Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية الحكاية في خلفية "عايدة" الأوبرا الأكثر شهرة

لحنها الإيطالي فيردي بناء على رغبة الخديوي بمناسبة "افتتاح قناة السويس" لنفح روح أوروبية في مصر

مشهد من تقديم لأوبرا "عايدة" (موقع الأوبرا)

ملخص

"من المعروف أن أوبرا عايدة" التي قدمت بمناسبة افتتاح قناة السويس تتحدث عن صراع عسكري قام بين مصر وإثيوبيا في زمن الفراعنة وكان النصر فيه للمصريين، غير أن هذا الجانب السياسي – التاريخي ليس أهم ما في هذه الأوبرا بل أهم ما فيها جانبها الفني

لا شك أن أوبرا "عايدة" للموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي الذي كان المنافس الرئيس لزميله الموسيقي الألماني الكبير ريتشارد فاغنر خلال النصف الثاني من القرن الـ19، هي العمل الأوبرالي الأكثر شهرة في العالم العربي إن لم يكن حول العالم كله. ناهيك بكونها الأكثر إثارة للسجال منذ كتب عنها الكاتب الفلسطيني – الأميركي إدوارد سعيد دراسة بالغة الأهمية بعنوان "عايدة أوبرا إمبريالية".

وطبعاً لسنا هنا في صدد الحديث عما عده كثر "افتراءت سعيد على هذا العمل الأوبرالي الكبير"، فيما عدها كثر آخرون من أهم الدراسات المعمقة التي كتبت عن أية أوبرا في تاريخ هذا الفن. وما يهمنا هنا هو العودة إلى هذا العمل الرؤيوي الكبير اليوم لمناسبة التوتر الذي خلقه الإثيوبيون في تنافسهم مع المصريين حول مياه نهر النيل، التي تنبع في جزء منها من بحيرة تانا الإثيوبية لتصب في مصر مروراً بالسودان.

وطبعاً نعرف أن "عايدة" لا تتحدث عن هذا بل عن صراع عسكري قام بين مصر وإثيوبيا في زمن الفراعنة وكان النصر فيه للمصريين. غير أن هذا الجانب السياسي – التاريخي ليس أهم ما في هذه الأوبرا بل أهم ما فيها جانبها الفني، وإن كانت تنم عن جانب سياسي لا علاقة له بموضوعها مما سندنو منه في السطور التالية.

الطريق إلى أوروبا

الجانب السياسي الذي نعنيه هنا لا يتعلق ولا حتى بموضوع الأوبرا بل بما يكمن في خلفية خلقها خلال العقدين السابع والثامن من القرن الـ19، وهو خلق يمكننا عزوه قبل أي شيء آخر إلى الخديوي المصري إسماعيل الذي كان على إيمان كلي بأن أفضل ما قد يحدث لمصر هو أن تتوجه صوب أوروبا، بل حتى إن تجتذب أوروبا إليها. ولقد كانت نهاية أشغال حفر قناة السويس التي أدت بين ما أدت إليه إلى ربط أوروبا بالشرق الآسيوي جاعلة من مصر واسطة العقد في ربط كان الخديوي يعرف أنه سيعود على بلده بالخير العميم، ويوسع من دورها الأوروبي مدخلاً إياها في الحداثة العملية في نوع من عولمة أتت قبل العولمة بزمن.

ومن هنا فإن الخديوي الذي كان من مآثره نقل العمران الرائع الذي وطده البارون هوسمان في وسط العاصمة الفرنسية باريس إلى وسط القاهرة، وشجع إرسال مزيد من بعثات الطلاب ليتلقوا علومهم العصرية في باريس وغيرها من العواصم الأوروبية، رأى وقد اقترب موعد افتتاح قناة السويس خلال الـ17 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1869 أن من المناسب أن يصحب ذلك الافتتاح باحتفالات لا مثيل لها في تاريخ المنطقة، تكون في حد ذاتها إعلاناً عن حضور مصر في أوروبا وحضور أوروبا في مصر.

ديون وفن واستعمار

صحيح أن الديون تراكمت على مصر مفلسة خزينتها من جراء كل تلك المشاريع العمرانية والحضارية التي أصر الخديوي على تنفيذها غير آبه بما ستسفر عنه من إفلاس مصري، سيكون بعد حين في خلفية احتلال الإنجليز لهذا البلد وطيهم صفحة الخديوي إسماعيل وصفحة مشاريعه، غير أن ذلك كله سيكون لاحقاً أما الآن فكنا لا نزال وسط الأبهة الإسماعيلية التي رأى الخديوي أنها لن تستقيم إلا بإيجاد عمل أوبرالي كبير يصحب مناسبة احتفالات الافتتاح. والحقيقة أن الفكرة لم تكن من بنات أفكار الخديوي على رغم حبه للموسيقى وشغفه بفن الأوبرا، بل من أفكار عالم الآثار المصرية الفرنسي المعروف عالمياً مارييت باشا الذي كان مستشاراً معتمداً من القصر الخديوي في شؤون التاريخ الفرعوني. لكن الحقيقة أنه حين كتب مارييت تلك الحكاية التي تجري فصولها أيام الفراعنة عند ختام صراع عسكري ضخم قام بين المصريين والإثيوبيين وكانت بلداهما أكبر دولتين في الشرق الأفريقي حينها، بل ربما كانتا الدولتين الوحيدتين المنظمتين و"الإمبرياليتين"، كان مارييت يكتبها على سبيل الترفيه لكنها حدث لها أن وقعت بصفحاتها الأربع بين يدي الكاتب والشاعر الإيطالي دو لوكلي الذي كان صديقاً لعالم الآثار الفرنسي، فأدرك من فوره أنه أمام أساس حبكة يمكن تطويرها لتتحول إلى عمل أوبرالي يصلح لأن يكون جزءاً أساساً من الاحتفالات المقبلة.

بين الخديوي والعالم

يومها التقى مارييت الخديوي ناقلاً إليه في هذا السياق رأي دو لوكلي فاستهوت الفكرة إسماعيل على الفور وطلب من مارييت تحقيق المشروع "بصرف النظر عن كلفته"، ومن المعروف أن هذه العبارة كانت سُنة يتبعها إسماعيل كلما عرض عليه مشروع تحديثي. ومن هنا أصدر قراره على الفور بأن يكلف دو لوكلي بتحويل الصفحات الأربع إلى سيناريو لعمل أوبرالي ضخم. والحقيقة أن الفكرة وصلت إلى الشاعر الإيطالي في لحظة كان يتراسل فيها مع صديقه كبير موسيقيي إيطاليا في ذلك الحين فيردي، الذي كان أصلاً اتصل به فور سماعه نبأ موت زميله روسيني حينها طالباً عونه لكتابة قداس لراحة نفس هذا الأستاذ الكبير، على أن يتشارك في العمل عليه عدد من كبار الموسيقيين الإيطاليين.

صحيح أن ذلك المشروع لم يتحقق لكن المناسبة فتحت المجال للنقاش بين فيردي ودو لوكلي من حول التعاون في مشروع أوبرالي مقبل، فاقترح الشاعر موسقة لمسرحية موليير "طرطوف" أو لنص "فروفرو" لميياك وهاليفي أو لمسرحية هزلية إسبانية أو حتى لمسرحية لفيكتوريان ساردو. في اختصار كان المشروع مشروع تعاون بين الشاعر والموسيقي الأوبرالي الكبير، وكان من حظ قصة مارييت أن وقعت في تلك اللحظة نفسها بين يدي دو لوكلي وقد حظيت بمباركة الخديوي وقراره بأن يكون كريماً في الإنفاق على العمل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الثلاثة الكبار

وهنا لا بد من الإشارة إلى ما يُحكى من أن الخديوي نفسه أصدر تعليمات مشددة بأن يعهد بموسقة المشروع إلى واحد من ثلاثة موسيقيين أوروبيين كبار ينتمي كل منهم إلى واحد من البلدان التي تستثير شغف سيد مصر. فالاختيار يجب أن ينحصر بين الألماني فاغنر والفرنسي غونو (صاحب أوبرا "فاوست" عن مسرحية غوته الشهيرة) وطبعاً الإيطالي فيردي. وكانوا الثلاثة الأشهر بين موسيقيي أوروبا الغربية على أية حال. ولم يكن غريباً أن يقع اختيار دو لوكلي على صديقه ومواطنه فيردي ليس فقط لأنه كان الأشهر والأكثر شعبية في ذلك الحين بل لأنه حين وافاه دو لوكلي بالسيناريو الأصلي قبل أن يحدثه عن رضا الخديوي عن المشروع واستعداده للإنفاق عليه، كان رد فعل فيردي المباشر أن تساءل بدهشة عمن كتب ذلك النص معلقاً "يا إلهي كم هو نص مسرحي يعبق بالزينة والأجواء الرائعة! حسبه أن فيه موقفين أو ثلاثة مواقف تعبق بآيات الروعة والجمال!". وإزاء ذلك بات من الطبيعي أن يكلفه دو لوكلي بموسقة هذه الأوبرا. على رغم أن الوقت الباقي لإنجاز العمل كي يشارك في احتفالات قناة السويس وتفتتح به دار أوبرا القاهرة التي كانت تُبنى على غرار دار أوبرا غارنييه وسط منطقة العمران الهوسمانية في وسط باريس، كان ضيقا.

ألغاز محيرة

وبالفعل تضافرت صعوبات عديدة تمكنت من حرمان احتفالات افتتاح القناة من "عايدة" على رغم أن فيردي اشتغل على ألحانها بنشاط عجيب، لينتهي الأمر بتقديمها للمرة الأولى بعد الموعد المضروب بنحو عام وربع العام ومن دون حضور فيردي نفسه، استجابة لشروطه التي كان من أهمها أن يختار هو بنفسه قائد الأوركسترا الذي سيشرف على تدريب الموسيقيين بدلاً من فيردي الذي أصر على عدم زيارة القاهرة، مما ترك تساؤلات بالغة الأهمية عن الكيفية اتي تمكن بها من خلق كل تلك الألحان "المحلية" الرائعة التي ملأت ذلك العمل الفني الكبير وبدت إلى جانب المارش العسكري الافتتاحي المبتكر وكأن الموسيقي عاش أعواماً طويلة في تلك الناحية من العالم. ولعل تلك التساؤلات تبقى لغزاً فنياً كبيراً حتى يومنا هذا بقدر ضخامة اللغز الذي لا بد من حله لمعرفة لماذا رفض فيردي التوجه إلى مصر لإنجاز أوبراه الكبرى هناك، مكتفياً بأن يشهد عرضها الإيطالي الكبير الأول بعد ذلك بأكثر من عام آخر!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة