ملخص
أصبح مشهد القتل في المدن الفلسطينية داخل إسرائيل شبه يومي منذ ثلاثة أعوام، إذ تقف وراءه عصابات إجرامية تشبه الميليشيات المسلحة.
"إنها عصابات منظمة لا تشبه إلا المافيا الإيطالية"، تلك عبارة يرددها جميع الفلسطينين في إسرائيل في شكواهم من تحكم تلك العصابات الإجرامية المنظمة بكافة مفاصل حياتهم، وغياب سلطة الدولة الإسرائيلية. وهو ما تسبب بمقتل 160 شخصاً منذ بداية العام الحالي، و228 آخرين خلال العام الماضي.
أصبح مشهد القتل في المدن الفلسطينية داخل إسرائيل شبه يومي منذ ثلاثة أعوام، إذ تقف وراءه عصابات إجرامية تشبه الميليشيات المسلحة. ولم يعد القتل بإطلاق الرصاص فقط، بل وصل الأمر إلى استخدام تلك العصابات المتفجرات والعبوات الناسفة، كما حصل يوم الخميس الماضي بمقتل امرأتين وطفلين في مدينة الرملة غرب القدس.
تدمير المجتمع
ويشكو الفلسطينيون من تجاهل السلطات الإسرائيلية لتلك العصابات، وتركها تتحكم بهم بسبب الفراغ الأمني والقانوني، وتفرض الإتاوات عليهم بقوة السلاح وتفض النزاعات. ويصل الغضب الفلسطيني من غياب الأمن في المدن الفلسطينية داخل إسرائيل إلى حد اتهام السلطات الإسرائيلية بـ"تعمد تدمير المجمتع الفلسطيني من الداخل، وتركه يغرق في مشكلاته، حتى لا يتفرغ للهموم الوطنية الفلسطينية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فتلك العصابات، وفق متخصصين تحدثت إليهم "اندبندنت عربية"، "أصبحت لها الكلمة الأولى والأخيرة في الشؤون العامة للفلسطينيين، إضافة إلى مسؤولياتها عن السوق السوداء، وبيع المخدرات والسلاح، والدعارة، وحتى منح القروض المالية.
وأشار المتخصصون إلى أن تلك العصابات "وجدت في البلدات والمدن الفلسطينية داخل إسرائيل حديقة خلفية لها، بعد قضاء السلطات الإسرائيلية عليها في المدن اليهودية عام 2003".
خلال الـ48 ساعة الماضية، قتل تسعة فلسطينيين بينهم أطفال، منهم أربعة في الرملة، وواحد في مدينة الطيرة. ويتهم الفلسطينيون داخل إسرائيل الشرطة الإسرائيلية بـ"التواطؤ في تلك الجرائم وسط غياب الخطط الحكومية لمكافحة الجريمة".
ويتولى وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير المسؤولية عن جهاز الشرطة، في ظل اتهامات للوزير الإسرائيلي بالعنصرية، وإهمال المجتمع الفلسطيني، وتركه للجريمة المنظمة التي ارتفعت بصورة كبيرة في ظل الحكومة الحالية".
إثر تفجير الرملة، شارك بن غفير مع الشرطة الإسرائيلية في مداهمة أحياء عدة بالمدينة، حيث تم اعتقال عشرات من المتورطين في الجرائم.
وأقر بن غفير بـ"استيلاء المنظمات الإجرامية على الوسط العربي، بعد عقود من غض الطرف"، في إشارة إلى إهمال السلطات الإسرائيلية. موضحاً أن "شرطة إسرائيل تتجه إلى الحرب".
وأشار إلى أن "المهمة ليست بسيطة، فقد كانت الجريمة هنا تتراكم لأعوام عدة". متوعداً بـ "قطع رأس تلك الجريمة، والعمل الجاد لتحقيق مزيد ومزيد من النتائج ومنع عدد من الحوادث التي رأيناها بالأمس".
لأننا عرب
من جانبه، اتهم بسام أبو الحلاوة، وهو والد إحدى ضحايا تفجير الرملة، الحكومة الإسرائيلة بالمسؤولية عن "هذه الفوضى، وتفشي الجريمة المنظمة، لأننا عرب". مشيراً إلى أن "ما يحصل أمر لا يعقل. إذ لا يمكن تصور أن يلقي مجرم قنبلة على مركبة في شارع مليء بالمارة".
ويرى المحاضر في علم الإجرام داخل إسرائيل وليد حداد، أن نشوء الجريمة بين الفلسطينيين "بدأ إثر قضاء السلطات الإسرائيلية على العصابات الإجرامية عام 2003، إذ استخدمت حينها مختلف الوسائل والتقنيات بما فيها المسيرات، وإمكانات جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك).
وبحسب حداد فإن "ما نشهده اليوم في اللد والرملة وغيرهما من البلدات الفلسطينية، كان يحصل في تل أبيب ونتانيا إلى أن قررت الدولة القضاء على عصابات الإجرام لأنها تُشكل خطراً إستراتيجياً على إسرائيل". وبدأت تلك العصابات عملها خارج إسرائيل "بتسهيل لعب القمار وتجارة المخدرات والسلاح والدعارة والسوق السوداء والقروض المالية".
ووفق حداد فإن الفلسطينيين في إسرائيل "أدخلوا مع عصابات الجريمة المنظمة في إسرائيل، قبل أن يصبحوا رؤساء لها عندما انتقلت إلى مناطقهم". مضيفاً أن "الجريمة المنظمة كبقية القطاعات لا تقبل الفراغ، فقد انتقلت إلى المدن الفلسطينينية بعد محاربتها في المدن اليهودية".
وأضاف حداد أن "تلك العصابات وسوقها السوداء انتقلت إلى داخل المجتمع الفلسطيني، حيث غضّت السلطات الإسرائيلية الطرف عنها، وأصبحت على مدار الأعوام الماضية كالأخطبوط داخل المجتمع العربي، ولكن السلطات تأخذ الأمر بجدية حين يتعلق الأمر باليهود فقط".
بحسب حداد فإن السلطات الإسرائيلية "تحارب بشدة السلاح الأمني فيما تتجاهل السلاح الجنائي"، وهي تغض الطرف عن تجار السلاح إذا كانوا يبيعونه للاستخدام الداخلي، لكنها تلاحقه بقوة حين يُباع للمقاومة الفلسطينية".
وروى حداد عن تاجر سلاح في الداخل، كيف "تغاضت السلطات الإسرائيلية عن تجارته طوال 15 عاماً، لكنها حاربته عندما باع أسلحة لمخيم جنين".
وتابع أن تلك العصابات أصبحت تتحكم في المجالس المحلية عبر دعم مرشحيها ومحاربة منافسيهم. قائلاً إن ما "نشهده حالياً كانت تقوم به المافيا الإيطالية".
وقال إن السلطات الإسرائيلية "تركت الجريمة تنتشر في داخل المجتمع العربي الفلسطيني، ولم تعلن عن أية خطة لمحاربتها في ظل انهيار المنظومة الاجتماعية التقليدية للفلسطينيين، إذ أصبحت العائلات الكبيرة من دون أي تأثير".
وعن محاربة تلك العصابات، أشار حداد إلى أن ذلك "لا يتم عبر المنظومة الاجتماعية التقليدية، ولكن تلزمه خطة حكومية بعيدة المدى".
عمل حداد لأكثر من 20 عاماً في وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلي، حيث كان شاهداً على "الأيدي الخفية التي تشجع استمرار الجريمة بين الفلسطينيين في إسرائيل".
ردع المجرمين
تشير مديرة غرفة الطوارئ لمواجهة الجريمة والعنف في اللجنة القطرية للسلطات المحلية راوية حندقلوا، إلى "استعمال العصابات الإجرامية المتزايد والنوعي للسلاح المتوسط مثل الصواريخ والقنابل منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023".
ووفق حندقلوا، فإن الجريمة المنظمة والعصابات الإجرامية بدأت بالانتشار قبل أكثر من 10 أعوام، لكنها استفحلت قبل ثلاثة أعوام فقط، وأصبحت تسيطر على كافة مناحي حياة الفلسطينيين داخل إسرائيل".
وأشارت إلى أن ذلك تزامن مع اجتثات السلطات الإسرائيلية الجريمة المنظمة بين اليهود، فتلك الجريمة جددت نشاطها بالمجمتع العربي في ظل عدم وجود ثقة بين الشرطة الإسرائيلية والفلسطينيين".
وأوضحت أن انتشار البطالة، والفقر، وإهمال السلطات الإسرائيلية التنمية الاجتماعية بين الفلسطينيين، أسهموا في وجود الجريمة المنظمة إلى جانب انتقال العملاء الإسرائيليين من الضفة الغربية وقطاع غزة للإقامة بين الفلسطينيين داخل إسرائيل.
وبحسب حندقلوا فإن السلطات الإسرائيلية "تتعمد عدم ردع المجرمين، والقيام بمسؤولياتها بتوفير الأمن وفرض القانون، وهو ما تسبب في انتشار الجريمة وعصاباتها".
وأوضحت أن تلك العصابات أصبحت "تتولى حل النزاعات بين الفلسطينيين في ظل انتشار الخوف والرعب منها، كما أنها تفرض كلمتها في المجالس المحلية للبلديات، وفي العطاءات للمشاريع".
وشددت حندقلوا على أن الخروج من تلك "الدوامة يتطلب تدخلاً جدياً من السلطات الإسرائيلية"، مضيفة أن "المجتمع المدني الفلسطيني لا يمكن أن يقوم بذلك وحده، فهو قد يحارب العنف، لا الجريمة المنظمة".
وربط رئيس مركز "أمان" لمكافحة العنف كمال ريان، بين ازياد نسبة الجريمة في المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل وتغاضي الحكومة الإسرائيلية عن محاربتها، مضيفاً أنه عندما قرر شارون القضاء على الجريمة بين اليهود نجح في ذلك".
واتهم ريان السلطات الإسرائيلية بالمسؤولية عن انتشار الجريمة بين الفلسطينيين، مشدداً على أن المجتمع المدني الفلسطيني "غير قادر على محاربتها، فالقضية تحتاج إلى إمكانات دولة".
وعن أسباب ذلك، أشار ريان إلى أن إسرائيل "تريد عقاب الفلسطينيين على مشاركتهم في الانتفاضة الثانية"، مشيراً إلى أن الشرطة الإسرائيلية "تتعامل بعداوة مع الفلسطينيين".
ومن بين تلك الأسباب أيضاً بحسب ريان، "تفكك المجتمع العربي بفعل العولمة وتأثيراتها وتداعياتها، وفشل الأطر الاجتماعية التقليدية في القيام بواجبها للمساعدة في التصدي لذلك، وترهل المنظومة السياسية للفلسطينيين في الداخل، فخلافاتهم تمنعهم من الحصول على المقاعد الكافية في الكنيست الإسرائيلي لممارسة تأثيرهم".