تأتي الذكرى الـ 64 لتأسيس منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" في وقت تشهد سوق الطاقة العالمية اضطرابات متعددة الجوانب، لا تتعلق فقط بمعادلة العرض والطلب في سوق النفط، بالتالي أسعاره وإنما أيضاً في ظل دعوات إلى التحول في مجال الطاقة نحو المصادر المتجددة عديمة أو قليلة الانبعاثات الكربونية وتكهنات بعضهم بأن عصر النفط والغاز آخذ في الأفول. مع ذلك، يشكل الوقود الأحفوري نحو ثلثي استهلاك العالم من الطاقة ولا يتوقع أن يتراجع نصيب النفط والغاز من حصة الطاقة في العالم في المستقبل القريب.
حين اجتمعت الدول الخمس المؤسسة، العراق والكويت والسعودية وإيران وفنزويلا، في بغداد في الـ14 من سبتمبر (أيلول) عام 1960 لتعلن تأسيس "أوبك" لم تكن سوق الطاقة العالمية بهذا التعقيد الحالي. وكان هدف المجموعة الأساسي ضبط السوق للحفاظ على مصالح المنتجين المشتركة من دون الإضرار بتوافر المعروض لمصلحة المستهلكين. اتسعت العضوية في ما بعد لتضم دولاً آسيوية وأفريقية ومن أميركا اللاتينية بما يزيد على ست. ومنذ عام 2016 تحالفت "أوبك" مع عدد مماثل من المنتجين من خارجها، على رأسهم روسيا، ضمن تحالف "أوبك+" لضبط توازن السوق.
جاء التحالف في أعقاب حملة واسعة في الإعلام الاقتصادي ومن بعض الجهات البحثية والاستشارية في مجال الطاقة العالمية تروج لوصول الطلب على النفط إلى ذروته في نهاية العقد الحالي وتتوقع أن ينتهي دور "أوبك" عالمياً. لكن الأيام والأحداث أثبتت حاجة العالم إلى مثل منظمة "أوبك" وتحالف "أوبك+" لضمان استقرار السوق وتفادي الاضطرابات الواسعة التي يمكن أن تهدد أمن الطاقة العالمي.
أهمية "أوبك"
على مدى عقد من الزمن، تحديداً منذ 2014، لم تتوقف الهجمات والحملات على "أوبك"، وعلى رغم ذلك لم يجد العالم سوى إجراءاتها المتزنة في كل أزمة طاقة كي تحافظ على معادلة العرض والطلب من دون تذبذبات هائلة في الأسعار تضر بالمنتجين والمستهلكين على السواء. وكثيراً ما أكدت "أوبك" منذ تأسيسها حتى الآن أنها وإن كانت منظمة للدول المنتجة والمصدرة تحمي مصالحها، إلا أنها لا تستهدف تحديد أسعار النفط في السوق إنما فقط ضبط توازن معادلة العرض والطلب.
وفي سياق تعاونها مع المستهلكين كوّنت "أوبك" بنهاية القرن الماضي "منتدى النفط والغاز" الذي يضم الدول المنتجة والدول الصناعية المستهلكة للطاقة. كما حرصت على التعاون مع وكالة الطاقة الدولية التي شكلتها الدول الصناعية الأعضاء في منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
ومع زيادة الدعوات إلى تلقيل الانبعاثات في سياق مكافحة التغيرات المناخية، تعالت الدعوات إلى التخلي عن النفط والغاز، ولأن ذلك أمر غير واقعي ولا عملي فإن تأثير تلك الدعوات لم يكُن قوياً، حتى على رغم تبني بعض الحكومات الغربية شعارات مبالغاً فيها لمكافحة التغير المناخي. فعلى رغم استثمار تريليونات الدولارات في مصادر الطاقة المتجددة، من الشمس والرياح وغيرها، إلا أن نصيب الطاقة من تلك المصادر لم يصل حتى إلى ربع ما يستهلكه العالم من الطاقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا ظل الطلب على النفط ينمو سنوياً، وإن بمعدلات أقل خلال الأعوام الأخيرة، مع توقعات باستمرار النمو لسنوات مقبلة. وفي ظل استمرار اعتماد الاقتصاد العالمي على الوقود الأحفوري يظل دور "أوبك" مهماً كما تؤكد الأيام. وربما يعود التباطؤ في نمو الطلب على النفط لانخفاض معدلات النمو في استهلاك الطاقة بصورة عامة نتيجة التباطؤ الملحوظ في الاقتصاد العالمي.
في دراسة قدمت للاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي، أكد الباحثون أهمية دور "أوبك" في الحفاظ على استقرار سوق الطاقة العالمية. وما زالت غالبية الشركات الكبرى والمتعاملين في أسواق الطاقة يعتمدون على ما تصدره "أوبك" من أرقام وبيانات دورية في شأن سوق النفط وتوقعاتها المستقبلية. وينتظر الجميع التقرير الشهري لـ"أوبك" حول سوق النفط لتحديد استراتيجاتهم المستقبلية. ولا يقتصر ذلك على المتعاملين في سوق الطاقة، بل في مناحي النشاط الاقتصادي كافة التي تعتمد كلها على الطاقة كمحرك أساسي للنشاط.
اتهامات وحقائق
لم تتوقف الدول الغربية الكبرى المستهلكة للطاقة بكثافة عن محاولات اتهام "أوبك" بما لم تأته، خصوصاً بعد أزمة البترول في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. وأصبحت "أوبك"، وبعد ذلك تحالف "أوبك+"، شماعة يعلق عليها السياسيون في تلك الدول مشكلات اقتصاداتهم الناجمة عن سياساتهم النقدية والمالية، من معدلات التضخم إلى مستوى المعيشة. ولا تألو "أوبك" جهداً في تفنيد ذلك والرد على الاتهامات بالحقائق. ومنذ تولي الأمين العام الحالي هيثم الغيص الأمانة العام للمنظمة وهو دائم الحديث في المنتديات والمنافذ كافة، رداً على تلك الاتهامات لـ"أوبك".
قادت وكالة الطاقة الدولية حملة عبر بياناتها وتقاريرها وتصريحات مديرها العام، منذ أكثر من عامين تروج لنهاية "عصر النفط" وتدعو إلى تحويل الاستثمارات إلى مشاريع الطاقة المتجددة على حساب الاستثمار في إنتاج النفط والغاز، بعدما موّلت بعض الدول الأعضاء في الوكالة ببضع ملايين الدولارات الإضافية مشروع ما يسمى "صفر انبعاثات". إلا أن حاجة العالم للنفط والغاز زادت في الواقع، على عكس تكهنات وكالة الطاقة. وحذرت "أوبك" مراراً من أن نقص الاستثمارات في إنتاج النفط والغاز يمكن أن يؤدي إلى "صدمة طاقة" يعانيها العالم كله، من منتجين ومستهلكين للوقود الأحفوري.
وبعيداً من الاتهامات والردود عليها، نجد أن الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، تزيد من إنتاجها النفطي والغازي خلال الأعوام الأخيرة حتى أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم، بل تشجع أيضاً دولاً في أفريقيا وآسيا الوسطى وأميركا الجنوبية من خارج تحالف "أوبك+" على زيادة الإنتاج للنيل من حصة "أوبك" في سوق النفط العالمية. ومع ذلك تظل "أوبك" وتحالف "أوبك+" الكتلة المنتجة والمصدرة الأكبر في العالم، ويعتمد الاقتصاد العالمي على استراتيجياتها في الإنتاج والتصدير لضمان أمن الطاقة العالمي.