولعلها تعيش لملايين السنين، وتكتسب الطاقة غالباً بطرق غير عادية، فتتنفس الصخور بدلاً من الأوكسجين، وتبدو قادرة على تحمل الكوارث الجيولوجية التي قد تفني معظم المخلوقات".

و"الميكروبات الفريدة الموجودة داخل قشرة الأرض، شأن كثير من الكائنات الحية الدقيقة في المحيط والغلاف الجوي، لا تسكن محيطها فحسب، بل إنها تعمل أيضاً على تحويله. فهي تنحت كهوفاً شاسعة وتركز المعادن والمعادن الثمينة وتنظم الدورة العالمية للكربون والمغذيات. بل لعلها تساعد في بناء القارات ووضع الأساس لكل أشكال الحياة الأرضية الأخرى".

التربة ككائن حي

ولو أن هذا الجزء من الكتاب يثبت أن باطن الأرض حي وخالق للحياة، فإن مقالة أحدث لجبر ["نيويورك تايمز"، الأحد الماضي] تقدم ما يشبه تجربة عملية مباشرة لاختبار أطروحة أساسية في كتابه. يكتب جبر، "حينما اشتريت أنا وشريكي بيتنا في بورتلاند بولاية أوريغون قبل أربعة أعوام، بدأنا على الفور بتصميم حديقة أحلامنا، عازمين على أن نستبدل بالمرج العشبي المهجور أحواضاً واسعة من النباتات المعمرة المورقة التي تزهر لفترات طويلة. وسرعان ما تبين أن التربة عنيدة ثقيلة مليئة بالحصى. كنت في السابق، مع حدائق أصغر حجماً، أتغلب على تلك المصاعب ببضعة أكياس من التربة عالية الجودة آتي بها من أحد المشاتل. أما استبدال تلك الكمية الكبيرة من التراب فلم يكُن أمراً عملياً أو ممكناً مالياً. لذلك قررت بدلاً من ذلك أن أصلح ما لدينا".

ويضيف أن ما تعلمه من نجاحه في إصلاح تلك التربة المريضة المجدبة تجاوز كثيراً إجادة مهارة زراعية، "فقد غيّر ذلك تماماً من الطريقة التي أفكر بها في التربة، بل في الكوكب بأكمله. فالآن لا أرى التربة محض وسيط للحياة، وإنما أراها كياناً حياً في ذاته"، ولكنه للأسف كيان حي ماضٍ "بسرعة إلى الانقراض".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكتب بيل كابوسير أن من أقدم اعتقادات الإنسانية الاعتقاد بأن العالم الذي نعيش فيه عالم حي، "وعلى رغم أنه (أي ذلك الاعتقاد) تعرض أحياناً لسخرية بعض العلماء، فإن فكرة أن كوكب الأرض كله عبارة عن نظام حي مترابط اكتسبت قبولاً في العقود الأخيرة. فنحن وجميع الأشياء الحية أكثر من محض سكان للأرض، إنما نحن الأرض، نحن نتاج لبنيتها ومحرك لتطورها. فقد تطورت الحياة وبيئتها على مدى مليارات السنين فحولتا كتلة صخرية دائرة في الفلك إلى واحة كونية، كوكب يتنفس وينظم مناخه. وما يكشف عنه كتاب فيريس جبر هو رؤية جديدة جذرياً لكوكب الأرض، إذ تنفث غاباته الخصبة الماء واللقاح والبكتيريا لاستجلاب المطر، وتهندس الحيوانات العملاقة الآفاق التي تهيم فيها، وتمضغ الميكروبات الصخور لتشكل القارات، وتعيد العوالق المجهرية التي يتسم بعضها بمثل بريق الجواهر المصقولة الهواء والبحر، ويمثل البشر النموذج الأكثر تطرفاً للحياة التي تغير الأرض".

يكتب جبر أن "الزراعة الكثيفة والرعي الجائر وإزالة الغابات تعمل في بعض أجزاء العالم على تدمير التربة بسرعة تتجاوز ألف مرة سرعة معدل التآكل الطبيعي. وفي حال استمرار هذا المعدل، فإن 90 في المئة من مناطق الأرض الصالحة للسكن سوف تتدهور تدهوراً كبيراً بحلول عام 2050، فتنخفض جراء ذلك عائدات المحاصيل بمتوسط 10 في المئة لتصل إلى 50 في المئة ببعض المناطق. ويرجح أن يرغم ذلك ملايين البشر على الهجرة. ومن المحتمل أن يصل تآكل التربة إلى الذروة بانهيار الحياة الأرضية المركبة ما لم نُعِد التفكير في علاقتنا بالعالم الذي تطؤه أقدامنا".

حين يختفي الرمل

قبل أسابيع قليلة كتبت سارة تسودولا مقالة في "نيويورك تايمز" تطرح رؤية لا تقل دستوبية عن مستقبل سطح الأرض، لكن في حين ينبهنا جبر إلى التراب الخصب الذي نوشك أن نقضي عليه، تنذرنا هي بأننا عما قريب لن نرى في غالبية شواطئ العالم ما درجنا على رؤيته فيها لآلاف السنين، سيختفي الرمل.

ترصد الكاتبة، وهي مؤلفة كتاب "الملاذ الأخير: وقائع الجنة والريح والخطر في الشواطئ"، عوامل عدة لظاهرة فقدان الشواطئ رمالها، والجهود التي تبذلها المدن المختلفة لتزويد شواطئها بالرمال، وترصد النسبة المئوية للخسائر والنسب اللازمة للتعويض والكلف الباهظة والعوائد المحتملة، وتخلص إلى نتيجة بسيطة هي أنه "لا يمكن أن نتنبأ لأي شاطئ معين بالسلوك الذي سيسلكه لو ترك وشأنه. لكن، لو أننا تنحينا جانباً فستستمر الشواطئ". وإذاً، تلخص الكاتبة المشكلة وحلها في كلمة واحدة، نحن.

يؤكد جبر بدوره أن تكوّن التربة، شأن تكوّن الرمل، هو نتيجة عصور من التطور الكوكبي، أي مليارات السنين من عمل العناصر على تآكل الصخور وأكثر من 425 مليون سنة من التفاعلات القائمة داخل الحياة المعقدة، إذ إن بوصة واحدة من التربة السطحية الخصبة تحتاج إلى مئات السنين لكي تتكون.

ويردف أن "الميكروبات والفطريات والنباتات والحيوانات تقوم بتكوين التربة والحفاظ عليها عبر عمليات لا حصر لها، عن طريق تفتيت الصخور بالجذور والأحماض التي يتم إفرازها، ثم تقوم هذه الكائنات باستعمال بقاياها ومنتجاتها الثانوية في تخصيب الصخور المفتتة، ومن خلال تدويرها للهواء والماء والعناصر الغذائية عبر تحركاتها بالزحف والسعي والحفر".

 

 

"وعلى رغم أن العلم لم يصل بعد إلى إجماع على تعريف الحياة، فإن الكتب المرجعية تبرز معايير تُعدّ على نطاق واسع الفاصل بين الحي وغير الحي. وتتحقق في التربة كثير من هذه المعايير، فهي ذات بنية عالية التنظيم وهي تنمو وهي تتنفس ويمكن أيضاً أن تموت. وجميع أشكال الحياة هي عبارة عن أنظمة من المكونات الحية وغير الحية المترابطة في ما بينها. وتأملوا شجرة على سبيل المثال، وهي في الغالب تتألف من خشب ميت مخلوط بشرائح من أنسجة حية. وبهذا الاعتبار لا نرى التربة مختلفة. ثم إن التربة تظهر ما يتفق كثير من الخبراء على أنه الخصيصة الجوهرية من خصائص الحياة، أي القدرة على المحافظة على الذات بفاعلية. فالتربة تحافظ على بقائها على قيد الحياة. بل إن الجمعية الأميركية لعلوم التربة ووزارة الزراعة الأميركية تصنفان التربة باعتبارها حية".

"يعيد الاعتراف بالتربة بوصفها شكلاً من أشكال الحياة تأطير فهمنا لنظام آخر مترابط ومنظم ذاتياً هو كوكب الأرض. ونحن مدينون لهذا الكوكب بكثير من السمات المميزة للحياة، ومن بينها غلافها الجوي الذي يسمح بالتنفس وسماؤها الزرقاء والتنوع المعدني وكيمياء المحيطات وحرائق الغابات. بمرور الزمن شكلت الأرض والحياة، شأن التربة والكائنات التي تحافظ عليها، نظاماً تطورياً واحداً دام لمليارات السنين. فالأرض الحية من تحت أقدامنا تعكس صورة كوكبنا الأكبر الحي".

"وإذاً فإن التحدي الذي يواجهنا لا يقتصر ببساطة على إصلاح تربة الأرض، وإنما يتمثل في إعادة إحيائها قبل أن تضيع إلى الأبد. لا بد للزراعة الحديثة من أن تحترم التربة وتقدر إعجازها وتقدر أيضاً أنها كيان ضعيف. وبوسع مبدأين جوهريين أن يكونا هاديين في هذا التحول، تقليل إزعاج الأرض والتأكيد على تنوعها الحيوي. ويقتضي هذا عملياً تقليلاً كبيراً للحرث ومناوبة بين المحاصيل وإعطاء الأولوية للمدخلات العضوية على الأسمدة المركبة والدمج بين المحاصيل والأشجار والماشية وحماية التربة من التآكل عن طريق المحاصيل وغيرها من العوامل".

حجر يأكل الضوء

في حديقة بيته ذات التربة المجدبة، عمل جبر على تطبيق هذه الطرق، "ففي المناطق التي لم يكُن فيها من قبل غير العشب حفرنا بركة، وأقمنا حديقة صخرية ومرجاً من الزهور البرية، وزرعنا مجموعات من النباتات المعمرة المزهرة المقاومة للجفاف، وأنشأنا أحواضاً للخضراوات، وقمنا بتركيب نظام للري بالتنقيط وصندوق للتسميد، وصرنا نزرع محاصيل الغطاء الشتوي ونترك الخضراوات تذبل وتتحلل في مكانها. وجئنا بتنويعة كبيرة من النباتات التي تقي التربة من عوامل التعرية وتعيد تنشيط أوساطها البيئية".

وتنجح التجربة، وتكون دلائل نجاحها حشرة تهرب وفطريات تنتشر وديدان تتلوى. يكتب جبر "في الشهر الماضي، قررت نقل نبات مزهر يسمى ’بنستيمون‘ بعدما كبر كثيراً على المساحة المخصصة له. كانت التربة في هذا الجزء من الحديقة من قبل مضغوطة للغاية لدرجة أنني كنت بحاجة إلى معول للحفر فيها. فإذا بي أجدها مفككة ولينة. وفيما كنت أرفع النبات ظهرت شتى أشكال الحياة، فتدلّت الديدان الأرضية من الجذور وسارعت حشرة تجري إلى الأمان ولمحت أسفل النبات شبكة بيضاء دقيقة من الفطريات".

 

 

"وفيما أخذت أمرر أصابعي في التربة، فهمت، على نحو أوضح مما كنت أفهم من قبل، أنها لم تكُن قط محض طبقة تقع أعلى سطح الكوكب، ولكنها جزء من الأرض نفسها وامتداد للكوكب، فهمت أن التربة شأن الحياة كلها ليست محض مقيمة في الكوكب بقدر ما هي تعبير عن العالم الحي".

يكتب بيل كابوسير أن "جبر يبرع في ما يتعلق بأهم عناصر الصحافة العلمية وهو تيسير المفاهيم العلمية على القارئ العام. فتفسيراته دائماً واضحة ويسيرة التتبع، فضلاً عن حرصه على استعمال الحد الأدنى من المصطلحات وقصرها على مواضعها الدقيقة مع تحري الوضوح التام في ذلك".

غير أن ما يقدمه جبر في كتابه يتجاوز الوضوح  إلى الجمال، فهو يجمع إلى لغة العلم البسيطة المباشرة لغة الشعر أيضاً، فيكتب مثلاً أن "الحياة نشأت من الأرض، وهي مصنوعة منها، وترجع في النهاية إليها. ونحن لا نزال نحمل في دمائنا المحيط، ولم تزَل الصخور قائمة في عظامنا"، أو قوله إن "الأرض حجر يأكل الضوء ويشع الأغنية، ويدور حول نفسه في فراغ الفضاء الغامض، وهو يتنفس، وينبض، ويتطور". غير أن هذه الغنائية لا تحول دون أن يكون الكتاب صرخة تحذير من الخطر الذي نمثله "نحن" على الكوكب، بترابه وبشره على السواء.

العنوان: Becoming Earth: How Our Planet Came to Life

تأليف: Ferris Jabr

الناشر: Random House

اقرأ المزيد

المزيد من كتب