ملخص
يعد سلاح الاغتيالات أحد أهم مركبات نظرية الأمن وأداة محورية تحظى بغطاء قانوني وبإجماع كافة مؤسسات صناعة القرار الإسرائيلية، ويقدم على وسائل أخرى كالاعتقالات والإبعاد.
جرت العادة على أن يغتال شخص أو مجموعة سياسية معارضة أو حزب سياسي شخصيات سياسية أو سفيراً ما أو رئيس حكومة أو رئيس دولة كوسيلة تعبير عنيف للاعتراض على السلطات الشرعية والرسمية أو على قرارات اتخذها هذا الشخص بسبب سلطته أو بسبب مشروعه السياسي.
والاغتيال وسيلة سهلة ورخيصة وذات نتائج ومفاعيل كبيرة، ويؤثر في قضية أو عمل أو مصالح المقدم عليه، وغالباً ما يكون الهدف إشهار هذه العملية كدعاية لقضية ما قد لا تكون معروفة قبل الاغتيال.
انقلبت هذه القاعدة في القرن الـ20 والقرن الحالي، وراحت السلطات الحكومية بواسطة أجهزتها المختلفة تستخدم وسيلة الاغتيال للتخلص من معارضيها أو ممن يشكلون تهديداً لأمنها القومي، أو لقتل قادة جماعات مسلحة إرهابية أو زعماء عصابات إجرامية أو تجار مخدرات هاربين من العدالة، أو حتى علماء أفشوا أسرار الدولة لدولة أخرى، أو للتخلص من معارضين سياسيين يعيشون في دولة معادية تحميهم.
دخلت هذه الاغتيالات المشرعنة أو المقننة ضمن أدوار جديدة للسلطة الحكومية تقوم فيها بأعمال من المفترض أنها مخالفة للقانون في أساسها، إذ إن القوانين تكفل لكل شخص مهما كان حجم ونوع جريمته المثول أمام القضاء والدفاع عن نفسه والحصول يحصل على محاكمة عادلة.
اغتيالات الدولة، وهو الاسم الجديد لعمليات الاغتيال التي تنفذها السلطات اضطراراً على شخص لا يمكن القبض عليه حياً أو على شخص يخضع لحماية كبيرة من محازبيه أو من سلطة دولة أخرى أو على أن يكون قتله أفضل من عرضه أمام الجمهور في محاكمة علنية.
سياسة حربية حكومية
تجند دول أجهزتها للقيام بعمليات الاغتيال، ومنها الولايات المتحدة، وتحديداً عمليات الاغتيال التي طاولت قيادات الجماعات الإرهابية حول العالم وأشهرهم أسامة بن لادن في 2011 وقائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في 2020 في غارة أميركية بواسطة طائرة من دون طيار في العراق بسبب دوره في تهديد المصالح الأميركية حول العالم.
والحكومة الإيرانية بدورها تقوم باغتيال المعارضين، وكان أشهرهم شاهبور بختيار في باريس عام 1991 وهو آخر رئيس وزراء في عهد الشاه، وكذلك فعلت كوريا الشمالية أيضاً حين اغتالت كيم جونغ نام في 2017، وهو الأخ غير الشقيق للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، بغاز الأعصاب VX في مطار كوالالمبور.
وكذلك تشتهر روسيا باغتيال المعارضين السياسيين المقيمين في الخارج بطرق مبتكرة، ومنها التسميم أو الحقن بفيروسات مصنعة في المختبرات، وكان أهمها وأشهرها اغتيال المعارض الروسي ألكسندر ليتفينينكو في عام 2006، وهو ضابط سابق في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي تم تسميمه بمادة "البولونيوم-210" في لندن بعد انتقاده للقيادة في الكرملين، وكان آخرها اغتيال زعيم المعارضة الروسية بوريس نيمتسوف عام 2015 بالرصاص قرب قصر الكرملين بسبب معارضته الشديدة لسياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وهناك الاغتيالات ذات الطبع الديني، ولا سيما في المناطق التي يغلب عليها الصراع العرقي والمذهبي، إذ يعتقد القائم بعملية الاغتيال هنا بأنه صاحب عقيدة يجب عليه أن يضحى بنفسه من أجلها، فيغتال آخرين بدافع الجهاد الديني، وهذا النوع من الاغتيال لا يعطى حقه من الاهتمام بسبب اعتباره جهاداً أو مقاومة أو دفاعاً عن أقلية دينية معينة، ويوضع في أطر مختلفة في التصنيفات الإعلامية على رغم أنه من الاغتيالات الأكثر وقوعاً في أنحاء كثيرة في العالم، خصوصاً في الدول الأفريقية التي تخضع لنزاعات عرقية أو إثنية أو في دول العالم ذات التنوع الديني والمذهبي في شرق آسيا والهند وباكستان.
سياسة إسرائيلية مفضلة
يعد سلاح الاغتيالات أحد أهم مركبات نظرية الأمن وأداة محورية تحظى بغطاء قانوني وبإجماع كافة مؤسسات صناعة القرار الإسرائيلية، ويقدم على وسائل أخرى كالاعتقالات والإبعاد.
على سبيل المثال لجأت دولة إسرائيل للاغتيال السياسي منذ أواسط القرن الـ20 كوسيلة حربية تضاهي بعض أهم الأسلحة العسكرية، وقد وقع ضحية عمليات الاغتيال عشرات من قيادات الجماعات المسلحة الفلسطينية وكذلك مفكرون سياسيون وقادة حركات فلسطينية غير مسلحة، ولائحة أسماء هؤلاء طويلة بدءاً من مؤسس حركة "حماس" الشيخ أحمد ياسين ويحيى عياش وأحمد الجعبري ورائد العطار، وكذلك صلاح شحادة وعبدالعزيز الرنتيسي وغيرهم ممن استهدفتهم آلة الاغتيال السياسي الإسرائيلي.
وينضم إليهم منذ بدء حرب القطاع أسماء بارزة في حركة "حماس" مثل أيمن نوفل وصلاح العاروري وسمير فندي وعزام الأقرع، وكذلك أحمد بحر وجميلة الشنطي وأيمن صيام، إضافة إلى أسامة المزيني وأحمد الغندور، والقائمة تحوي محمد الضيف الذي استهدف من دون قتله قبل أيام، وفق الرواية الإسرائيلية.
وكان الجيش الإسرائيلي وزع على جنوده في ديسمبر (كانون الأول) 2023 نحو 10 آلاف بطاقة لعب (كوتشينة) مطبوع عليها أسماء ووجوه قادة "حماس" المطلوب استهدافهم في القتال داخل قطاع غزة، وأبرز هؤلاء زعيم الحركة في القطاع يحيى السنوار ورئيس جناحها العسكري محمد الضيف.
الاغتيالات السياسية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الذي لا يخلو من المكون الديني لما آلت إليه القضية خلال العقود الأخيرة تمثل جزءاً وثيقاً من سبل الصراع السياسي بين الاحتلال والمقاومة.
حتى الأمس ما زالت إسرائيل تستعمل سلاح الاغتيال والتصفية الجسدية للقيادات السياسية والعسكرية في "حزب الله" اللبناني وحركة "حماس"، وفي عرف تل أبيب فإن استراتيجية الاغتيال قد تحقق من النتائج الفعالة ما لا تحققه معارك كثيرة، إذ قد يؤدي مقتل قائد عسكري أو سياسي ذي موقع مهم في التركيبة الهرمية لمنظمته إلى زعزعة قوة هذه المنظمة ودك أركانها وتركيبتها، وقد يؤدي إلى تغيير وتبديل في عقلية الجماعة كلها في حال طاول الاغتيال مجموعة من القيادات، يصبح ملء الفراغ الذي يخلفونه كثير التعقيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الاستراتيجية تستخدمها إسرائيل بصورة واضحة وبإصرار منذ بدء الحرب على غزة وجنوب لبنان قبل عام تقريباً في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وكانت إسرائيل اغتالت في هذا العام ما يقارب 500 شخصية من مختلف الدرجات داخل التسلسل الهرمي لـ"حزب الله"، والأمر نفسه ينطبق على حركة "حماس"، كما انطبق قبلها على حركة "فتح" وعلى سائر الجماعات الفلسطينية المسلحة مثل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" و"الجبهة الديمقراطية" أيضاً.
مثل لبنان تاريخياً أحد أبرز المسارح للاغتيالات الإسرائيلية، وتحديداً في فترة الحرب، نظراً إلى هشاشته الأمنية وسهولة اختراقه، فعلى المستوى الفلسطيني، كانت أولى العمليات في سبتمبر (أيلول) 1972، حين اغتال الموساد الروائي والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني، بعبوة ناسفة بسيارته في بيروت.
وفي أبريل (نيسان) 1973 سجلت إسرائيل أبرز عمليات اغتيالها بقيادة رئيس حكومتها السابق إيهود باراك، بالتسلل بحراً إلى بيروت، لتطاول ثلاثة قياديين فلسطينيين، وهم محمد يوسف النجار وكمال ناصر وكمال عدوان، الذين كانوا من قادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية.
في يناير (كانون الثاني) 1979، اغتالت إسرائيل في بيروت القائد بمنظمة التحرير الفلسطينية و"أيلول الأسود"، علي حسن سلامة، الملقب بـ"الأمير الأحمر"، وطاولت يد الغدر الإسرائيلية عدداً كبيراً من رموز المقاومة في لبنان، ففي فبراير (شباط) 1984، اغتالت تل أبيب الشيخ راغب حرب، الملقب بـ"شيخ شهداء المقاومة الإسلامية".
وفي ديسمبر (كانون الأول) 1989، أغارت إسرائيل على مقر الحزب الشيوعي اللبناني بالرميلة في جبل لبنان، فقتلت قادة من جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أبرزهم قاسم بدران وحكمت الأمين، وفي فبراير 1992، اغتالت إسرائيل ثاني أمين عام لـ"حزب الله" عباس الموسوي، بقصف مروحيات إسرائيلية لموكبه جنوباً.
واغتالت إسرائيل في دمشق القائد العسكري في "حزب الله" عماد مغنية في فبراير 2008، واغتالت القائد العسكري حسان اللقيس في يناير 2013، أمام منزله في بيروت.
وبحسب التقدير الإسرائيلي، فإن الاغتيالات تلعب دوراً مهماً في المس بقدرة التنظيم على مواصلة العمل المسلح من خلال ضرب أطره القيادية والميدانية، وتنطلق المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من افتراض مفاده أن القيادات الجديدة التي تتولى مقاليد الأمور محل القيادات التي تغتال، لا تكون في الغالب بمستوى القيادات التي يتم اغتيالها من حيث السمات القيادية والأداء.
ويفيد الاغتيال السياسي إحداث فراغ في رأس الهرم القيادي للتنظيم المستهدف، من خلال ضرب القيادات السياسية والتأثير في قدرتها على مواصلة العمل، وكلما كان التنظيم أصغر حجماً كان لسياسة الاغتيالات دور أكبر في تعطيل قدراته العملياتية، كما جاء في بحث الفلسطيني صالح النعامي، المتخصص في الشأن الإسرائيلي.