Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المونودراما السورية واجهت عقبات الحياة الجماعية والفردية

فنانون لجأوا إلى مسرح الممثل الواحد لمواجهة الرقابة والأزمات وعبرواه عن أحوال النساء في الحرب

من العرض المونودرامي السوري "ليلي داخلي" (خدمة العرض)

ملخص

شكلت عروض المونودراما في المسرح السوري خلاصة جهد جماعي على الخشبة، ونبعت من هاجس الدفاع عن المسرح بصفته فناً شخصياً أقرب إلى الرسم وكتابة الشعر منه إلى صيغة عروض الأداء الجماعية، وتعد مسرحية الممثل الواحد من أكثر أنواع المسرح صعوبة على صعيد الكتابة والإخراج والتمثيل.

يبدو المسرح السوري متفرداً في فن المونودارما أو مسرح الممثل الواحد، وتعد مسرحية "يوميات مجنون" عام 1977 للكاتب الأوكراني نيقولاي غوغول من أول العروض الأقرب إلى فن المونودراما، وكان أعدها سعد الله ونوس وأخرجها رفيق دربه فواز الساجر ليؤديها الفنان أسعد فضة من إنتاج المسرح التجريبي، وتكون فاتحة هذا النوع من الفنون الأدائية على مساحة صالات العرض المحلية.

 

وجاء الإقبال على هذه النوعية من التجارب في المسارح السورية أخيراً كرد فعل على صعوبة تقديم عروض جماعية غالباً ما تحتاج إلى عدد كبير من الممثلين، وإلى إمكانات إنتاجية ضخمة قد لا تحتاج إليها عروض المونودراما التي تقتصر على ممثل واحد، يكون في غالب الأحيان هو كاتبها ومخرجها. وهذا ما يفسر كثرة المهرجانات التي تعزز هذا النوع من الأداء في سوريا، من مثل مهرجانات اللاذقية وحماة وحلب للمونودراما، والتي تحظى بدعم حكومي محدود. ويتباين مستواها الفني من عرض إلى آخر، إذ تعد مسرحية الممثل الواحد بمثابة مسرح الحقيبة الذي يمكن فك ديكوره البسيط وتركيبه، ونقله من مهرجان إلى آخر من دون أن تتحكم الظروف الإنتاجية في سفره ومشاركاته الخارجية. وهذا ما يعلل ذهاب عديد من الكتاب والمخرجين السوريين إلى هذا النوع من التجارب، والهرب إلى مسرح فردي سهل الفك والتركيب!

ولئن بدأت عروض المونودراما في سوريا ذات هاجس وهم إنسانيين، ساعية إلى إدانة حياة الوظيفة التي تدفع الإنسان إلى الجنون، إلا أن عروض الممثل الواحد أخذت بعد ذلك مساراً مختلفاً وتحولت إلى أداة سياسية مع تجربة الكاتب الراحل ممدوح عدوان، الذي قدم تجربة غنية في هذا المجال بدأها مع الفنان الفلسطيني زيناتي قدسية في تأليف أربعة نصوص مونودرامية كانت على التوالي "حال الدنيا" و"القيامة" و"الزبال"، و"أكلة لحوم البشر".

الذهات إلى الجمهور

 

واشتغل عدوان وقدسية كثنائي على مفهوم التجريب المسرحي لكون المونودراما كانت في مقتبل الثمانينيات قادرة على التوجه إلى الجمهور أينما كان، وشكلت عوناً للهواة والفرق الصغيرة التي لا تسعفها الموارد. وتتعذر عليها الحركة الواسعة فمسرحية الصولو (الأداء الأفرادي) كانت قادرة بامتياز على سبر أغوار النفس والعقل. فما شاهده جمهور الثمانينيات في مونودراما كل من ممدوح عدوان وزيناتي قدسية كان اتجاه إلى تجريبية حاولت تحقيق أكثر من هدف كالتعرية الاجتماعية والسياسية، وشكلت عروض المونودراما ظاهرة نوعية أتاحت الفرصة لتأديتها على مسارح المناطق الفقيرة، وبتمويل وتجهيزات متواضعة، فوجدت هذه التجارب في جمهور المخيمات ومسارح الهواة والفعاليات العمالية والجامعية وغيرها فرصة لتحقيق معادلة النخبة والجمهور الواسع.

وقدم المسرح السوري عديداً من هذه التجارب التي وظفت فن المونودراما لمصلحة الخطاب السياسي، ولعل أبرزها كان عرض المخرج والممثل عبدالمنعم عمايري في عرضه "سينوغرافيا الموت" 2009، الذي أعده عمايري عن نص جان جينيه "أربع ساعات في شاتيلا" 1982، محيلاً إياه إلى عرض حركي راقص بالتعاون مع الكريوغراف والراقصة يارا عيد. في حين قدم الممثل عبدالرحمن أبو القاسم مشروعين في السياق ذاته، الأول كان بعنوان "بيان شخصي" للمخرج جهاد سعد ونص مؤنس حامد، ويروي حكاية عجوز فلسطيني مقعد اختبر آلام النزوح من فلسطين بين عامي 1948 و1967 وصولاً إلى حياة المخيم. وقد عاد أبو القاسم إليها مع تجربته الثانية في عرض أفرادي آخر حمل عنوان "تغريدة أبو السلام" لمخرجه وكاتبه داوود أبو شقرا، وفيه تابع الممثل الراحل رحلة التهجير والنزوح للإنسان الفلسطيني، من المخيم إلى بلاد الشتات بعد اندلاع الحرب السورية عام 2011.

 

لم تقتصر عروض المونودراما على تدبيج الخطاب السياسي بل عادت إلى مناقشة موضوعات وجودية وإنسانية، وبخاصة مع تجربة المخرج والكاتب نمر سلمون الذي ابتعد في عمله من صيغ المونودراما التقليدية، فقدم ابن مدينة حمص سلسلة من عروض المونودراما كان آخرها بعنوان "لا تخش شيئاً فالموت إلى جانبك". واستبدل صيغة محاورة "المخاطب الغائب" بمخاطبة أفراد من الجمهور عبر ثلاثة عروض اشتغل عليها المسرحي المغترب في إسبانيا بدأب وبحث متواصلين. ودمج السيرة الشخصية له كمؤد مع مستويات متعددة من الكتابة، وجعل من نص المونودراما مقترحاً مفتوحاً ومفكراً به على نحو ما سماه سلمون بـ"مسرح الجمهور الخلاق".

مسرح الحكواتي

نهلت عروض الممثل الواحد من صيغة مسرح الحكواتي، وبذلك أصبحت شخصية الراوي بمثابة لقاء بين أنواع من البوح والاعترافات الحميمية، فاستطاع نمر سلمون مثلاً أن يعبر عن قلق الإنسان وخوفه الوجودي من نهاية محتومة تترقبه في كل لحظة من لحظات حياته. وذلك عبر حكايات شخصية متخيلة تدعى "درايو الأندلسي" إذ قرر هذا الاختباء من الموت ومخادعته من خلال التخفي في جسد شخصية حكواتي دمشقي، ممرراً من هذا التمويه الدرامي الماكر الحكاية كمنقذ وحيد من آجال مكتوبة على جبين الكائن الإنساني.

ثمة عروض تحدت عناصر مسرح المونودراما التقليدية كافة، ابتداء بالحوار ومروراً بالزمن والفضاء ووصولاً إلى نزعات الشخصية واستحضارها للأماكن والذكريات. وهذا ما فعله المخرج جهاد سعد في عرض "وجوه" عن نص من تأليف الكاتب أحمد قشقارة وأداء الفنان سهيل حداد، فيما قدم أسامة غنم عرضه "الشريط الأخير" الذي اقتبسه عن نص "شريط كراب الأخير" لصموئيل بيكيت. ومثل "الشريط الأخير" اقتراحاً كان الأول من نوعه تاريخياً لتقاطع الدراما الإذاعية مع الأداء الحي.

 

جاء عدد من عروض "المان وان شو" اللافتة في مجال تشريح الواقعين الاجتماعي والسياسي للبلاد، فاشتبكت بقوة مع الواقع السوري. ولعل أبرزها ما قدمه الكاتب والمخرج حكيم مرزوق، الذي تنقل ببراعة بين صور عدة من تقنية مخاطبة الغائب في عروض الممثل الواحد. ففي مسرحيته "إسماعيل هاملت" عقد المخرج التونسي الراحل علاقة جديدة من نوعها في مسرح المونودراما برفقة ممثله سامر المصري. غاسل الأموات الذي يقيم حواراً متخيلاً مع أجسادهم المسجاة على طاولة الغسل، فيحضر المخاطب الغائب هنا كجسد للعم الميت مما سمح بالالتزام بالشرط الفني في عرض المونودراما، بأن يقوم ممثل يتيم بأدائه على الخشبة، وبلا أية إقحامات غير ضرورية.

المرأة في المونودراما

تحضر المرأة في عروض المونودراما السورية كموضوعة رئيسة في مناقشة واقع النساء السوريات، والحيف الواقع عليهن من تسلط ذكوري وتقاليد رثة. وكان للنساء القسط الأكبر في هذا النوع من العروض، مما وفر مساحة تعبير خاصة لهن، وأتاح لعديد منهن انتزاع فسحة جديدة للنبش في واقع بنات جنسهن، وإماطة اللثام عن المسكوت عنه، وبخاصة في المجتمعات الريفية والتقليدية.

 

أبرز هذه التجارب كان بدأها حكيم مرزوقي أيضاً مع الفنانة الراحلة مها الصالح في منتصف تسعينيات القرن الماضي بعرض حمل عنوان "عيشة" مع المخرجة رولا فتال. ففي هذا العرض طرح مرزوقي حكاية امرأة تعرضت لخذلان الجميع، فاستعانت بصندوق عرس جدتها الفلكلوري لتخرج منه مع كل قطعة أكسسوار حكاية من حكايات عمر قضته بين الغسالة والورد، بين انتظار حبيب لا يأتي، وحلم العائلة التي لم تعش في كنفها كحبيبة وأم وجدة. قصص قهر من جيل إلى جيل ترثه الفتاة عن أمها عبر صندوق أشبه بصندوق الحواة والسحرة.

استطاعت مسرحيات الممثلة الواحدة أن تعطي مذاقاً مختلفاً في عروض المونودراما النسائية، ولا سيما في مسرحية "الساعة الأخيرة من حياة السيدة حكمت" التي كتبها حكيم مرزوقي أيضاً، وأخرجها الفنان العراقي باسم قهار للمسرح القومي في دمشق عام 2008. روت بطلة هذه المسرحية الفنانة ثراء دبسي حكاية أخذتنا منذ بداية العرض إلى مونولوغ آسر عن الحب والرغبة والموت. فإلى جانب مناقشة واقع النساء في عروض المونودراما، حضرت المرأة في هذه العروض كاتبة ومخرجة ومؤدية عبر تجارب عديد من فنانات وكاتبات سوريات وجدن في مسرحية الممثلة الواحدة فسحة جديدة للتعبير عن أنفسهن، ومساحة جمالية وفكرية.

وكان للفنانة الراحلة مها الصالح دور متقدم فيها تمثيلاً وإخراجاً. فقدمت أكثر من عرض في هذا السياق كان أبرزها مسرحية "الأيام الحلوة" عن نص لصموئيل بيكيت، إضافة إلى مسرحيتي "شجرة الدر" عن نص من تأليفها و"خطبة لاذعة ضد رجل جالس" عن نص لغابرييل غارسيا ماركيز. وتجلت في هذه العروض قدرة الصالح على مقاربة فنون متنوعة لمسرح الممثل الواحد المتعدد الأصوات، سواء من خلال البناء النفسي للشخصيات أو حتى عبر الحلول الإخراجية المبتكرة لتحقيق فضاء مسرحي جماعي مع سينوغرافيا متوازنة بصرياً ومشهدياً، ومناخات غنائية راقصة اقتربت من أجواء "ألف ليلة وليلة"، إذ الجدة شهرزاد تبعد الموت منها بإطالة زمن الحكاية.

وجدت المرأة السورية في هذا الفن وسيلة تعبير ضاربة لتقديم سرديتها بمطلق الحرية، ومن أبرز التجارب لهؤلاء كانت مونودراما "كحل عربي". العرض الذي كتبته وأخرجته وقامت بأدائه الفنانة سوزان علي ويروي حكاية فتاة فقدت أهلها في تفجير انتحاري، لتقوم بوداع بيتها على طريقتها مستذكرة قصة حبها التي تلتبس فيها البلاد مع أعوام الحرب الطويلة. ويصبح أثاث البيت من طاولة وكرسي وسرير ومرآة وصنبور مياه بمثابة شخصيات، تقوم الممثلة بتوجيه الحوار إليها طوال فترة العرض. صيغة عوضت بها مخرجة العرض وكاتبته عن غياب الشخصيات بأنسنة الجمادات واستنطاقها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على مستوى آخر لبت عروض أخرى من مسرح النساء الفردي هذا رغبة في تقديم قراءة مغايرة ومختلفة، فرواية المرأة عن الحرب جاءت بلا تأخير وقدمت مراجعات صادمة عن واقع النساء في النزاعات والأزمات الإنسانية الحادة، ولا سيما في عرض "نبوءة" لمخرجه ومؤلفه سامر عمران وبطلته ربا الحلبي. وقدمت عرضها في قهوة النوفرة التراثية متقمصة دور حكواتية دمشقية ساردة ما حدث على لسان زرقاء اليمامة. مثلها فعلت "نديمة" في عرض حمل اسم الشخصية نفسها لمؤلفه ومخرجه علي صطوف وبطولة روبين عيسى.

وبقيت عروض الممثلة الواحدة من أبرز الوثائق التي قدمها المسرح السوري عن العنف الممارس على النساء خلال فترات الحروب.

وهنا لا بد من التذكير بعرض الفنان السوري من أصل أرمني مانويل جيجي الذي قدم هو الآخر مونودراما بعنوان "صوت ماريا" عن نص للكاتبة البوسنية ليديا شيرمان هوداك. وذهب جيجي وقتها عبر معالجة نفسية إلى المنطقة الأكثر قتامة في ذاكرة الحروب الإثنية والعرقية ذات القبور الجماعية الذائعة الصيت. وللإسقاط على الحرب السورية كان اختيار مانويل النص الذي ترجمته الناقدة المصرية الراحلة نهاد صليحة حاسماً، وذلك في تقديم شخصية امرأة اغتصبت ابنتها أمام عينيها من جنود العدو الذي اجتاح بلدتها الوادعة. وتنتهي الحكاية بأن تنجب ابنتها طفلة جراء تلك الجريمة، والمشكلة التي تظل معلقة هو الاعتراف بأبوة طفلة أنجبتها الحروب والإهانات.

هناك عدد من عروض المونودراما التي اختارت أسلوب التداعي الحر، وحفلت بما يشبه اعترافات تدلي بها الشخصية على المسرح، مثل عرض "خيبانة" لمخرجه الفنان الراحل محمد قارصلي وبطولة ميريانا حداد، إضافة لعرض "امرأة وحيدة" لمخرجته نسرين فندي وبطولة أمانة والي عن نص للإيطالية فرانكا راما، وعرض "ليلة الوداع" لكاتبه جوان جان ومخرجته سهير برهوم وأداء فيلدا سمور، إضافة إلى مسرحية "مسخ كافكا" لكاتبه ومخرجه فيصل الراشد وبطولة رايسة مصطفى و"ليست أنا" لمخرجها إبراهيم جمعة وأداء توليب حمودة، ومسرحية "الطين الأحمر" لمؤلفها ومخرجها سمير الطحان، وأداء لبابة صقر.

في جميع هذه التجارب يمكن ملاحظة كيف تحول فن الممثل الواحد إلى تورية باهرة عن الحياة السرية للنساء، وما يكتنف هذه العوالم من قهر ومحاولة تحطيم لإنسانية المرأة بداعي الشرف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة