أهم ما يميز نص العرض المسرحي "ساكن متحرك" الذي قدمته فرقة مسرح الطائف السعودية في مهرجان أيام القاهرة الدولي للمونودراما هو تلك الطبقات التي يراكمها النص والعلامات التي ينثرها هنا وهناك، وهذا ما يسمح بتعدد الدلالات والتأويلات ويجعل العرض لا يغادر الجمهور بعد انتهائه فيظل عالقاً بذهنه ومثيراً لتساؤلاته.
النص في المستوى الأفقي يتناول معاناة ممثل في عرض مسرحي مع المؤلف والمخرج والبطلة. فكل شيء موظف من قبل المؤلف لصالح البطلة التي تتحكم في مسار العمل والعاملين. أما الممثل هنا فدوره هامشي بغض النظر عن إمكاناته ومواهبه والجهد الذي بذله في البروفات. ولا مجال للمناقشة مع المؤلف والمخرج لتعديل هذه المسارات المجحفة وغير العادلة، بل على الممثل أن يطيع ويلتزم، لكنه في النهاية يتمرد ويثور، رافضاً أن يتنازل عن قيمه ومبادئه أو أن يظل ترساً في آلة، فهو من حقه أن يسأل أو يعترض أو يحاول تعديل المسارات أو تصويب الأخطاء.
قراءة أولى
هذه هي القراءة الأولى المباشرة لنص العرض، ولكن ثمة قراءات أخرى يمكن استبطانها من بين سطور النص، وهي سمة تميز كتابات المؤلف فهد ردة الحارثي أحد أبرز كتاب المسرح السعودي وصاحب الرصيد المهم من النصوص المسرحية.
قبل أيام كرم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي فهد ردة الحارثي تقديراً لمساره في الكتابة والإخراج والمكانة التي حققها وسط كتاب المسرح العرب. وما إن انتهى المهرجان حتى أطل فهد الحارثي على المشاهد المصري مجدداً عبر عرض "ساكن متحرك" الذي شارك في أيام القاهرة الدولي للمونودراما، وهذا ليس نص المونودراما الوحيد الذي كتبه فهد، فلديه نحو ثمانية نصوص مونودراماية أخرى مهمة، مما يشير إلى تمكنه في كتابة هذا اللون الصعب، سواء على مستوى الكتابة أو على مستوى تحويله إلى عرض مسرحي وما يتطلب من إمكانات فنية عالية لصناع العرض.
وعي إخراجي
العرض أخرجه أحمد الأحمري الذي نجح في رسم خطوط الحركة بما يتوافق مع طبيعة كل مشهد أو كل حالة. ونجح كذلك في توظيف قدرات ممثل العرض بدر الغامدي تمثيلاً وغناءً وحركة. وكان المخرج واعياً لطبيعة النص وأهمية التعامل معه برهافة، بخاصة أننا أمام ممثل واحد في فضاء شبه خال إلا من بعض القطع والموتيفات (صمم الديكور عبدالإله السحيمي). وهذا ما تطلب جهداً مضاعفاً لتشكيل صورة جمالية تسهم في توصيل رؤيته، وتعمل على مسرحة النص، حتى لا نكون بصدد مسرحية إذاعية، وهو ما نجح المخرج في تشكيله بشكل لافت، فمنح المونودراما قدراً عالياً من الجاذبية وأبعد الجمهور عن الملل الذي يمكن أن يصيبه من مشاهدة عرض يقدمه ممثل واحد، بخاصة إذا تحول العرض إلى "مونوتون".
الممثل نفسه (بدر الغامدي) استطاع عبر 40 دقيقة هي مدة العرض أن يملأ فضاء الخشبة حيوية وحضوراً، وكان أشبه بالساحر أو الحاوي الذي يخرج من شخصية إلى أخرى كما تخرج الشعرة من العجين كما يقال متنقلاً من هنا إلى هناك موظفاً أدواته بشكل واع وموزعاً طاقته بتوازن شديد على مدى العرض من دون أن يفقد لياقته أو حضوره صوتاً وأداءً واستخداماً لجسده، وكذلك إحساسه بالشخصية وفهمه لطبيعة أزمتها ودوافعها.
صراعات عدة
لم نكن أمام بوح شخصي أو تفريغ عاطفي تتعدد فيه الأصوات فحسب كعادة أغلب نصوص المونودراما، بل أمام صراعات عدة جسدها الغامدي بين الشخصية الرئيسة (الممثل) والشخصيات الأخرى (الكاتب والمخرج والبطلة) مستخدماً الفصحى بدقة وانضباط شديدين، وكذلك اللهجة المحلية وبعض المفردات الأجنبية موظفاً كل ذلك في محله بحسب الحالة التي يجسدها.
نعم، نحن أمام أزمة ممثل مع صناع عرض يشارك فيه والحكاية كلها تدور في قاعة "البروفات" أو التمارين، وقد علمنا تاريخ الشخصية ومعاناتها وما دفعته من ثمن نتيجة رغبتها في أن يكون كل شيء في وضعه الصحيح، لكن هذا ليس كل ما في الأمر. فمن ناحية يمكن أن تنسحب هذه الأزمة على علاقة العامل بمرؤوسيه مثلاً أو المواطن بحكامه أو في قراءة أكثر تعمقاً، وأقرب إلى الدقة تنعكس على علاقة الإنسان بالقوى العليا وسعي هذا الإنسان إلى تغيير مصيره وإعادة ترتيب حياته وفق منظوره هو مدفوعاً بفكرة الحركة لا راضخاً لفكرة السكون.
علامات العرض
على الخشبة ثمة أشياء منثورة بلا ترتيب وأغلبها ليس على وضعه الصحيح، وهذه واحدة من علامات العرض التي تعين على قراءته أو قراءة المضمر فيه لا الظاهر فقط. منضدة مفككة يعيد الممثل تركيبها واستخدامها، مقاعد مقلوبة يعيدها إلى وضعها الصحيح، ستائر معلقة بألوان مختلفة، هل هي الحياة المقلوبة رأساً على عقب، هل هي الحياة – وفق منظور الكاتب - التي لا شيء فيها في موضعه الصحيح، وأن على الإنسان أن يتحرك لترتيبها من جديد كي تكون هناك حياة أصلاً؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طوال العرض هناك سعي من الممثل إلى إعادة ترتيب هذه الأشياء وكأنها محاولة لإعادة ترتيب حياته أو حياتنا جميعاً، ربما، لكن الأمر لا يتم كاملاً في كل مرة، لعله النقص الذي يحدثه السكون، النقص الذي يكتمل بالحركة. لعله الصراع الدائم والمحتدم بين السكون والحركة، بين المؤلف الذي يمثل القوى العليا، والذي يفصل نصه على مقاس البطلة الشريرة والمغرورة، والمخرج الذي يلتزم حرفياً بنص المؤلف، وأخيراً الممثل المتمرد على الدور المرسوم له والساعي إلى تعديله بما يحقق فكرة العدالة.
كلها أسئلة يمكن استنباطها من نص العرض، فلا نص نهائياً قدمه المؤلف أو العرض. هذه المراوغة أو هذه المراوحة تتنج نصوصاً موازية، بحسب قراءة كل مشاهد، وهو ما يمثل قيمة مضافة إلى العرض. وعلى رغم إمكانية تعدد القراءات، فإن العرض لم يأتِ مستغلقاً على المشاهد، بل منحه خيارات عدة للتلقي، وراعى - ربما ومن دون تعمد - الفروق الفردية بين مشاهد وآخر ليخرج الجمهور بأسئلته التي تخصه ويشعر أثناء المشاهدة أنه جزء من العرض ومتورط فيه وليس منفصلاً عنه.
دور الإضاءة
لعبت إضاءة عبدالله دواري دوراً مهماً في تجسيد دراما العرض بدءاً من الإضاءة السفلية الحمراء التي استهل بها العرض عبر أغنية "مضناك جفاه مرقده" لأمير الشعراء أحمد شوقي، وغناء محمد عبدالوهاب، وأداء الممثل مولياً ظهره للجمهور، قبل أن يبدأ في تجسيد أزمته. وبرز استخدام البؤر الضوئية التي تحصر الممثل في حالته وتعنى بإبراز انفعالاته وردود فعله ثم الإعتام في اللحظات الخاطفة مجسدة واحدة من حالات الإخفاق التي يمر بها البطل، فضلاً عن استخدام المصمم للإنارة الكاملة في لحظات الحركة السريعة التي ينتقل بها الممثل من هنا إلى هناك.
"ساكن متحرك" مونودراما ناضجة في عناصرها وفي تضافر هذه العناصر معاً نصاً وإخراجاً وتمثيلاً وسينوغرافيا. إنها تضعنا أمام أسئلة المصير وصراع الذات مع نفسها من ناحية وصراعها مع القوى المهيمنة من ناحية أخرى وسعيها إلى فكرة العدالة التي لا تتحقق أبداً.
العرض شارك فيه عبدالرحمن المالكي مساعد مخرج ومطر السواط (صوتاً) ونواف الخديدي مساعد تقنيات، ومن إنتاج فرقة مسرح الطائف السعودية.