ملخص
أصحاب العمل الجيدون يدركون أن تحفيز القوى العاملة ومرونتها يعتمد على تقييم الأداء بناءً على النتائج، بينما تدّعي شركة أمازون أن وجود الفرق في نفس المبنى يعزز التعاون والتعلم و"ثقافة الشركة".
بعد مرور حوالى خمسة أعوام على بداية جائحة كورونا، لا نزال نعيش في خضم النقاش القديم والملح حول العمل من المنزل، ولكن مع تحول المواقف إلى معسكرات غير متوقعة.
هذا الأسبوع، نشهد مواجهة حامية بين الحكومة البريطانية والشركات الكبرى في هذه المعركة الشائكة. في الزاوية الحمراء من الحلبة، تقف أمازون، المؤسسة العملاقة التي أعلنت عن قرار إلزامي بعودة الموظفين إلى المكتب بدوام كامل لخمسة أيام في الأسبوع. وفي الزاوية الزرقاء، يقف حزب العمال الحاكم، إذ تعهد وزير الأعمال جوناثان رينولدز بإنهاء "ثقافة الحضور"، مؤكداً أن اعتماد الحق في العمل المرن كقاعدة أساسية يعزز ولاء الموظفين ويزيد من "تحفيزهم وقدرتهم على التكيف".
قال رينولدز لصحيفة "تايمز"، "يسهم ذلك في زيادة الإنتاجية ويعزز مرونة الموظفين وقدرتهم على الاستمرار مع صاحب العمل". وأوضح أن "أصحاب العمل الجيدين يفهمون أن الحفاظ على تحفيز ومرونة القوى العاملة يتطلب تقييم الأشخاص بناء على النتائج وليس على ثقافة الحضور".
تشكل هذه التعديلات جزءاً من حزمة جديدة من الإجراءات والتشريعات التي يجري إعدادها حالياً، والتي وصفها رئيس الوزراء كير ستارمر بأنها أكبر عملية إصلاح لحقوق العمال منذ جيل كامل. وعلى رغم التزامه بتنفيذ هذه التشريعات خلال 100 يوم من وصول حزب العمال إلى الحكم، أشار جوناثان رينولدز إلى أن التطبيق قد يستغرق وقتاً إضافياً "لضمان دقة التفاصيل".
في هذا السياق، لا يقتصر مفهوم "العمل المرن" على العمل من المنزل فقط، بل قد يشمل أيضاً السماح للموظفين بتنظيم ساعات عمل مضغوطة أو العمل فقط خلال فترات الدوام المدرسي لتلبية الالتزامات الشخصية أو مسؤوليات الرعاية. يأتي ذلك إلى جانب التشريعات المقرر أن تمنح العمال الحق في "إيقاف الاتصال" والتوقف عن تلقي أي اتصالات من صاحب العمل خارج ساعات العمل الرسمية.
في المقابل، ستدخل سياسة أمازون الجديدة حيز التنفيذ مع بداية العام المقبل، حيث اعترفت الإدارة بأن عدداً من الموظفين "قد قاموا بتنظيم حياتهم الشخصية بطريقة تجعل العودة إلى المكتب بدوام كامل لمدة خمسة أيام في الأسبوع تتطلب بعض التعديلات". سيتم إلغاء سياسة "الأماكن المشتركة في المكاتب" وسيتعين على العمال الحضور إلى المكتب ما بين ثلاثة وخمسة أيام في الأسبوع، باستثناء حالات محددة للغاية (مثل المرض، الطوارئ المنزلية، السفر لأغراض العمل، أو المهمات التي يتطلب إتمامها تركيزاً كاملاً). وتدعي أمازون أن وجود فرق العمل في المبنى نفسه يعزز التعاون والتعلم و"ثقافة الشركة".
إنها حقاً مفارقة غريبة في مسار الأحداث. في فترة ما سابقاً، كانت الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا الرائدة هي التي تتبنى أفكاراً مبتكرة وتدفع نحو مزيد من المرونة في العمل، وسباقة في طرح نماذج عمل مختلفة حيث يقاس النجاح بالإنتاجية والنتائج وليس بعدد الساعات التي يقضيها العامل ملتصقاً بالمكتب. كانت هذه الشركات تُعرف بأسلوبها "المرح وغير التقليدي" - حيث تحوي مكاتبها مساحات للعب الكرة وغرفاً للألعاب وتوفر عصائر مجانية للموظفين - لكن، وبصورة غير متوقعة، صارت هذه الشركات الآن صارمة جداً عندما يتعلق الأمر بالعمل من المنزل.
إلى جانب أمازون، توقفت شركة ميتا، المالكة لـ"فيسبوك" و"إنستغرام"، عن عرض العمل عن بُعد في إعلانات وظائفها خلال عام 2023، وفرضت "سياسة وقت الحضور الشخصي" التي تلزم جميع الموظفين بالعودة إلى المكتب لمدة ثلاثة أيام في الأقل في الأسبوع، في محاولة للحد من العمل من المنزل. أما إيلون ماسك، الذي كان دائماً من السباقين في اعتماد السياسات الجديدة، فقد أنهى فعلياً العمل عن بُعد في شركة "إكس"، المعروفة سابقاً بـ"تويتر"، عام 2022، من خلال مطالبة الموظفين بالحضور إلى المكتب لمدة لا تقل عن 40 ساعة في الأسبوع (على رغم أنه اضطر لاحقاً إلى تخفيف هذه السياسة بعد مواجهة "ردود فعل قوية").
وعلى رغم تقديمها مزيداً من المرونة، فإن شركة "زووم" تعد المثال الأكثر طرافة في هذا السياق. تلك الشركة التي طورت أداة كانت أساسية في تمكين عدد من الشركات من اعتماد العمل عن بُعد خلال الوباء، فرضت العام الماضي سياسة تلزم جميع الموظفين بالحضور "شخصياً" إلى مكان العمل ليومين بالأسبوع في الأقل.
وفي المملكة المتحدة، اتبعت شركات أخرى خطوات مماثلة، متراجعة عن سياسات العمل من المنزل لمصلحة العودة إلى المكتب. من بين هذه الشركات، نرى "بوتس" و"مانشستر يونايتد" و"ديل"، التي أصبحت جميعها تطلب من موظفيها الإداريين الحضور إلى المكتب بدوام كامل. كما قامت شركة "ديل" بتحذير موظفيها من أن عدم الالتزام قد يحرمهم من الترقيات أو زيادات الرواتب.
لا تتناقض التشريعات الجديدة التي يعمل حزب العمال على صياغتها بصورة لافتة مع هذه الممارسات التجارية فقط، بل مع الموقف السلبي السابق للحكومة تجاه العمل عن بُعد. فقد وصف رينولدز "حرب" النائب السابق جاكوب ريس-موغ التي شنها ضد العمل من المنزل بأنها "غريبة"، مؤكداً ضرورة تشجيع "الفوائد الاقتصادية الحقيقية" للعمل المرن.
بالطبع، يجد الموظفون المحتارون أنفسهم عالقين بين هذه المقاربات المتباينة. من جهة، يطلب منهم أصحاب العمل العودة إلى المكتب وإعادة تنظيم حياتهم بالكامل - حياة تم تعديلها بالنسبة إلى كثير بدقة على مدار الأعوام الأربعة الماضية لتوفير توازن أفضل بين العمل والحياة الشخصية، سواء من خلال تسهيل توصيل الأبناء من وإلى المدرسة، أو خصخصة وقت أكبر للهوايات، أو حتى تلبية المهمات المنزلية خلال منتصف الأسبوع - وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة. ومن جهة أخرى، يقود القادة السياسيون مسعى طموحاً نحو تغيير ثوري يرحب به كثير. ولكن، هل سيتمكن حزب العمال من تنفيذ هذه السياسات في بيئات العمل التي لا تزال متمسكة بثقافة الحضور الصارمة؟ ومن سيربح في معركة المرونة في مقابل الصرامة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بصفتي موظفة استفادت من الفرص التي أتاحها العمل عن بُعد لتحقيق حلمي الطويل في الانتقال من المدينة إلى الساحل، أعلم تماماً أن الحفاظ على حقي في الحضور إلى المكتب لبضعة أيام فقط في الأسبوع ليس مجرد ميزة، بل هو أمر ضروري. فإجباري على العودة فجأة إلى وظيفة مكتبية بدوام كامل سيغير حياتي بصورة جذرية إلى الأسوأ، إذ لن يضيف فقط رحلة ذهاب وإياب تمتد لأربع ساعات تقريباً إلى يومي، بل سيوصلني إلى الإفلاس بفضل كلف النقل المرتفعة بصورة مفرطة.
سيشمل قانون حقوق العمل الجديد تضمين العمل المرن كحق أساس، ولكن من المؤكد أن ممارسة هذا الحق في بيئة لا تحترمه (وأنا أشير هنا إليك يا جيف بيزوس) ستكون مهمة شاقة للغاية على الموظفين. قد يتسبب ذلك، بهدوء ومن دون إثارة أي ضجيج، في الإضرار بفرصهم وإعاقة تقدمهم المهني.
لقد أشار رينولدز بالفعل إلى أنه لن يتم إجبار الشركات على تقديم فرص للعمل عن بُعد، قائلاً "هناك أوقات يكون فيها وجود العمال في المكتب ضرورياً، وهذا أمر مشروع". وأضاف "نريد أن يكون الحق في العمل المرن هو القاعدة الأساسية، لكن ذلك لا يعني أن الجميع سيعمل من المنزل فقط". كما أوضح أن حزب العمال لن "يُلزم كل الشركات" بالسماح بالعمل من المنزل، مؤكداً أنه "ليس هناك ما يثير قلق أية شركة حقاً في هذا المجال".
أملي الكبير هو أن تنجح الحكومة في تحقيق نصر مظفر في معركة تأمين مزيد من المرونة للموظفين. ولكن، إلى أن يزول الغموض وتُحسم الأمور، أخشى أن نضطر جميعاً إلى مواصلة التكيف مع هذه التحديات لفترة أطول.
© The Independent