Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العرافون يحترفون صناعة الوهم والناس يصدقونهم

عبر الحظ والمعلومات المتوجة بالصدفة يتحول التنجيم من كلام في الهواء إلى "حقائق" بنظر كثيرين

في لبنان البلد الذي يحيا على فوهة بركان حرب أزلية يتألق العرافون ليدلوا بدلوهم كل عام (اندبندنت عربية)

ملخص

في لبنان البلد الذي يحيا على فوهة بركان حرب أزلية يتألق العرافون ليدلوا بدلوهم كل عام. يظن البعض أنهم يستقون إلهامهم من علاقات وجهات معينة غالباً ما ترتبط بالاستخبارات. فيسمون شخصيات ويتحدثون عن أحداث وحروب قد يصدف أن يقع بعضها لتزيد من رصيد العراف وتقوية نقاطه على سواه، ويصبح حال اللبنانيين "فلان ظبطت معه".

على مد النظر وبحجم الخيال وربما أكثر ينتشر التنجيم والتبصير والتنبؤ والتوقع. إنها الحاجة الأزلية لمعرفة ماذا سيجري غداً. تتعدد الأساليب والأشكال والطرق ولكنها كلها تؤدي غرضاً واحداً: ماذا يخبئ المستقبل؟

وكأن المستقبل يقبع منتظراً أن تميط لثامه في بقايا البن في الفناجين المقلوبة أو أوراق التارو وأوراق اللعب أو بقراءة خطوط الكف وملامح الوجه والكرات البلورية والبخور أو بتتبع خريطة وحركة الكواكب والنجوم وربطها بمصائر الناس والشعوب.

ويبدو كل أسلوب إما يسخر من الأسلوب الآخر أو يعده مدرسة مختلفة لها أربابها. أما العلم فيقف بسخرية تامة أمام هذا المشهد الذي ينتحل اسمه أحياناً تحت مسمى علم الفلك أو علم الأرقام وعلوم أخرى... وعلى قمة هرم التنبؤات بالأساليب والأدوات يتربع أصحاب الإلهام من دون أداة خاصة إنما برؤى غامضة قد تجد أي حدث لتمتطيه وتحمل على ظهره سيف الحق.

قالوا وحدث... كيف؟

في لبنان البلد الذي يحيا على فوهة بركان حرب أزلية يتألق العرافون ليدلوا بدلوهم كل عام. يظن البعض أنهم يستقون إلهامهم من علاقات وجهات معينة غالباً ما ترتبط بالاستخبارات، فيسمون شخصيات ويتحدثون عن أحداث وحروب قد يصدف أن يقع بعضها لتزيد من رصيد العراف وتقوية نقاطه على سواه، ويصبح حال اللبنانيين "فلان ظبطت معه".

بغلاف من الغموض وبكثير من التأويلات الممكنة، كما فعل من قبلهم، يتحدث العرافون في لبنان عن الحرب وضربات قوية واغتيالات من الصفوف الأولى وأمراض وأوبئة. يغضبهم أن تسأل وتستفسر عن خبر ما، فالرؤية تأتي في سطرين اثنين أو بضع كلمات. نلعب مع القدر بألغاز، هو ذاته القدر الذي يخبرنا ماذا سيحدث، يخبرنا نصف المعلومة ويبخل علينا بالتفاصيل. وكلما حدث أمر مما توقعه العرافون تجدهم وإعلامهم وأتباعم وجمهورهم يقومون بإسقاطات واقعية حيناً و"فلكية" أحياناً.

لم يسم ميشال حايك المشهور بتوقعاته على سبيل المثال أسماء وأحداثاً بعينها بصورة واضحة، إنما بإيحاءات تحمل كثيراً من الاحتمالات. فقد قال في موعده السنوي ليلة رأس السنة إذ يتسمر الملايين وراء الشاشات التماساً لبشرى ما، إن إيران مخترقة بقوة، وإن هزتين كبيرتين بانتظار محور المقاومة والممانعة، تحدث عن الخطر على إسماعيل هنية من دون أن يشير إلى اغتياله، وتحدث عن اشتداد الضغط على الضاحية وداخلها وسراديبها والإطاحة بعمود فقري أساس في "حزب الله" وسواها من المعلومات أو الرؤى.

وقد فسر الأمر قبل اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله أن المقصود بـ"رؤية" حايك هو فؤاد شكر، وأن الغارة قد حصلت بالفعل في الضاحية. مما يجعلنا نستنتج أن تأويل الرؤية قد يحتمل تفسيرات عديدة، إذ يمكن القول عن شكر إنه عمود فقري في "حزب الله"، كما يمكن القول عن عدد من مسؤولي الصف الأول لدى الحزب أو أمينه العام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومثله في سبتمبر (أيلول) الماضي أطلت العرافة ليلى عبداللطيف في لقاء إعلامي لتتوقع عملية اغتيال كبيرة، وقالت، "إنها ستكون أكبر وأخطر من حجم وطريقة اغتيال رئيس حركة "حماس" إسماعيل هنية. لتفسر لاحقاً بعد اغتيال نصرالله أنه كان المقصود بتوقعها.

ولكن إذا اعتبرنا أن توقعها هذا قد تحقق بالفعل، فلا ينسى أحد إصرارها على أن النائب والوزير السابق جان عبيد سيكون رئيساً للجمهورية عام 2021، وهي ذكرته بالاسم أكثر من مرة مؤكدة أنه سيصل إلى قصر بعبدا. إلا أن عبيد وافته المنية في فبراير (شباط) من العام نفسه. وفي ردها على الانتقادات التي طالتها قالت "لو أصبت 99 مرة وأخطأت مرة واحدة لعاتبوك بالواحدة وتركوا الـ99، هؤلاء هم البشر".

هذه الأمثلة قليلة من توقعات كثيرة لبلدان وشخصيات عدة من سياسيين وفنانين وشخصيات عامة.

ما قاله ميشال حايك أو ليلى عبداللطيف قابله الجمهور اللبناني بردود فعل مختلفة بين مجموعة اندهشت لما سمعته ورأته وأخرى سخرت وعدت أنه من السخافة تصديقهم أو الترويج لهم، لكن المؤكد أن فيديوهات لهم وفيها تنبؤات ذكروها سابقاً، انتشرت كالنار في الهشيم خلال الأسبوع الماضي. حتى إن مقاطع لهم باتت أهم من الحدث نفسه، من مشاهد القصف والغارات، وكذلك تحولت أسماؤهم لـ"تريند" في كثير من الدول العربية.

المجد الإعلامي

من السهل أن تنسب نجاحات توقعات المنجمين إلى الصدفة، لكن من يذكر أن الإعلام بشتى أنواعه أسهم في تضخيم مكانة هؤلاء المنجمين، وجعل من تنبؤاتهم مادة دائمة للنقاش والتداول. وبينما ينظر البعض إلى توقعاتهم على أنها تسلية ومحل سخرية وازدراء يجد فيها آخرون بصيصاً من الأمل أو الحذر.

وهنا مشهد الانتظار هو نفسه من الصحف والمجلات التي تزخر بالأبراج وقراءة الطالع إلى التوقعات السنوية لكل برج أو شخصية عامة أو حتى دولة ما، إذ ينتظر ملايين المشاهدين ليلة رأس السنة، وتتنافس المحطات لاستضافة أو ربما التعاقد مع "نجوم" التوقعات، إلى الفقرة التي تبدو أكثر سوريالية بعرض ما حدث من توقعات بالفعل أو بالأحرى إسقاط التوقع على حدث ما بطرق ملتوية أحياناً وذكية في أحيان أخرى.

المجد الملكي والسياسي

تسلل المتنبئون والمنجمون إلى قلوب الملوك والحكام، مدعين قدرتهم على استشراف المستقبل. في حين أن العلم يرفض هذه الادعاءات، إلا أن المنجمين حجزوا لهم مقعداً بين القيادات، ليس لأنهم يمتلكون قوة سحرية، بل لأن الحكام كانوا مستعدين لتصديق أي شيء يعزز قوتهم أو يفسر لهم تقلبات القدر.

بدأ التنجيم منذ آلاف السنين، مع الحضارات القديمة في بابل ومصر. وعلى رغم ازدهار علم الفلك في بلاد ما بين النهرين ولدى الإغريق والهنود وشعوب المايا وغيرها من الحضارات القديمة التي رصدت الكواكب والفضاء لفهم الظواهر الطبيعية، فلقد عمل البعض على ربطها بمصائر الناس. فكان الملوك والحكام في تلك الفترات يستعينون بالمنجمين لتفسير الأحلام وقراءة مواقع النجوم بل وحتى اتخاذ قرارات مصيرية. كانت آلية التنجيم تعتمد على مزيج من العلم البدائي والتخمين الذكي. يراقب المنجمون السماء ويعملون على تحديد مواقع النجوم والكواكب وربطها بأحداث معينة في حياة البشر. فكانت ظاهرة اقتران كوكب زحل والمشتري تعد نذير شؤم أو فأل خير، بحسب الظروف.

أما في بعض الأحيان فكان الأمر أبسط من ذلك قراءة الطالع باستخدام أوراق اللعب أو الأحجار. قد يسخر المرء اليوم من تلك الأدوات، لكنها في ذلك الوقت كانت تمثل نوعاً من العلم الغامض. ومع ذلك الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن المنجمين كانوا أذكياء بما يكفي لقراءة نفسية الحكام، واستخدام الغموض لخلق انطباع بأنهم يعرفون أكثر مما هو ظاهر.

كان الملوك يرغبون في معرفة المستقبل، خصوصاً في أوقات الحروب والصراعات الداخلية. وكان المنجمون يقدمون لهم خدمة مستقبلية لم يكن بوسع أي شخص آخر تقديمها. لم يكن الأمر يتعلق فقط بالمستقبل الشخصي للحاكم، بل بمستقبل المملكة أيضاً واقتصادها وعلاقاتها الدبلوماسية، وصولاً إلى مصير المعارك. فكان منجم القصر يتمتع بنفوذ كبير، إذ كان قادراً على التأثير في قرارات مصيرية.

في أوروبا عبر العصور كانت العائلات الملكية تستعين بالمنجمين والمتنبئين، وكان للملكة إليزابيث الأولى منجمها الشخصي الكيماوي جون دي الذي كان يتمتع بمكانة خاصة، فقد كان يعتقد أن له قوى خارقة تؤهله للتأثير في الأحداث السياسية الكبرى.

وعلى رغم تبوؤ المنجمين مكانة عالية في القصور فإنهم تعرضوا لانتقادات شتى. وتعد قصيدة أبي تمام عن فتح عمورية من أكثر القصائد العربية التي سخرت من المنجمين الذين يدعون قراءتهم للنجوم وهي بالواقع منهم براء. إذ يقول في أحد الأبيات

"السيف أصدق إنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب...

أين الرواية بل أين النجوم وما

صاغوه من زخرف فيها ومن كذب...

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة

إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب...

يقضون بالأمر عنها وهي غافلة (المقصود عن النجوم)

ما دار في فلك منها وفي قطب".

ولم ينج المنجمون من سخرية وهجاء أبي العلاء المعري منتقداً الجهل الذي يدفع البعض إلى تصديق المنجمين إذ قال:

"أخو الجهل يرمي الشر من حيث يعجز

ويحسب أن الأمر باد لمنجم"

ويردد كثر عبارة لا يعرف أصلها "كذب المنجمون ولو صدقوا"، وربما هي من التراث العربي الشفهي الذي تناقلته الأجيال.

الكوكب يلعب دور المستشار

لم يكتف العرافون والمنجمون بالعيش في الخرافات الشخصية اليومية، بل تدخلوا أيضاً في السياسة، وأحياناً بتأثير لا يستهان به. هناك قصص عن زعماء وقادة تاريخيين كانوا يستشيرون العرافين قبل اتخاذ قرارات مهمة.

أحد الأمثلة الشهيرة، رغم نفيها لاحقاً، حيث ظل مشكوكاً بأمرها كان رونالد ريغان الرئيس الأميركي الأسبق وزوجته نانسي اللذان كانا يستشيران عرافة تدعى جوان كويغلي. بعد أن استدعتها نانسي التي كانت تعتقد أن كويغلي يمكنها التنبؤ بالأحداث الكبيرة والتأثير في مستقبلهم السياسي. حتى إن بعض القرارات الرئاسية كان يتم توقيتها بناءً على نصائحها الفلكية، وكأن النجوم كانت تمسك بالمفتاح السحري للأمور السياسية العالمية.

ويكفي أن تشاهد أي مسلسل أو فيلم أو سيرة عن الملوك إلا وتجد دوراً لعراف القصر، ومنها على سبيل المثال آخر قيصر روسي نيكولا الثاني وزوجته ألكساندرا التي جعلت الراهب غريغوري راسبوتين يتحكم بقراراتها بعد أن أسهم في علاج ابنها. وكان راسبوتين يتنبأ مدعياً أن وحياً إلهياً يحذره أو يساعده.

وفي زمن أبعد اشتهر الصيدلاني والمنجم الفرنسي ميشال دي نوستردام الذي توفي عام 1566 وعرف باسم "نوستراداموس" بتوقعاته. حيث يحوي كتابه "النبوءات" على توقع أحداث في زمنه وحتى نهاية العالم الذي حدده في العام 3797 ميلادي، على صورة رباعيات شعرية عددها 942. ولشدة شهرته لا يزال اسمه حتى اليوم مثلاً يكنى به العرافون حول العالم، إذ أصبح الاسم صفة للتوقعات التي تحدث، وأصبحنا نسمع بنوستراداموس الشرق، ونوستراداموس العصر وسواها من الأماكن والأزمان الموصوفة. ومن أبرز توقعاته الثورة الفرنسية، وظهور شخصية الزعيم الألماني أدولف هتلر وجائحة كورونا وحريق لندن، وأحداث 11 سبتمبر وغيرها من التوقعات ذات الصلة بالفيضانات والجفاف والحروب وسواها. وبالطبع خضعت نبوءاته لإسقاطات كونه يحيطها بالغموض مثل باقي العرافين.

واشتهر أبومعشر البلخي بوصفه منجماً عربياً في العصر العباسي، كان له تأثير كبير في الفلسفة الإسلامية والعلوم الفلكية والرياضيات، واستشاره عدد من الخلفاء. وعده كثر عالماً ومستشاراً ومنجماً.

لكن لماذا نصدق العرافين؟

لا شك أن العقل البشري معقد، ولكن من أبسط غرائزه هو عدم القدرة على مواجهة عدم اليقين. فالإنسان منذ أول لحظة إدراك يسأل نفسه ماذا سيحدث غداً، ولكن بما أن الحصول على إجابة حقيقية أمر مستحيل لجأ إلى العرافين. ثم يأتي دور الخوف. الخوف من المستقبل، من الغد، من الفشل. هذه العوامل تجعل الناس يتعلقون بأي شخص يدعي معرفة المستقبل. من دون أن ننسى الأمل في أن يكون المستقبل أفضل، الأمل في أن يكون النجاح قاب قوسين أو أدنى. هذه المشاعر تجذب الناس نحو العرافين بنهم. ويلتقط العرافون هذه الإشارات (عدم اليقين، الخوف، والأمل) وينسجون القصص على أوتارها. وما يجعل العرافين ساحرين إلى جانب صوتهم الخافت ونظرتهم المتأملة في اللاشيء، هو قدرتهم على تقديم تنبؤات عامة وغامضة بحيث يمكن لأي شخص أن يجد فيها ما يناسبه. هذه التقنية تسمى ـ"تأثير بارنوم" أو "التعميم الذي ينطبق على الشخصية" ويكون تحت تأثيرها الناس الأكثر عرضة للسحر والخرافات.

يبدو أن العرافة مهنة لا تموت. في كل عصر يجد الناس أنفسهم يعودون إليها كما يعودون إلى وصفات جداتهم لمداواة نزلات البرد. التكنولوجيا تقدمت لكن الخوف من المستقبل لم يتغير، والأمل في أن يكون هناك حل سحري لحياتنا يبقى حياً. فما دام هناك من يخشى ما يحمله الغد ويرغب بسماع ما يريحه، سيبقى العرافون يجوبون الأدمغة من العصور القديمة إلى قنوات البث المباشر حاملين كراتهم البلورية التي أصبحت على صورة هواتفهم الذكية!

ولا بد من الاعتراف بأن حكاية المنجمين هي مجرد دليل على رغبة الإنسان في السيطرة على مصيره، حتى لو عبر طرق وهمية. وعلى رغم أن العلم أثبت بطلان مزاعمهم، فإن تأثيرهم في التاريخ لا يمكن إنكاره. سواء كانوا مستشارين للحكام أو ينتظرهم الناس. سيظل المنجمون جزءاً من حكاية البشر مع النجوم.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات