Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البريطانية بات بارك تستعيد ملحمة طروادة بعيون النساء

 "الإبحار إلى الوطن" تختتم الثلاثية الإغريقية بحكايات الحب والخيانة

مشهد من "الألياذة" بريشة بوسان (متحف السروبون)

ملخص

لم تكن الكاتبة البريطانية بات باركر تعتقد وهي تقترب من عقدها الثامن أن لديها القدرة أو الوقت لإنجاز الثلاثية الطروادية كاملة، كما صرحت أكثر من مرة، غير أن الأجزاء الثلاثة اكتملت وفق جدول زمني ثابت، بحيث يفصل بين الجزء وما يليه ثلاثة أعوام، فصدرت "نساء طروادة" عام 2021، واختتمت الثلاثية هذا العام بـ"الإبحار إلى الوطن" الصادرة حديثاً عن دار بنغوين للنشر.

على رغم وفرة الأعمال التي أعادت صوغ الأساطير اليونانية في قوالب أكثر مرونة تبقى حرب طروادة هي الأكثر استلهاماً عبر التاريخ. وفي الآونة الأخيرة لفتت انتباه عدد من الكاتبات، نظراً إلى ما تنطوي عليه من ممارسات استفزازية في حق النساء. لقد نشبت هذه الحرب من أجل امرأة، وليست أي امرأة، إنها هيلين أجمل نساء الأرض عند الإغريق، التي اختطفها "باريس" من بيت زوجها، أو أغواها بمساعدة أفروديت، ربة الجمال، كلا الأمرين قابل للجدل ما دامت وجهة نظر هيلين المتنازع عليها هي الجزء المفقود من النص!

في ثلاثيتها التي بدأت بـ"صمت الفتيات"/ (The Silence of the Girls 2018)، تقدم الكاتبة البريطانية بات باركر منظوراً نسوياً للأسطورة، يرمي إلى استعادة الجزء المسكوت عنه في إلياذة هوميروس، وذلك بتبديل زاوية الرؤية من ساحة القتال، إلى معسكر النساء اللاتي أصبحن مجرد غنائم حرب وبيادق في أيدي الرجال.

اكتملت إذاً الأجزاء الثلاثة وفق جدول زمني ثابت، بحيث يفصل بين الجزء وما يليه، ثلاثة أعوام، فصدرت "نساء طروادة"/ The Women of Troy عام 2021، واختتمت الثلاثية هذا العام بـ"الإبحار إلى الوطن"/ The Voyage Home الصادرة حديثاً عن دار بنغوين للنشر.

بلاغة الصمت

في الجزء الأول والثاني، منحت باركر البطولة لـ"بريسيس" أميرة "ليرنيوس" التي أصبحت محظية "أخيل"، قبل أن يأخذها منه أغاممنون عنوة، وينشب خلاف ضار بين الرجلين، وهو المشهد الذي يفتتح به هوميروس إلياذته، كاشفاً عن مدى الانقسام في صفوف المتحاربين حتى وهم في أتون الحرب. لقد حشدت الجيوش من كل حدب وصوب من أجل امرأة، وها هم يشعبون الصراع من أجل امرأة أخرى، وهلم جرا: "أغاممنون ملك الرجال، وأخيل العظيم، وعلام عساه يكون نزاع هاتين الروحين العنيفتين القديرتين؟ الأمر البديهي كما في شجارات الحانات، إنهما يتنازعان على امرأة، بل فتاة بالأحرى، فتاة سلبت من أبيها، فتاة اختطفت في حرب".

على الوتيرة نفسها تفتتح باركر ثلاثيتها بسطر دال من رواية "الوصمة البشرية" للكاتب الأميركي فيليب روث مفاده أن كل الأدب الأوروبي نشأ من مشاجرة في حانة بسبب امرأة! المرأة دائماً هي جذوة العراك، كما تصرح باركر، "لقد أحببت فكرة أن هذه كانت بداية الأدب الأوروبي، وهذا صحيح، وأن شرارته كانت شجاراً بين رجلين قويين. إذا كنت رجلاً، فإن الأمر يبدأ بالصمت".

 ظهر الصمت كموضوع رئيس في أعمال باركر كافة، بدءاً من روايتها "شارع الاتحاد"/ Union Street (1982) التي قوبلت بالرفض من دور النشر لأكثر من 10 أعوام، إلى أن وافقت دار فيراغو المهتمة بالكتابات النسوية على نشرها، لتصبح إحدى أكثر روايات الدار مبيعاً، وتتوج بجائزة جمعية "فاوست" في الأدب. وهي الرواية المؤلفة من سبع قصص لنساء من الطبقة العاملة. وصفتها "نيويورك تايمز" بأنها "عمل صادم وشبق من الدرجة الأولى".

واصلت باركر في روايتها الثانية "انسف بيتك" (Blow Your House Down) (1984) التقاط صمت المرأة في المجتمع المعاصر، وذلك من خلال مجموعة من النساء يعملن في الدعارة ويتعرضن للعنف والقمع والإسكات، الأمر الذي أتمته في "إنجلترا ليزا"/ Liza’s England (1987) بطرح عينة من نساء الطبقة العاملة في القرن الـ20، والطرق التي تنتهجها الثقافة لتأطيرهن في سرديات تقليدية عن المحو والتضحية بالنفس.

في ثلاثية "تجدد"/ Regeneration عن الحرب العالمية الأولى، التي تألفت من "تجدد" (1991)، "العين في الباب"/ The Eye in the Door (1993)، و"طريق الأشباح"/ The (1995)، كشفت باركر عن نوع آخر من الصمت بتسليط الضوء على ما بعد الصدمة التي أفضت إلى ذهول الرجال لدرجة البكم، منهم الملازم الذي تفاجأ بعين بشرية في راحة يده المرتعشة عقب هجوم بقذيفة، والطبيب الذي يحاول حث الرجال على الخروج من صمتهم من خلال تطبيق صدمات كهربائية عنيفة على حلقهم. تصرح باركر في حوار نشرته صحيفة "التايمز" 2007، "إن كل اهتمامي بالحرب ينبع مما لا يقال".

صمت الحملان

وصلت باركر في معالجة الصمت إلى ذروتها في ثلاثية "نساء طروادة" حيث تركت الرجال في غيهم، وركزت على سبايا الحرب مثل هيكوبا، أرملة ملك طروادة بريام، وأندروماك، أرملة هيكتور، وغيرهن الكثيرات. أما في تتمة ثلاثيتها "الإبحار إلى الوطن"، فقد اكتفت بشخصيتين رئيستين هما كاساندرا ابنة الملك بريام، وكليتمنسترا زوجة أغاممنون.

تقع الرواية في 320 صفحة، وتمتد على مدار أربعة أيام كما "إلياذة" هوميروس. فبعد نجاح الإغريق في هزيمة الطرواديين بحيلة الحصان الذكية، يعود أغاممنون مع رجاله إلى الوطن في سفنهم المحملة بالغنائم ومئات الطرواديات، ومن بينهن كاساندرا، كاهنة طروادة التي منحها أبوللو القدرة على قراءة المستقبل طمعاً في كسب ودها. وفقاً لإسخيليوس، فإن كاساندرا بعد أن تلقت الهبة على صورة قبلة، أخلفت وعدها، ورفضت ممارسة الحب مع أبولو. ولما لم يتمكن الإله من سلبها القدرة على قراءة المستقبل، بصق في فمها ليضمن عدم تصديق أحد لتنبوءاتها. وحين تتنبأ بدمار طروادة على يد أخيها باريس، لا يصدقها أحد، بل إنها حتى لا تجد أذناً صاغية.

أيضاً في رحلة العودة، بعد أن يختارها أغاممنون لتكون من نصيبه ثم يتزوجها سراً، تتنبأ وهي على متن السفينة بطريقة موت البطل المغوار في حمام قصره، ولكن لا أحد يصدقها. تبدو الأحلام بكماء لأنها تستخدم لغة رمزية، على رغم من كل الإشارات السمعية والبصرية التي يستقبلها النائم، إذ لا يمكن فك شفرتها إلا بعد أن تتحقق بالفعل! على هذا المنوال يصبح استبصار كاسندرا لا قيمة له، لأنه لا يسهم في تجنيب قومها نوائب الدهر، وإنما يتحول إلى نوع من التحذير المجاني. لذا يستخدم اسمها في الوقت الراهن كرمز إلى الشخص الذي يتنبأ بكوارث وشيكة، لكن الناس لا تعيره انتباهاً.

توظف باركر ريتسا خادمة كاسندرا، لسرد معظم قصتها وأطوارها الغريبة، فتصفها بأنها "مجنونة كصندوق من الثعابين"، وغامضة إلى حد تكاد تقترب فيه من الآلهة. وهكذا يتوزع الحكي بين ضمير المتكلم من منظور ريتسا، في مقابل ضمير الغائب من منظور كليتمنسترا، زوجة أغاممنون. ويعمل انتقال زاوية الرؤية بين نساء طروادة ونساء إسبرطة، أو لو توخينا الدقة، بين الشرق والغرب، إلى تعميم يأس النساء في مجتمعات أبوية رغم أنوفهن.   على الطرف الآخر من اليابسة، هناك في موطنه، ظلت كليمنسترا تربي أحقادها على مهل، فلديها حساب لا بد من تصفيته. لقد مرت 10 أعوام منذ أن غافلها أغاممنون وطلب منها، من دون أي اعتبار لأمومتها، أن ترسل إليه ابنته إفيغينيا ذات الوجنتين الجميلتين، ولم يكن يخطر ببالها أنه سيقدمها أضحية للآلهة، لتذلل له ريحاً مواتية في طريق الجيوش الغاضبة إلى طروادة لاستعادة هيلين.

تحاول باركر الكشف عن شخصية كليمنسترا الملكة، بنزع طبقات الأسطورة الموهومة التي غلفتها، فإذا بكليتمنسترا الزوجة الشريرة التي تواطأت مع عشيقها لقتل زوجها، تتحول إلى امرأة حكيمة، وأم متفانية، تحاول جاهدة، حماية العرش لحين عودة ابنها الغائب أوريستيس، حتى لو استخدمت رجلاً ضد رجل وأخذته إلى فراشها في غياب الزوج. في الوقت نفسه كانت كليمنسترا تكافح من أجل تربية ابنتها إلكترا وانتشالها من صدمة موت أختها بتلك الطريقة المستهترة والغادرة، فهي تنتظر دورها كأضحية، ولا أحد يمكنه أن ينام في العربة التي تأخذه إلى المقصلة، لهذا تفقد شهيتها وتصاب بالإكزيما.

بيت مسكون بالأشباح

عندما يصل أغاممنون إلى قصره، تلاحظ كاساندرا تجمع إلهات الغضب على سطح قصره، لقد جئن لينتقمن منه حين يعود. إنها لحظة الحساب العسير تماماً كما توقعتها كاساندرا، في هذا القصر المسكون الذي تردد جدرانه صدى حكاية أكثر دموية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحكي لنا باركر أنه قبل عقود من الزمان، دعا والد أغاممنون أخاه ثيتيس إلى العشاء، ولم يكتشف شقيقه إلا بعدما التهم نصيبه من اللحم اللذيذ، أن ما أكله هو لحم أبنائه الرضع. هؤلاء الأبرياء الذين دفعوا ثمن تعطش الذكورة للسلطة، تتسرب ضحكاتهم من الجدران، وتصدح بأغنيات مرحة وخبيثة، "ها هي شمعة تضيئك في الفراش، ها هي سكين لقطع رأسك!". إن كاساندرا، المرأة العارفة، لا يفوتها أن تعلق على حضارة الإغريق العريقة، حين تدخل قصر أغاممنون لأول مرة، "برابرة! لا أتذكر أن أجدادي كانوا يقتلون الأطفال ويأكلونهم". نظرت كاساندرا حولها: "بصراحة، كيف يمكنك العيش في هذا المكان. إن رائحته كريهة من فرط الدماء".

كاسندرا وكليمنسترا، الزوجة والعشيقة، المرأتان الأكثر بؤساً عبر التاريخ. توجه كليتمنسترا أصابع الاتهام إلى غريمتها قائلة، "أنت تمارسين الجنس مع زوجي!"، ترد كاساندرا، "أنا مجرد عبدة، أفعل ما يأمرني به... هل تعتقدين أننا سنتمكن يوماً من التحدث بعضنا مع بعض - أعني بصورة صحيحة؟" - كليتمنسترا: "ليس لدى وقت لهذا الهراء!".

بعيدا من الغريمتين، نظراً لصعوبة محو الضغينة بينهما جراء صبيانية الذكورة التي لم يعد هناك أمل في نضجها يوماً، تمتلئ ثلاثية باركر بألوان التعاطف بين النساء، "وبصمت أحاطتني هيكاميد بذراعيها، أتذكر دائماً أنها بكت علي حينما لم أستطع البكاء على نفسي". في الصدد نفسه تقول ريتسا عندما تسمع تنهدات الطرواديات ورثاء بعضهن بعضاً، "أنت لا تحتاج دائماً إلى الأمل. في بعض الأحيان يكون من المفيد أن تجد من يعترف بيأسك ويتشاركه معك".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة