ملخص
تسللت حمى "الترند" التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي إلى الجمهور العريض، وأصبحت تتقاسم مع وسائل الإعلام اهتمام الناس، وتشدهم إليها في فترة محدودة في الزمن من دون أن تعلق في الأذهان لأنها سليلة لحظة عابرة.
يجتاح "الترند" أو ما يعرف بالأحداث الأكثر تفاعلاً على منصات التواصل الاجتماعي مختلف وسائل الإعلام، وبات مادة حيوية وقودها التهافت على التقاط الحدث والتعليق عليه ومشاركته، حتى لا يفوتها الركب وتبقى وسائل الإعلام خارج السرب وتخسر رصيدها من الجماهيرية.
تسللت حمى "الترند" التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي إلى الجمهور العريض، وأصبحت تتقاسم مع وسائل الإعلام اهتمام الناس، وتشدهم إليها في فترة محدودة في الزمن من دون أن تعلق في الأذهان لأنها سليلة لحظة عابرة.
فإلى أي مدى يؤثر "الترند" في الخطاب الإعلامي والثقافي؟ وهل هي حالة صحية أم عاهة تشوه المضامين الإعلامية والثقافية؟
هي جملة من الأسئلة التي تتشكل في رحم المهنة الصحافية، وتخامر كل من يمارسها، والإعلام العربي اليوم يواجه تحولات لا ينكرها إلا جاحد، منها ما هو هيكلي لأن هذا القطاع يتغير من الداخل، ويتخلص من ثقله الكلاسيكي لينساب في محيطه الجديد سلساً بلا صعوبات.
وهو أيضاً يتأقلم مع التحولات المحيطة التي ابتكرتها وسائل التواصل الاجتماعي التي أغرقت المشهد بعناصر جديدة هي في الواقع مزيج بين الخبر والتعليق والزيف، تنثر هذه الوصفة رذاذها على المشهد، فتحدث به جلبة تشرئب إليها الأعناق بحثاً عن الطرافة وإشباعاً لرغبة النفوس في التلصص حيناً وفي الاكتشاف أحياناً أخرى.
يتفاعل الخطاب الإعلامي العربي اليوم مع محيطه المشبع بـ"الترندات" التي تغزو المشهد، وما عليه إلا أن يتعاطى معها حيناً بالتمعن والتحري، وأحياناً كسند ينطلق منه نحو فكرة أرحب أو مضمون أعمق.
وتهدف شبكات التواصل الاجتماعي إلى تجميع كم هائل من بيانات المستخدمين من أجل توفير بيئة مكثفة ومعقدة من الإغراءات التي تدفعهم إلى المكوث مطولاً على مواقعها، بالمشاهدة والمشاركة من أجل تعزيز التصفح وجعله سلسلة حلزونية لا متناهية، ففي كل لمسة للشاشة هناك الجديد الذي ينتظرك من خلال صور وأخبار ومنشورات ومقاطع فيديو جديدة تجعل المتصفح يلهث بلا نفس وراء خيط سحري ناظم من فوق إلى تحت فوق سطح شاشة الهاتف.
يندفع المتصفح عند سماع خبر أو تلابيبه إلى مواقع التواصل الاجتماعي لاهثاً وراء الخبر وتفاعلاته، غير مبال بمصدر ذلك الخبر ومدى صدقيته ووثوقية من نشره، لا يهم، ما يهم الآن وهنا، هو حجم التعليقات التي يشبع بها نهمه إلى ما يحيط بالخبر وكيف تفاعل الجمهور معه.
في أحيان كثيرة الخبر في ذاته غير مهم، بقدر ما يهم تفاعل الناس معه، وخصوصاً كيفية مشاركته والصفحات التي تنبهت إليه وتبنته فنشرته، والتعليقات عليه ومدى تفاعل "فلان" (نجم رياضي أو فنان) فيديو معه، هكذا تتكثف التفاعلات وتكبر كرة الثلج، وتصبح المسألة حديث الناس، وما يهم الناس يهم الإعلام، فتنساب "الترندات" إلى غرف الأخبار والمضامين الإعلامية البرامجية لتصبح مادة وخبراً وتعليقاً وربما قضية رأي عام.
الترند يصنع الخبر ويدفعه إلى الصدارة
ويعتبر الإعلامي والكاتب خالد كرونة أن "عبارة "ترند" المتولدة عن انزياح لغوي وافد من عالم المال والأعمال، باعتباره كان دليلاً على اتجاهات السوق إلى عالم الميديا، جعله محملاً بدلالات يختلط فيها الظرفي بـ"الواسع الانتشار"، ذلك أن "الهاشتاغ" أو "الفيديو" أو غير ذلك من مادة "الترند" لا تعرف انتشاراً واسعاً فحسب، بل زوالاً سريعاً نسبياً، على رغم كثرة المشاركات والتعليقات ووفرة علامات الإعجاب.
ويشير كرونة إلى أن تحولاً خطراً طرأ على العلاقة بين الخطاب الإعلامي الذي تنتجه تقليدياً الصحف والإذاعات والتلفزيونات، وبين "الترند" باعتباره موجة تعلو ضمن الفضاء الافتراضي على المنصات المختلفة، فبعد أن كان المحتوى الرقمي يستند إلى ما يتداول في الوسائط التقليدية، أضحى هو نفسه يتبع اتجاهات "الترند" ويقع ضمن تأثيراته، بعد أن باتت "الميديا الجديدة" أوسع انتشاراً وأكثر تأثيراً.
إن تأثير ما يشيع في "الترند" في الخطاب الإعلامي تجاوز مستوى اختيار المواضيع التي يتناولها وبلغ حد صياغة المفردة وإنشاء الخطاب، أي أن تأثير "الترند" يتعدى فرض ترتيب محدد لمواضيع يدفع بها إلى الصدارة، إلى رسم وسائل التعبير وزاوية النظر في تناول هذا الموضوع أو ذاك، وبخاصة إذا اتصل الأمر بمسائل ذات أثر وجداني بالغ مثل بعض مشاهد الطفولة في الحروب والنزاعات، أو صنع نماذج للبطولة (الفدائي ذي المعطف الطويل في معركة طوفان الأقصى) أو للفيض الإنساني (الأمومة والطفولة) ، مثل ذلك الترند الذي ترك أثراً كبيراً وبطله طفل سوري "يعلن" أنه "سيخبر الله بكل شيء"، وفق كرونة.
ويرى المتحدث أنه بصرف النظر عن تداعيات هذا التأثير المتعاظم لــ"الترند" على الخطاب الإعلامي (موضوعاً وتناولاً)، فإنه مؤشر على تحولات عميقة، فبعد أن تهاوى عرش الصحافة المكتوبة، وتزعزعت مكانة الإعلام السمعي، باتت "الميديا" الجديدة بـ"ترنداتها" تهدد التلفزيون أيضاً، لأنها تعتمد خطاباً وجيزاً "هاشتاغ" أو فيديو قصيراً ويكون محملاً سريع النفاذ وواسع الانتشار، بفضل استخدام الإنترنت، ونتيجة لنشأة علاقة جديدة بين طرفي الخطاب، الباث والمتقبل ترتكز على التكثيف من جهة، وعلى "بلاغة الصورة" أو "الانطباع الموحد" إذا تعلق الأمر بـ"هاشتاغ".
وينبغي الإقرار بأن تأثير "الترند" فاض عن الخطاب الإعلامي، ليصير ذا أثر في الخطاب الثقافي عموماً، فمسرحيات كثيرة تستلهم في نصوصها بعضاً مما عرفه الناس عبر "الترند"، والأمر نفسه ينسحب على نصوص قصصية أو روائية تستبطن بوعي من كاتبها أو من دون وعي، تأثيرات "الترند" ويلقى استحساناً من المتلقي، وفق المتحدث.
ويخلص كرونة إلى أن "هذا المبحث ما يزال بكراً، يغري المتخصصين في علوم الإعلام والاتصال، ويهم أيضاً اللغويين ممن يعكفون على دراسة أصناف الخطاب المستخدم، مثلما ينبغي أن يكون مركز اهتمام الأبحاث الأنثروبولوجية والاجتماعية خصوصاً في نسق التحولات في ذهنية المتلقي".
اغتيال حقيقي للمهنة
في المقابل يتمسك آخرون بكون الخطاب الإعلامي يتأثر لا محالة بمحيطه، إلا أن ما يضبطه من معايير متينة وضوابط صارمة، لا يمكن للترندات أو غيرها أن تزعزعه من مكانه، داعين إلى تحصين الخطاب الإعلامي من شوائب ما تفرزه التواصل الاجتماعي من فقاقيع محدودة في الزمن على رغم تأثيرها في الجمهور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد الإعلامي والباحث في العلوم السياسية محمد صالح العبيدي أن "الترند" هو "أنموذج غريب عن الأنماط الصحافية التقليدية، ويعبر عن حالة كسل ذهني باعتباره يتعامل مع المواد السهلة التي تثير الغرائز من أجل جلب نسب أكبر من المتابعة"، مضيفاً أنه "قتل المضمون الجوهري للصحافة التي تهدف إلى مرافقة الجمهور في فهم الأحداث، وأصبح الخطاب الإعلامي منساقاً وراء المواضيع التي تثيرها التواصل الاجتماعي".
ويردف العبيدي "أن الاستمرار في تثمين هذا الجنس الهجين لدى وسائل الإعلام بما فيها وسائل الإعلام الدولية المحترمة، هو بمثابة إتاحة الفرصة للغوغاء أن تصبح جزءاً من الحقيقة التي يجب التعامل معها"، مشيراً إلى أن عدداً من الباحثين يعتبرون أن "الترند" مادة سطحية يجب أن تكون في ذيل ترتيب الأخبار، واصفاً ما يحدث أحياناً من تصدر "الترند" للمضمون الصحافي بأنه اغتيال حقيقي للمهنة وتهميش لدور الصحافي كمؤطر اجتماعي لنقل الأحداث.
ولا يخفي الإعلامي والباحث في العلوم السياسية محمد صالح العبيدي أنه "في بعض المقالات البحثية يمكن اعتماد "الترند" كمادة إحصائية لتوجهات الجمهور، كما أنها عنصر أساس، في أية قراءة علمية تبحث عن تفكيك وتشريح اهتمامات الرأي العام".
"الترند" يعيد تشكيل الخطاب
بين من يقر بحقيقة التأثير القوي لـ"الترند" في المضامين الإعلامية وتوجيهها أحياناً الوجهة التي يريد، وبين من يعتبره شكلاً هجيناً مصيره الزوال، هناك من يرى أن صيرورة الخطاب الإعلامي مرهونة بمدى تفاعله مع محيطه.
وتعتبر الباحثة الفلسطينية في علوم الإعلام والاتصال رواء خزندار أن التطور السريع لتكنولوجيا المعلومات يخضع المضامين الإخبارية لتحولات غير مسبوقة، مشيرة إلى أن "الترند" يعيد تشكيل الخطاب الإعلامي، ويغير تدريجاً وجه الاتصال الإخباري التقليدي.
وتضيف خزندار أن "الترند" يعزز الابتكار في الخطاب الإعلامي، ويؤثر أيضاً بعمق في البحث النظري والتطبيقي في دراسات الصحافة والاتصال، فهو يكسر قيود وسائل الإعلام التقليدية، مما يسمح بتقديم محتوى إخباري بأشكال أكثر تنوعاً، علاوة على تلبية الاحتياجات المختلفة للجمهور.
لقد أصبح الاتصال عبر أنظمة التواصل الاجتماعي التفاعلية أساساً في صناعة الخطاب الإعلامي، من خلال عنصري الانتشار والمشاركة، مما أسهم في تحسين صورة مختلف المحامل الإعلامية التقليدية من راديو وتلفزيون وحتى صحف إلكترونية، وتقريبها أكثر من الجمهور.
وتدعو الباحثة الفلسطينية في علوم الإعلام والاتصال إلى "تعزيز المهارات واستكشاف مسارات ونماذج جديدة لنشر الأخبار في الممارسة المستقبلية للصحافة والإعلام، من خلال دراسة خصائص وقوانين تقارب وسائل الإعلام بصورة معمقة، وتدريب الكفاءات الصحافية عالية الجودة القادرة على استيعاب هذه التحولات في قطاع الإعلام".
وتقر خزندار بأن "هناك معايير جديدة في الخطاب الإعلامي في فلسطين، ومنها الأعمال العسكرية للمقاومة، من خلال التركيز على الصور والفيديوهات بالدرجة الأولى والمؤثرات الصوتية، وملصق المثلث الأحمر الذي يعد من الأخبار الأكثر رواجاً، إضافة إلى المشاهد الصادمة لما لها من تأثيرات محلية وعالمية في الجمهور".
وتضيف خزندار أن صحافة المواطنة في غزة استبطنت شكل "الترند" في نقل الأحداث والوقائع في غزة كما هي من دون مؤثرات إلا أن صدمة الجمهور جعلت من المحتوى "ترند"، وذلك عبر خاصية المشاركة وإعادة تدوير المحتوى بعرض بعض المشاهد والتعليق عليها أو الاكتفاء بالبكاء وقول مصطلح "لا تعليق" أو "أترك لكم التعليق".
وتجزم الباحثة في علوم الإعلام والاتصال أن الصور والفيديوهات المصحوبة بعبارات قوية مثل "لأصحاب القلوب القوية"، أو "قبل الحذف" كان لها دور فعال في تحويل المحتوى إلى "ترند".
بينما تعمل "الميديا" الاجتماعية على إشباع حاجات الأفراد الاستهلاكية من الأخبار والفيديوهات والصور، يفتقد الجمهور المتلقي إلى خطاب التثقيف والإخبار والترفيه الذي هو من صميم أدوار الخطاب الإعلامي المؤسس، من خلال أسئلة عميقة وجوهرية تسهم في تأثيث الفضاء العام بنقاش ثري، حتى لا نركن إلى مسلمات تقر بأن المجتمع الحديث أصبح يميل إلى كل ما هو مختصر وسطحي.