Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قاهرة علاء خالد مرآة للإسكندرية في الانحياز الأنثوي

 الكاتب السكندري يتخلى عن الحذر ويقاوم تقطيع أوصال المكان

النيل والقاهرة بريشة محمد عبلة (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

 يكتسب كتاب "كرنفال القاهرة" للكاتب المصري علاء خالد (دار المرايا) أهمية خاصة، لأنه يأتي من خارج المكان، في المعنى الجغرافي. لكن القارئ المتابع لكتابات محرر مجلة "أمكنة" سرعان ما يدرك الصلة بين مكانين يتحرك بينهما خالد طوال تجربته الإبداعية المميزة، وهما مدينتا الإسكندرية والقاهرة.

 تحتل مدينة الإسكندرية مكانة مركزية في النصوص النثرية التي كتبها الشاعر المصري علاء خالد، والتي استهلها بكتابه "طرف غائب يبعث الأمل" مروراً بروايته الأولى "ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر" 2009، وحتى كتابه "وجوه الإسكندرية" 2017تقوم كتابة علاء خالد (مواليد 1960) إجمالاً على النظر في ما يمكن تسميته "دوائر الحنين"، ولكن لا يمكن القول بأنها كتابة ميتافيزيقية تقوم على التجريد، لأن فيها كثيراً من الاستبطان الفلسفي، وتستمد سحرها من تعاطيها مع الزمن المعطل، وتبقى دائماً محاطة بنبرة مستمدة من شعرية الحدس أكثر من أي شيء آخر.

 يتخلى الكتاب الجديد ضمنياً عن التجريد، ويذهب من دون حذر ناحية تقييم بعض التجارب والمسارات، إذ يستعرض المؤلف طرفا سيرته مع القاهرة وهي رحلة تقترب من 40 عاماً. ونعرف منها كيف فكر بالاستقرار فيها خلال سنوات التسعينيات، لكنه تراجع عن الفكرة بسرعة. وبعد فترة قصيرة جرب فيها العمل متدرباً في صحيفة صغيرة محدودة التوزيع، ثم رفض الاستمرار كي "لا يمتهن أسلوبه في إعادة صياغة موضوعات المحررين الآخرين".

عاد خالد من ثم إلى الإسكندرية راضياً، وظلت علاقته مع القاهرة حرة ونزيهة متحررة من الضغوط، ومستمرة بقوة الحرية المتبدلة. فقد فضل أن تكون العاصمة المركزية رئة جديدة لتجديد الهواء، فكلما غرقت مدينته الأولى في سبات الذاتية وأصبحت مدينة "غيتوهات نفسية" يذهب إلى القاهرة ليستشعر فيها المستقبل وأزماته، ومن ثم يعود إلى الإسكندرية بدماء جديدة. ومن ثم فإن القاهرة عنده هي "مرآة" للإسكندرية يبدو المستقبل فيها كأنما هو ماضي مدينته ولكن بعد أن يصير رماداً.

ذائقة جديدة وجماعات تغيب

يسرد علاء خالد تجارب نومه في الفنادق الصغيرة على امتداد سنوات العمر، عبر نصوص ذات طابع تسجيلي، فريد في قدرته على بناء المفارقات والتصدي للحظات العابرة التي راقب فيها المتع المسروقة، وتمتع بمراقبة الحياة من دون أن يكون متورطاً فيها.

ويستعيد بوعي القارئ الحاذق الكيفية التي ظهرت عليها القاهرة في نصوص مبدعين آخرين من أمثال نوال السعداوي وعلاء الديب وإدوارد الخراط وغالب هلسا وإبراهيم أصلان، مركزاً على تناول قاهرة الستينيات التي أعيد ترميزها في أدب جيل التسعينيات أو العقد الذي شهد بتعبيره "أفول النماذج الثقافية المبجلة"، وآخرها الكاتب أنور كامل أحد رموز الجماعات السوريالية الذي تعرف إليه وخصه بكتابة تستعيده كرمز مبجل. وفي السياق ذاته يسجل تجاربه في استكشاف الجماعات الثقافية التي كانت تتشكل والجماعات التي كانت على وشك الأفول، بعد أن فقدت جمهورها الأقرب إلى السياسة منه إلى الثقافة.

 ويقر بأن ذلك الجمهور تعامل مع غالبية تلك الوجوه في لحظات أقرب إلى الكرنفال، فهي وجوه عاشت بأسماء مستعارة، وامتلكت ذوات تعيش خارج نفسها.  يسمي التسعينيات "عقد الاستقالة الجماعية" من العمل السياسي، بحيث أصبحت كل الروابط القديمة قابلة للتحلل. ويتخذ خالد من نموذج الكاتبة أروى صالح مثالاً دالاً على انهيار الأفكار المثالية وتراجعها. فقد دخلت الكاتبة الراحلة نموذج الأضحية مضطرة، كما يقول، وتداعى معها مفهوم النموذج الذي يستدعي الماضي الذي تبخر بكل أحلامه وأوهامه أيضاً. ويرى في استعادتها بعد احتجاجات 2011 استعادة لنموذج يبلور الهزيمة بوجه عام. يضع علاء خالد في سياق الكتاب تصوراته حول التجارب الإبداعية لبعض كتاب جيله، بطريقة تعبر عن الصورة التي أرادها عن المدينة كجسد، ومن بين هؤلاء الشاعر مجدي الجابري والمؤرخ عبدالعزيز جمال الدين والمترجمان بشير السباعي وأحمد حسان.

 يسمي علاء خالد كتاب جيله بـ"جيل الاعترافات الحميمية"، لافتاً كيف تحررت الذات الإبداعية وأصبحت أكثر شجاعة في تخطي السرية القديمة التي أحاطت بالأجيال السابقة. فقد كانت التسعينيات في رأيه "عقد استهلاك وانتهاك المقدس الديني والاجتماعي معاً"، ولذلك اتسع فيها مفهوم الاعتراف ومفهوم الهامش أيضاً ورافق ذلك ضعف شديد، انتاب السلطة الأبوية الذكورية للمجتمع.     يشير المؤلف في مقدمته إلى أن القاهرة التي يحبها لم تكتب بعين المرأة، زاعماً أن المفاهيم النسوية التي شاعت حول الكتابة تجعل من القاهرة إحدى السلطات الذكورية المتسلطة، بوصفها رمزاً للمركزية، وهو تصور يحتاج في ظني إلى مراجعات، لأن كثيراً من كاتبات الجيل الحالي كن أكثر حرصاً على انتهاك رمزية القاهرة من الأجيال السابقة، بل إن كاتبة راسخة مثل سلوى بكر فعلت ذلك في نصوص كثيرة.

قاهرة الباطن وليس الظاهر

أحب علاء خالد القاهرة الأنثوية، أو قاهرة الباطن وليس القاهرة السياسية، التي تمجد الصدام مع السلطة وتتعاطى السياسة بل قاهرة المسافة، البعد والاحتواء، قاهرة الفاصلات بين الجمل الكبيرة بتعبيره، تلك القاهرة التي رسمتها سينما محمد خان ووسام سليمان حيث لا تزال بئر السلم تردد أصواتاً من وجود لزمن مضى.

 ينحاز المؤلف إلى ما يسميه القاهرة الطبيعية التي لها علاقة بدورات الحياة، وليس القاهرة الاجتماعية أو التي يتم تأويلها عبر الطبقات أو صراعات السلطة والهامش أو نظريات ما بعد الاستعمار. يمجد الكتاب كما يشير صاحبه "القاهرة الوجودية" لا القاهرة الخديوية أسيرة النظرة الخالدة، باحثاً عن قبس من قاهرة الحرافيش لنجيب محفوظ، تلك التي كانت تعيش غافلة في بداية تكوين القاهرة الحديثة، إذ تسطع كما يقول: "هذه القوى العليا للطبيعة، وتدخل في حياة الأفراد مباشرة، وتظهر في اللوحة قبل تعقد مفهوم السلطة، إذ لم يكن الجسد الحديث قد تبلور بعد وكان للحس الصوفي القوة الكبرى التي تهيمن على الحياة".  تقاوم رؤية علاء خالد إلى المدينة البتر الذي تتعرض له أوصالها، فالمدينة كما يتصورها جسد، وما تواجه حالياً عمليات بتر لا تتوقف لأطرافها، ويبدو أن الكتاب يحاول البحث عن تلك الأعضاء المبتورة في هذا الجسد والتي لم يعد لها وجود.

 يربط صاحب "متاهة الإسكندرية" لعبة التذكر بشيء يلح على لحظة ما أو أوقات معينة كانت ولم يعد لها وجود. وتكون جملة مثل "أحب القاهرة في هذا الوقت من العام"، قرأها ذات يوم في نص كتبته إحدى الفتيات، مفتاحاً للتعامل مع المدينة، لأنها تظل أقرب إلى ذكرى بعثت في شكل صورة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. تفتح هذه العبارة نفسه على أفق غير مرئي، ينظر إلى العاصمة المصرية من "حس الشمول" أو الكلية التي تسم القاهرة عبر التفاصيل. تستدعي التأملات التي يفيض بها الكتاب عوالم من النسيان، فتأتي بروائحها ومذاقاتها والإشارات المختزنة في الذاكرة، وكان الكاتب منحازاً إلى ما يسميه "الأطراف الشبحية" داخل المدينة، التي تتجسد في صورة قطعة أرض أو فضاء أو في الأشياء المتوهمة التي تستدعى في لحظات الإحساس بالفقد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يلفت الكاتب النظر إلى مفارقة تملكها القاهرة، وهي أن الماضي لا ينسى، ولا يكون المرء أسيراً له، لأنه أصبح ذائباً في الحاضر، فيمكن أن تسير معه من دون أي استقطاب زمني أو تاريخي، لذلك يلازمك الشعور بالخفة والقفز فوق التاريخ، ومهما حاولت التحرر من الذكريات فإنها تعود.

يفضل خالد ما يسميه "موسم التيه" وهو موعد مفتوح مع المدينة، ليس له وقت، لا يماثل تماماً تسكع بودلير الذي تناوله فالتر بنيامين، لأنه يفضي بصاحبه إلى نسيان كل تقسيم نفسي للمدينة، ويتجاوز حواجزها الطبقية أيضاً لأنه يحب القاهرة التي يختلط فيها القديم والحديث، والتي تتيح له أن يبدأها من علاقة "خلق جديد"، ومن ثم يليق بها الوصف الذي اختاره فهي "مدينة خلاصة وامتزاج، وتذويب أفقي لحقب تاريخية".  لا تفلت الرؤية الحاكمة للكتاب من إطار المرثيات، فكثير مما تستدعيه لم يعد له وجود، لذلك فإن الكاتب يؤكد أن القاهرة تتحول عنده إلى إسكندرية كفافيس يودعها ولكن من دون أن يبكي أمامها.

وعلى رغم ذلك لم تفقد المدينة جاذبيتها عنده، كما لم تتحول إلى مدينة بلا معنى، ربما لأن العلاقة التي أسسها معها تقوم على شيء جوهري أسبق من معنى الخسارة، بعيداً من السطح الهش للعلاقات التي يراها دعائية مع بعض المدن. فما تأسس معها جاء عبر طبقات معرفية وحدسية أخرى متداخلة لم تستنفد حتى الآن.

تمثل القاهرة عند المؤلف مدينة التمرد وبناء الخبرات خارج سلطة العائلة، إذ كانت تجربة الإقامة فيها توازي تجربة من سافروا إلى الخارج. فقد اعتاد اللجوء إليها كلما قرر الانسلاخ عن الإسكندرية، مانحاً ذاته للمدينة المنافسة، لذلك ظلت هي الآخر الذي يتطلع إليه وظلت تنمو إلى جواره بلا خوف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة