ملخص
انطلق موسم الجوائز الروائية والأدبية في فرنسا، ولعل جائزة "غونكور" العريقة التي أُسست عام 1903 تعد الأبرز بين هذه الجوائز. ولعلها توازي على المستوى الفرنسي والفرنكوفوني جائزة "البوكر" البريطانية، فالكاتب الذي يفوز بها ينتقل فوراً إلى العالمية ويترجم إلى لغات كثيرة. ما هي جائزة "غونكور" التي يحتفي الوسط الثقافي الفرنسي هذا العام بمرور 122 عاماً على إطلاقها والتي يعلن اسم الفائز بها في أوائل نوفمبر (تشرين الثاني)؟
بغية الإجابة عن السؤال حول جائزة غونكور، كان لا بدّ من العودة إلى الكتاب الجميل الذي ألفه جان-إيف لو ناور وكاترين فالانتي وعنوانه "مئة وعشرون عاماً على جائزة غونكور، تاريخ أدبي فرنسي"، الصادر في باريس عن دار أومنيبوس/ بيرّان. وفيه يستعيد المؤلفان تاريخ هذه الجائزة التي تعدّ أهم جائزة أدبية في فرنسا أُسست عام 1903، ثم تحولت إلى أكاديمية ثقافية تُعنى بالأدب المكتوب باللغة الفرنسية.
يقول لنا الكتاب إن أكاديمية "غونكور" تَمنحُ سنوياً جائزة لنصٍ سردي متوهج بملمحه وأسلوبه، يمثل محطة مهمة في مسار الكتابة الفرنسية الحديثة. وإن من بين الذين نالوا الجائزة عبر التاريخ ألفونس دو شاتوبريان وهنري ماليرب ومارسيل بروست وجان فايار وسيمون دي بوفوار وجورج دوهاميل وغيرهم من كبار أعلام الأدب والرواية الفرنسية. وقد أُنشأت الأكاديمية ومن ثم الجائزة، التي ترأس لجانها كتّاب عظام أمثال جوريس-كارل هويزمانس وكوليت وهيرفي بازان وفرانسوا نوريسيه وإدموند شارل رو وغيرهم، تحقيقاً لوصية الناقد والأديب والناشر أدمون دو غونكور، وتخليداً لذِكرى شقيقه وشريكه جول (1830 -1870) بعد أن أوقف كل أملاكه لتأسيس الأكاديمية ولتمويل الجائزة السنوية التي تُمنح لأفضل عمل إبداعي أدبيّ. تولى تنفيذ الوصية صديقيّ غونكور الكاتبين ألفونس دوديه وليون هنّيك المرتبطين مثله بالمدرسة الطبيعية، والذي امتزج الخيال في أعمالهما بالتفاصيل الواقعية للحياة اليومية.
وجائزة "غونكور" في الواقع عبارة عن جوائز أربع، الأولى هي جائزة "غونكور" للرواية، والثانية للقصة القصيرة، في حين أن الجائزة الثالثة مخصصة للشعر، والرابعة والأخيرة تمنح لأدب السيرة الذاتية. غير أنه في عام 1987، تأسست جائزة "غونكور" لطلبة المدارس الثانوية كثمرة تعاون بين الأكاديمية ووزارة التربية الفرنسية وشركة "فناك" المُختصة بتسويق الكتب والتسجيلات الموسيقية والأفلام.
ليس سرّاً الاعتراف أن الجائزة تغيّر مسرى حياة الكتّاب الذين يحصلون عليها، إن على الصعيد المالي أو المعنوي. ذلك أنها تُعد سبباً لبيع مئات آلاف النُسخ من الكتاب الفائز، فضلاً عن التكريم والمكانة الأدبية المرموقة التي يحصل عليها الأديب في المشهد الثقافي الفرنسي، علماً أن الجائزة تبين لنا على طريقتها، تاريخ الآداب في فرنسا. هذا ما يظهره لنا بالتحديد كتاب جان-إيف لو ناور وكاترين فالانتي الذي يحدثنا عن الصعوبات التي رافقت نشأة الأكاديمية والجائزة. إذ فُتحت بعد وفاة إدمون غونكور معركة قانونية وسياسية طويلة بين الورثة ومنفذي الوصية، كما احتدمت الجدالات المتعلقة بمستحقي الجائزة.
يزودنا الكتاب بمئات التفاصيل المثيرة للاهتمام في ما يتعلق باختيار الفائزين بالجوائز منذ عام 1903 تاريخ منح أول جائزة للروائي والشاعر الفرنسي الأميركي جان-أنطوان نو عن كتابه "قوة عدوة".
خفايا الجائزة
يروي لنا المؤرخان بكثير من الإلمام حيناً ومن الخبث أحياناً الخفايا المتعلقة باختيارات أعضاء الأكاديمية العشرة، سنة بعد سنة، والضغوطات التي تُمارس عليهم من قبل الناشرين والتدخلات والمكائد والمفاجآت والنجاحات والإخفاقات والإصلاحات والجدالات المستمرة. فيستعيدان حكايا البدايات منذ مطالبة أحفاد إدمون دو غونكور أمام المحاكم بحقهم بالإرث واستئنافهم القضايا العديدة التي خسروها حتى تمكنت الأكاديمية من وضع يدها على الثروة واستخدامها، كما أراد إدمون وشقيقه جول، لبناء "أكاديمية فرنسية مضادة" تتوجّ أفضل عمل نثري أدبي إبداعي صدر خلال العام. وقد كان لمنح الجائزة دور في ازدهار الرواية الفرنسية وانتشارها، وهي بالتحديد النوع الأدبيّ الذي نظرت إليه "الأكاديمية الفرنسية" التي أسّسها الكاردينال ريشليو في القرن السابع عشر بازدراء.
شاركت أكاديمية "غونكور" على ما يقول لنا الكتاب بتنشِّيط حقل الأدب وحفّزت على الإنتاج الجيد. لكنها بالمقابل أسهمت في تحويل الكتاب إلى منتج للاستهلاك الكبير وترويجه كسلعة والتحكم في ذائقة القارئ واختياراته. إذ يُعَدُّ الإعلان عن اسم الفائز بالجائزة شهراً ونصف قبل أعياد الميلاد ورأس السنة، مناسبة لتسويق كتابه، على رغم أن قيمة الجائزة اليوم لا تتعدى 10 يورو. إلا أنها أصبحت بمعنىً ما آلة لتصنيع أفضل الكتب مبيعاً، على غرار رواية "الانحراف" لهيرفي لو تيلييه (غاليمار، 2020)، التي بيع منها أكثر من مليون نسخة.
يجدر الاعتراف أن الجوائز الأدبية ليست دوماً معياراً نهائياً لجودة الأعمال وتفوقها. فقد تغفل الجائزة عن أعمال مهمة وتخطئها، وقد تسحب عدداً كبيراً من عديمي الموهبة، أو حتى من الكتّاب الناجحين في ميادين أدبية أخرى، لتجريب حظهم في كتابة الرواية، عسى أن يفوز عملهم بالجائزة، فيما تجعل آخرين من مبدعي الرواية يستعجلون كتابتها، فيصدرون كل سنة عملاً ليلحقوا بالجائزة، وإذا بإبداعهم ينحدر درجات.
هذا الدور الرئيسي في النشر يفسّر لنا الضغوطات التي تمارس على جائزة "غونكور" وعلى غيرها من الجوائز الأدبية الفرنسية، ويبين لنا أسباب الانتقادات التي تطاولها والأزمات المتكرّرة التي تمرّ بها. "لعل أخطرها، على ما يقول الكاتبان، تلك التي هزت الأكاديمية خلال الحرب العالمية الثانية". ففي عام 1941، نجح فريق بقيادة رينيه بنجامين وساشا غيتري بجعل بيار شامبيون المؤيد للماريشال فيليب بيتان عضواً في لجنة الجائزة، وبتتويج كتاب هنري پورا المسمّى "هواء مارس (آذار)" والذي يسوق لأفكار الماريشال ولضرورة العودة للأرض الخاضعة للسلطة النازية. يقول لنا المؤلفان إن بعض أعضاء الأكاديمية طالبوا وقتها مجلس شورى الدولة الفرنسية بإبطال انتخاب شامبيون ومنحوا الجائزة التي سُميت "غونكور فرنسا الحرّة" لرواية أخرى منافسة؛ وإنه بعد تحرير فرنسا من سلطة الاحتلال النازي، أوقِفَ ثلاثة أعضاء من الأكاديمية وعُرضوا للمحاكمة بتهمة التعاون مع العدو. وما مَنحُ الجائزة للمرة الأولى عام 1944 إلى إلزا تريوليه المرأة اليهودية الشيوعية المقاومة برأي المؤرخين إلا محاولة لتبييض صفحة الأكاديمية والتبرؤ من أخطائها.
رفض وأفخاخ
يأتي الكتاب كذلك على سيرة تفاصيل رفض جوليان غراك للجائزة عام 1951 وعلى خفايا قضية رومان غاري أو إميل آجار عام 1975 وحصوله على الجائزة مرتين، مرة باسمه ومرة أخرى باسم مستعار. كما يتناول العديد من الجدالات والانتقادات التي تعرضت لها الجائزة عبر تاريخها.
لا ينسى مؤلفا كتاب "مئة وعشرون عاماً على جائزة غونكور، تاريخ أدبي فرنسي"، من التطرق إلى الضغوطات التي تمارسها دور النشر الفرنسية الكبرى كـ"غاليمار" و"غراسيه" و"سوي"، التي يشبهانها بهيدرا الأسطورة اليونانية الشهيرة ذي الرؤوس الثلاثة، بسبب "ابتلاعها"، على حدّ قولهما، ثلاثة وعشرين جائزة "غونكور" من بين تسعة وعشرين مُنحت ما بين الأعوام 1960 و1989. وقد حاول بعض أعضاء لجنة الجائزة في السنوات الأخيرة بحسب لو ناور وفالنتي إحباط هذه الاتهامات من خلال تعديل بعض قوانينها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتوقف الكتاب كذلك أمام موضوع آخر حسّاس هو مكانة المرأة في الأكاديمية والتي ما زالت النساء من بين أعضائها قلة، في حين أن عدد اللواتي حصلن منهن على الجائزة منذ تأسيسها عام 1903 لا يتجاوز الثلاثة عشر. ويبدو أن القيمين على الأكاديمية والجائزة بدأوا منذ العام الماضي بتصحيح المسار، عندما وضعوا، وللمرة الأولى منذ تأسيس الـ"غونكور"، قائمة الأسماء المرشحة لنيل الجائزة لعام 2022، إذ ضمّت أسماء نساء فاق عددهن عدد الرجال المرشحين.
يطرح الكتاب أخيراً السؤال عن الأنواع الأدبية للكتب الفائزة، علماً أن الرواية تحظى دوماً بالأفضلية تنفيذاً لوصية المؤسس. غير أن رواج الكتب الواقعية وغير الخيالية التي تتجنب إطلاق سراح إبداع المؤلف وترّكز على وصف حياة الأفراد ومآسيهم وتعاملهم مع مجريات الأمور، جعل الأكاديمية تضع في أولويات لوائح اختياراتها المزيد من السرديات البعيدة عن الفن الروائي. هذا ما حصل بالفعل حين مُنحت الجائزة عام 2022 لكتاب "العيش بسرعة" لبريجيت جيرو، الصادر عن دار "فلاماريون"، والذي تستعيد الكاتبة فيه تفاصيل الكارثة المأساوية التي أدّت إلى موت زوجها في حادث درّاجة نارية عام 1999، على رغم معارضة نصف أعضاء الأكاديمية.
يواكب كتاب "مئة وعشرون عاماً على جائزة غونكور، تاريخ أدبي فرنسي" صدور النصوص الأدبيّة، الشعرية منها والنثرية، ويخوض في كواليس أرفع الجوائز الأكاديمية شارحاً لنا اختلاط الأدب بالتجارة ودخول الكتاب سوق الاستهلاك، ودور وسائل الإعلام في لفت الأنظار إلى هذا الكتاب أو ذاك، كما يتوقف أمام منح الجائزة لروايات عظيمة استحقت التقدير، محاولاً اختصار المشهد الأدبي في فرنسا.