Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ثلج" رواية فرنسية تعتمد فن الهايكو الياباني

ماكسانس فيرمين يخوض لعبة التجريب بين السرد والشعر

الهايكو والثلج (صفحة الهايكو - فيسبوك)

ملخص

بعض الأدب، سواء كان رواية أم شعراً أم مسرحاً، يطرح إشكاليات، أو أنواعاً فرعية مولدة، تكون نماذج لغيرها إلى ما لا يحصى من الأعمال والتجارب المبتكرة. ومن هذه الأعمال رواية "ثلج" للكاتب الفرنسي ماكسانس فيرمين، وقد ترجمها إلى العربية الكاتب المغربي رشيد وحتي وصدرت عن دار النهضة العربية.

يقدم الكاتب الفرنسي ماكسانس فيرمين (1969) رواية "ثلج" في كونها رواية ذات عناصر وأركان باتت معروفة ومتداولة بين القراء في العالم أجمع، من حيث هيمنة السرد، وتكوين شبه العالم (المكان والزمان والشخصيات والأحداث)، ويكون النثر فيها النسيج اللغوي العام الذي به تحبك الأحداث، تقدم هذه الرواية الصغيرة (النوفيلا) "ثلج" الواقعة في 54 صفحة نموذجاً ينطوي على تحديات، وفرص كثيرة ومفارقات أيضاً. ومن تلك المفارقات أن أحداث الرواية تسري في مناخ شعري، عماده المعنوي شعر الهايكو الياباني وأدبياته، وظروف شيوعه، ومناخاته، وحتى فلسفته، وطبيعة قصائده، وشخصية الشاعر، ناظم قصيدة الهايكو. وبناءً عليه، لا يعدو القص كونه إطاراً فحسب للجوهر الشعري الذي خلق المبدع له بنيانه، على ما تدعو له فلسفة الهايكو الشعرية.

حبكة "ثلج"

تقوم رواية "ثلج" على حبكة بسيطة هي الآتية، ثمة شخصية رئيسة هي البطل يوكو أكيتا الياباني، الشاب المغرم بأمرين (الهايكو، والثلج)، وكان والده كاهناً على طريقة الشينتو. أما الإطار الزمني لما جرى للشاب يوكو فامتد من عام 1884، إلى زمن قريب من مطلع القرن الـ20. وبموجز العبارة، كان الشاب مولعاً بنظم الشعر على طراز الهايكو، وأنه كتب "72 قصيدة هايكو صيف عام 1884" (ص:4)، وذات يوم، وبينما كان في رحلة مع أبيه وسط قضاء هونشو، ويعبر قممه المكللة بالثلج، ومتأملاً في جمال بياضه، إذا به يكتشف جثمان امرأة بيضاء لا يزال على حاله، تحت غطاء من الجليد الشفاف. فما كان منه إلا أن وضع إشارة الصليب فوقه، ليستدل عليه عند العودة. ولما ذاع صيته، وقدم إليه راهب الإمبراطور طالباً منه قصائد يتلوها على مسمع الأخير، ولئن استحسنها فإنه رأى أنها جميعها بيضاء، تحمل في غالبيتها العظمى إشارات دالة على الثلج. وبناءً عليه، بات على الشاعر الفتي يوكو أن يضفي عليها ألواناً تكفل تحولها إلى صنيع فني رائق، ودعاه، في هذا الشأن، إلى أن يمضي إلى أحد معلمي الشعر الأشهر في اليابان، ويدعى سوزيكي. وإذ تلقف الفتى الشاعر تعاليم معلمه الفنان سوزيكي، أدرك أن الأخير أعمى، وأنه اكتسب معرفة عميقة في "التشكيل، والموسيقى، والشعر، وفن الخط، والرقص" (ص:24)، إلى أن بلغ مرتبة الفنان المطلق، وهو السبيل عينه الذي ارتضاه الشاعر يوكو لنفسه من أجل أن يصير شاعر الإمبراطور الخاص.

ولما آنس المعلم سوزيكي بالشاعر الشاب، وتوسم به خيراً، مضى يروي له ما جرى من علاقته الغرامية بامرأة أوروبية شابة، تدعى "ثلج"، وكانت من أشهر بهلوانيات في بلادها، تسير على حبل حديدي مسافة مئات الأمتار يكون مثبتاً بين طرفي جبل بعلو عشرات، بل مئات الأمتار. وحدث أن زارت الشابة البهلوانية، ثلج، في إحدى جولاتها الفنية اليابان، فأحبها سوزيكي، وكان لا يزال ساموراياً محارباً في جيش الإمبراطور، وكان عائداً لتوه من إحدى معاركه الدامية مع الأعداء. سلبت "ثلج" لب سوزيكي، لجمالها الفتان، ورقة سيرها على الحبل الحديدي، ولبياضها، فأقبل إليها طالباً التقرب منها والزواج، فقبلت للفور، واستقال في الحال من الجندية، منصرفاً إلى زوجته. وحكى له أيضاً أنهما رزقا بابنة جميلة، ولكن الزوجة الشابة، شاءت أن تعاود ممارسة هوايتها القديمة، بعد شيء من فتور في العلاقة بين الزوجين، وبينما كانت تسير على الحبل الممتد بين جبلين شاهقين، انقطع أحدهما، فهوت إلى قاع سحيق، في أحد الوديان الغارقة بالثلوج، وباءت كل محاولاته للعثور على جثمانها بالفشل. وعندئذ، أسر له الشاعر الشاب يوكو بمعرفته مكان المرأة النائمة "ثلج". أما البقية فمتروكة للقراء، وتوقعاتهم بنهايات سعيدة أو معقولة لكلتا الشخصيتين.

 الهايكو والسرد

للمرة الأولى، ربما، يصعد فن الهايكو، ويتقدم على فن الرواية، هنا. ذلك أن القصد الملازم لسرد الحكاية، ذات الأجواء اليابانية للقرن الـ19، وقد مضى على تأسيس الفن نحو قرنين من الزمن، فمن يلحظ وجود قصائد الهايكو، على رأس بعض المشاهد السردية في كلا الفصلين الكبيرين اللذين تتألف منهما الرواية، يدرك أن الغاية من القصائد هذه، هي ترسيخ مناخات الهايكو الداعية إلى الصمت، والاستغراق في اللحظة الحاضرة، بما فيها من فرادة سريعة الزوال في عالم الشخصيات أو الكائنات المعنية. وبناء على ذلك، لا تعود للتفاصيل الدقيقة التي كان يتطلبها السرد الروائي، الواقعي نوعاً ما، الأهمية الحاسمة في بنيان الرواية. وإنما تحيل قصائد الهايكو، باقتباساتها وبجعلها مادة لانشغال الشخصية الرئيسة يوكو بها، على عالم الشخصيات الداخلي فحسب، دون الخارجي. وتلك من خصائص الشعر، تضيف إليه الهايكو تركيزها على اللحظة المأخوذة ببساطتها المطلقة، ومحاولتها استخراج الشعر من المشاعر المبثوثة في كلماتها المنتخبة بعناية موسيقية ونغمية رائقة.

"ريح شتوية، راهب على طريقة الشينتو/ يشق طريقه في الغابة" (ص:2)، "صوت جرة الماء إذ انفجرت/ تجمد الماء هذه الليلة/ أيقظني" (ص:3)، "يلعبن بالطائرة الورقية،/ ببراءة،/ يفرجن بين سيقانهن" (طايجي، ص:6)، "برد نفاذ: أقبل زهرة شجرة/ البرقوق، في الحلم" (سوزيكي، ص:7).

الفنان المطلق

 لم ينتبه يوكو، وهو الشاعر الشاب المندفع إلى حياة عامرة بالحب والإبداع، إلى نقصان أعماله الشعرية، أعني قصائد الهايكو، إلا حين وضعت على ميزان النقد، من قبل العارفين، وقيل له إن قصائده بيضاء، أي فيها الثلج وحده، وأنه تنقصها الألوان حتى تفيض حياة، ويعترف بأوليتها. وأرسل إليهذا الغرض، كما تخبرنا الرواية، إلى أحد كبار معلمي الهايكو في الإمبراطورية اليابانية، في حينه، الشيخ الأعمى سوزيكي ليتعلم، على يديه، فن الهايكو الحقيقي والراقي، بيد أن المعلم لم يكتفِ بتصويب أسلوب الشاعر في كتابته القصائد، وإنما تجاوزه إلى تعيين وجهة، بل فلسفة جديدة لتناول الشعر، وتقوم على ارتقاء الشاعر من كونه فنان الهايكو حصراً، إلى كونه الفنان الكامل، الذي "يعرف التشكيل، والموسيقى، والشعر، وفن الخط، والرقص" (ص:24)، في ما يشبه مفهوم الفنان المطلق الذي جسده ليوناردو دافينشي، لخمسة قرون خلت (1452-1519)، في كونه رساما ومهندساً وموسيقياً، ومخترعاً، ونحاتاً، وفيلسوفاً وكاتباً، في الآن نفسه.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يطرح نجاح هذه الرواية للكاتب الفرنسي ماكسانس فيرمين، وترجمتها إلى أكثر من 14 لغة إلى حينه، أسئلة عديدة، لا تدعي هذه العجالة الإجابة عنها. وأول هذه الأسئلة، هل بات القراء، في الغرب، وربما في الشرق أيضاً، متشوقين إلى صنف آخر من الكتابات الروائية ينأى بهم عن مشكلات زمنهم التي لا تكاد تحصى؟ أم أن نوع الرواية، من حيث كونه قالباً فضفاضاً، وإطاراً يصهر فيه الكتاب كل ما أوتي لهم من معارف وخبرات وتجارب ونظريات في بنية سردية مقبولة - أو ذات صدقية معقولية، ومن تلك الخبرات والمعارف، ما يتصل بقصائد الهايكو، وبنشأتها على يد مبتكريها اليابانيين؟ أم تراها عودة إلى أحد روافد الرومنطيقية الشرقية (اليابانية) متمثلة بفن الهايكو، وإن يكن على يد كاتب غربي (فرنسي)؟ وأياً يكن فإن نوفيلا "ثلج" المترجمة إلى العربية بعناية وجمالية لافتة، على يد الكاتب والشاعر رشيد وحتي، جديرة بالنظر والاعتبار.

 للكاتب ماكسانس فيرمين أكثر من 20 عملاً روائياً وقصصياً، منها: "النحال"، "تاجرة الأحلام الصغيرة"، "لعبة البورسلين"، "وزن" وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة